لا يعيش ذوي الاحتياجات الخاصة يومهم بشكل طبيعي، هم يحتاجون للمساعدة وتكييف منازلهم لتناسب الصعوبات التي يواجهونها، لأجل ذلك تربط أسرهم نفسها بما يتوافق مع تلك العقبات، خاصة في ظل انعدام البنى التحتية الخاصة بظروفهم، سواء داخل المنازل أو خارجها.
ومع الزلزال كانت خياراتهم محدودة بين النجاة أو البقاء في انتظار مصيرهم، رافق ذلك المصير أشخاص من عائلاتهم توحّدوا معهم، نعيش أو نموت معاً، كان لسان حالهم، قبل أن تبدأ رحلة ما بعد الزلزال بما فيها من مصاعب، بدء من حياة الخيام والطرق الوعرة وصولاً إلى الحمامات والمراحيض..
لا توجد إحصاءات رسمية بعدد المتوفين أو الناجين من ذوي الاحتياجات الخاصة في الزلزال، الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط الماضي، بحسب حميد القطيني، مسؤول التواصل في الدفاع المدني السوري، لكن دراسة سابقة بعنوان “أوضاع الإعاقة في شمال وشمال غرب سوريا واستراتيجية التصدي لها”، أجريت قبل عامين، أوضحت أن أن 25% من الأسر في شمال غرب سورية لديها على الأقل طفل من ذوي الإعاقة أو أكثر.
وحددت الدراسة عدد الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة (الإعاقات الشديدة) بـ 146.468 شخصاً، ويمثلون ما نسبته 5.48% من ذوي الاحتياجات الخاصة بمفهومها الأوسع والبالغ عددهم أكثر من 748 ألف شخص. 1.51% يسكنون في مخيمات شمال وشمال غرب سوريا.
نعيش أو نموت معاً
كان من المستحيل في لحظات الزلزال الأولى حمل الفتاتين، إناس وفاطمة، من منزلهما في الطابق الخامس بمدينة سلقين إلى الشارع. تروي والدة الفتاتين المصابتين بفرط النمو والذي زاد من وزنهما بشكل كبير: “تصدع البناء الذي نسكنه وتساقطت أجزاء منه، أدرج فيما بعد من المنازل غير الصالحة للسكن، لكنه ولحسن الحظ لم يسقط”.
في المبنى، حيث تقيم الفتاتان، سبعة حالات من ذوي الاحتياجات الخاصة، تضيف الوالدة “عند حدوث الزلزال احتضنت إيناس وفاطمة كل منهما الأخرى، كان الموقف عصيباً والذهول أصابنا جميعاً. للحظة خرج الجميع من المنزل وآثرت البقاء مع طفلتيّ، احتضنتهما أنا أيضاً وطلبت من الجميع الابتعاد عن المكان”.
مرّ الوقت طويلاً في الدقائق التي تلت الزلزال، كل شيء كان يتحرك، جدران الغرفة تشققت، قبل أن يصل سكان في المنطقة رفقة أبناء السيدة ويحملون الفتاتين إلى الخارج، لا تملك العائلة كراس متحركة أو ما يساعدهم في الصعود والنزول، كانت عملية إنزالهما وسط هذا الخوف وعدد الطوابق مسألة معقدة، تصف السيدة ما حدث.
يقول عبد الله الشقيق الأكبر لإناس وفاطمة “كان وزنهما ثقيلاً جداً، وكانتا خائفتين جداً، بعد إخراجهما نقلناهما إلى المستشفى، أصيبتا بانهيار عصبي كما شخص الأطباء، بقيتا لأسبوع كامل دون شراب أو طعام وحتى كلام، والاكتئاب سيطر عليها قبل أن تتحسن حالتهما الصحية وننقلهما معاً إلى خيمة ضمن مركز إيواء في بلدة باريشا، لتبدأ رحلة أخرى من الصعوبات التي تعانينها.
أن تقف عاجزاً، عبارة كررها مصطفى، رب أسرة لأربعة أطفال لا يزيد عمر أكبرهم عن سبع سنوات، خلال حديثنا معه. يقول مصطفى، فقد إحدى قدميه وأصيبت القدم الأخرى في استهداف لمنزله منذ أربع سنوات، وهو يحاول النهوض على عكازين يساعدانه على الوقوف والحركة: “استيقظت على اهتزاز الأرض تحتي، حاولت الوقوف لكني عجزت عن ذلك، فطلبت من زوجتي أن تحمل ما تستطيع من الأطفال وتنجو بهم إلى الشارع.. زحفت إلى مدخل بيتي في مدينة سرمدا.. صرخت طالباً المساعدة، لكن جميع السكان كانوا مشغولين بأنفسهم وأطفالهم للهرب من المكان”.
حملت زوجة مصطفى طفلين من أطفالها، يكمل مصطفى “كان همي الأول إخلاء أفراد أسرتي، لم أكن ألتفت إلى نفسي، وشعرت بتأنيب الضمير حيال عجزي عن تلبيتهم بعد اقترابهم مني مذهولين وسؤالهم لي.. بابا شو منعمل هلق”؟.
“طلبت من ولديّ اللحاق بسكان المبنى إلى الشارع.. وانتظرت مصيري وحيداً في المنزل الذي تصدّع، لكن الاهتزاز توقف دون أن أصاب بأذى، أنا أو أي أحد من عائلتي.. حينها فقط استطعت التقاط أنفاسي..”.
بقيت ربا متجمدة في مكانها دون حراك تنتظر من يأخذ بيدها لإنقاذها. وتشكو الطفلة، أحد عشر عاماً، من فقدان بصرها بشكل كامل منذ أن ولدت، وتعتمد في تحركها داخل المنزل على أفراد عائلتها وحفظ تفاصيل المنزل. ومع حدوث الزلزال تكسر زجاج البيت ما أعاق تقدمها لتتعرض للجروح، يقول والدها إن هذا المشهد سمّره في مكانه، “كان وقعه عليّ أقسى من وقع الزلزال نفسه، رأيتها ترتجف في مكانها، الدماء تسيل من أطرافها وهي تصرخ بأسمائنا لإنقاذها.. حملتها وخرجت بها بعيداً عن المكان”.
تقول ربا التي أصيبت بانهيار عصبي فرض نقلها إلى المستشفى، حيث أمضت هناك ثلاثة أيام: “ظننت أنها القيامة، استيقظت على تحرك الأرض تحتي ووقع أقدام أخوتي خلال الممر وصراخهم، حاولت الوقوف والتحرك الى الباب الا أنني سقطت نتيجة تعرقلي بقطع زجاج كانت قد انكسرت بالأرض”. كتب لإناس وفاطمة ومصطفى وربا النجاة، والنزوح مجدداً، لكن الحظ لم يسعف محمود ووالده، فقضيا تحت ركام منزلهما.
الصوت كان مؤشر البحث عن العالقين تحت الأنقاض، ووصفت جملة “انقطع الأنين” انتهاء عمليات الإنقاذ في المناطق التي ضربها الزلزال، لكن محمود يعاني وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة ويشكو من صعوبة في النطق، ربما حالت دون وصول صوته إلى من ينقذه.
من يعانون من الصم والبكم، أكثر ذوي الاحتياجات الخاصة من العالقين تحت الأنقاض معاناة، ذلك أن صوتهم لم يصل، يقول من تحدثنا معهم من عائلة الطفل محمود “نزلنا إلى الشارع بعد أن حسم والدي الجدل ببقائه ومحمود في المنزل وخروجنا نحن إلى الشارع.. لم نكد نصل خارج المبنى حتى تهدمت الطوابق الخمسة تاركة محمود ووالدي تحت الأنقاض.. صرخنا عليهم علّنا نصل إلى صوت يشير إلى حياة لكن دون جدوى”.
بعد ثلاثة أيام انتشلت فرق الإنقاذ جثمان محمود ووالده، كانا قد فارقا الحياة دون القدرة على إنقاذهم، ربما لو كان لمحمود صوت لنجا، تقول عائلته وهي تخبرنا أن فرق الإنقاذ عملت ما بوسعها لكن آليات البحث عن ناجين كانت ضعيفة ومتشابهة ولم تراع ذوي الاحتياجات الخاصة.
الخيمة لا تصلح سكناً
تقدر الدراسة السابقة ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يسكنون المخيمات بنحو 1.51%، وهي نسبة قليلة مقارنة بمن توجه للسكن في منازل مستأجرة. ويرجع ذلك لصعوبة الحياة في المخيمات على ذوي الإعاقة وصعوبة تكيفهم مع الحياة داخل الخيمة، لافتقار المكان للخدمات العامة المناسبة لحاجتهم من الطرق والمدارس الخاصة بهم والخدمات الصحية، وتعدّ الحمامات والمراحيض التي تناسب حالتهم الصحية في سلم الأولويات المفقودة.
يقول والد إناس وفاطمة إن رحلة جديدة من المعاناة بدأت مع انتقاله وعائلته إلى مخيم في بلدة باريشا، وإن الفتاتان اعتادتا تفاصيل منزلهما السابق بعد تجهيزة لتسهيل وصولها إلى الخدمات والمرافق داخله، لكن الحال هنا مختلف جذرياً، ويقع على عاتق الأسرة أعباء إضافية اليوم في إيصالهما إلى ما تحتاجانه.
لا شيء في مركز الإيواء والخيام التي بنيت لاستيعاب متضرري الزلزال في باريشا يميز ذوي الاحتياجات الخاصة عن غيرهم من القاطنين، فجميع المساكن متطابقة، ولا اختلاف بينها سوى بالأرقام، بداية بالواقع الخدمي ومروراً بالخدمات المقدمة لتلك المراكز، فقد باتت موحدة للجميع إذ توجد نقطة طبية واحدة تعمل على تقديم الخدمات الطبية المبدئية للقاطنين في تلك الخيام، والحال ذاته بالنسبة للطعام إذ يتم توزيع وجبات غذائية موحدة على جميع العائلات.
أما الخدمات التعليمية فتغيب المدارس عن المكان باستثناء مدرسة واحدة بالقرب من المركز بنيت سابقاً بجوار أحد تلك المخيمات، بلغت قدرتها الاستيعابية مع وصول أول دفعة من النازحين الى المكان وغابت عنها نظم التعليم الخاصة بتلك الشريحة، فالاستجابة كانت عامة للشرائح كافة دون تمييز أو مراعاة لظروف شريحة عن الأخرى بحسب العاملين هناك، وهو ما أكدته منظمات طبية قالت “إن الاستجابة كانت عامة للمتضررين من الزلزال دون تمييز، وهو ما فرض على أهالي ذوي الاحتياجات الخاصة تحمل ذلك الاختلاف”.
يقول عبد الله شقيق الفتاتين “بدأ ذلك الاختلاف في طبيعة المسكن وتفاصيل حياتهما اليومية، إذ تعتمد الفتاتين في حركتهما على الزحف داخل أرجاء المنزل وهو أمر غير متوفر ضمن الخيمة، وقد تعرضت أختاي لجروح وعقور في معظم أجسادهن”.
يضاف إلى ذلك “صعوبة إخراج الفتاتين إلى الخلاء، فمعظم الحمامات مشتركة وتبعد عن الخيمة عشرات الأمتار، وهو أمر صعب بالنسبة للعائلات التي يوجد فيها أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، على خلاف منزلهم السابق الذي جرى تجهيزه بما يتناسب مع وضع الفتاتين ويخفف من أعباء إعالتهن”.
عائلة ربا انتقلت للعيش في أحد مخيمات حارم، ومثل غيرها من ذوي الاحتياجات الخاصة واجهت الفتاة صعوبة في التأقلم مع وضعها الجديد سواء داخل الخيمة أو خارجها، لا سيما أنها قد حفظت تفاصيل منزلها السابق بشكل يتيح لها التنقل ضمن جدرانه، أو الاعتماد على إخوتها الصغار.
يقول والد ربا “جميع الخيم متلاصقة، ولا يمكن تمييزها سوى بالأرقام الموجودة عليها، هذا ما فرض على ربا البقاء حبيسة الخيمة. الحال ذاته داخل الخيمة التي اختلفت تفاصيلها كلياً عن المسكن السابق، بداية من دورات المياه التي تبعد عن الخيمة عشرات الأمتار والتي تخلو من حمامات خاصة، وانتقالاً إلى أماكن الطعام والشراب التي جهزتها العائلة في منزلهم السابق بما يتناسب مع وضعها”.
أما مصطفى فقد كانت مشكلته مضاعفة، إذ ترك وعائلته كل ما يملكونه في المنزل المهدم، ولجؤوا إلى مخيم إيواء مؤقت في بلدة البردغلي، يقول مصطفى إن المكان الجديد لا يلبي حاجته الصحية لجلسات العلاج الفيزيائي الغائبة عن النقطة الطبية في البردغلي، وضع قدمي بات أسوأ من قبل الزلزال، ومن الصعب الوصول إلى العلاج في مراكز أخرى نتيجة بعد المكان وتكاليف النقل.
إضافة لغياب المرافق الخاصة وبعد الحمامات وعدم جاهزيتها لذوي الاحتياجات الخاصة، يشتكي مصطفى من غياب فرص العمل، إذ توقف عن عمله في محل للخضار بالقرب من منزله القديم لبعد المسافة وهو ما حوّله إلى عاطل عن العمل، في ظل غياب الاستجابة الكافية لإعالة الأسر المتضررة، خاصة وأن 49% من أسر ذوي الاحتياجات الخاصة تعتمد في حياتها على رب الأسرة، بحسب الدراسة السابقة.
ويقول مدير الرعاية الصحية عمار النجار “تستقبل الحالات من ذوي الاحتياجات الخاصة والفئات الضعيفة من المسنين والأرامل والأيتام في دور رعاية خاصة بهم ويجري تخديمهم باحتياجاتهم الأساسية من طعام وشراب ورعاية صحية”، دون تحديد أسماء تلك المراكز وأعدادها وطبيعة الدعم المقدم لهم، ودون أن نستطيع الوصول إلى واحد من هذه المراكز للاطلاع على الخدمات المتوفرة داخله.
تغيب الإجراءات الخاصة، حياتية وطبية وتعليمية، لذوي الاحتياجات الخاصة، عن المسؤولين والمنظمات الإنسانية العاملة في شمال غرب سوريا، ما يزيد من أعباء الحياة عليهم وعلى أسرهم، ويعمق المشكلات النفسية التي عاشوها في الزلزال، وقبل ذلك، دون الاكتراث لحاجتهم حتى وإن كانت على مستوى بعض الكراسي المتحركة أو الحمامات الخاصة، متجاهلين حقهم في الرعاية الطبية الخاصة والتعليم والسكن المناسب، حتى في خطط الاستجابة الطارئة.