مئات الخيام تُنصب كل يوم، ليس على الحدود السورية التركية فحسب، ولكن داخل المدن وعلى أطرافها في شمال غرب سوريا أيضاً. أيُّ مساحة تحت السماء فقط، يفترشها السوريون بحثاً عن ملجأ يقضون فيه لياليهم الباردة في شهري شباط وآذار بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط.
في تكرار لمشهد حُفر في أذهان السوريين على مدى سنوات الثورة السورية، وربما بشكل أوسع؛ فقبل سنوات قليلة لجؤوا إلى الخيام، التي نزحوا إليها مرات عدة، خوفاً من قصف أو تقدم قوات نظام الأسد، واليوم ها هم يهربون إلى الخيام مجدداً خوفاً من زلازل وهزات ارتدادية قوية قد تدمر مبانيهم الطابقية كما حصل في جنديرس وحارم وسلقين وأكثر من 200 موقع شمال غربي سوريا، أدت لمقتل 4182 شخصاً، وإصابة 9848 آخرين، بحسب إحصائية منسقو استجابة سوريا في الثامن من الشهر الجاري.
الخوف من تصدع المباني السكنية نتيجة الزلزال والهزات التي رافقته دفع أبو محمد (40 عاماً) لترك منزله في مدينة إدلب مع 8 من أبنائه، والسكن في خيمة بالقرب من منزله في شارع الــ 30، حيث نُصبت عشرات الخيام على أرض زراعية خالية من المباني.
اتخذ أبو محمد هذا القرار بناء على خبرته كمهندس مدني، فمن وجهة نظره لا تنبغي العودة إلى المباني المتصدعة حتى يتم تدعيمها بشكل مدروس، “خصوصاً وأن معظم المباني لدينا في سوريا غير مدروسة لتقاوم زلازل ذات قوة كبيرة”، على حد وصفه.
نظام مناوبات للبقاء على قيد الحياة
“تحول نظام البيت إلى مناوبات، يوم أنا بسهر كل الليل وبفيق زوجي عند الفجر مشان يكمل باقي اليوم، واليوم الثاني بيسهر زوجي كل الليل وبتسلم المناوبة أنا مع الفجر، وبالنهار ببقى في البرية معظم الوقت”. هكذا وصفت عائشة أم يوسف (42 عاماً)، التي تقطن في الطابق الخامس في مدينة إدلب، حالها الآن. فمن وجهة نظرها، إذا كانت مستيقظة وحصل زلزال، فإنها تستطيع إيقاظ زوجها وأطفالها الخمسة وإنقاذهم أو على أقل تقدير إنقاذ أحدهم. ومع ذلك، تتمنى عائشة أن تحصل على خيمة تؤويها وعائلتها مساءً، لتتخلص من السهر والقلق والخوف الذي تعيشه حتى أثناء النوم.
تقضي عائشة معظم يومها في الحديقة المجاورة لمبناها. إلا أنها تجد نفسها مضطرة للصعود عدة مرات إلى البيت في الطابق الخامس من أجل إعداد الطعام أو إحضار احتياجات الأطفال، ثم تعيدها مساء بمساعدة أبنائها وزوجها الذي يكون قد عاد من العمل.
بلغ عدد النازحين المتضررين من الزلزال في مناطق شمال غربي سوريا أكثر من 42 ألف عائلة، بعدد أفراد ناهز 237 ألف نسمة، يقطن معظمهم في خيام نُصبت مؤخراً داخل المدن وعلى أطرافها وقرب المخيمات القديمة، بحسب “منسقو الاستجابة في سوريا”، وهي جهة توثيقية في شمال غربي سوريا.
فيما بلغ عدد المباني المدمرة بشكل كامل 1983 مبنى خاصاً، وتضرر 4073 مبنى بشكل جسيم، بحيث لا تمكن العودة إلى تلك المباني ويجب هدمها. أما المباني المتضررة وبحاجة إلى تدعيم، فقد فاق عددها 12 ألف مبنى.
لفاطمة، المرأة السبعينية، قصة أخرى، فهي استطاعت الحصول على خيمة وتقضي فيها غالب وقتها مع ابنها وعائلته. روت لنا قصتها المرعبة يوم الزلزال. ففي تلك الليلة المشؤومة استيقظ أفراد أسرتها وعددهم 11 شخصاً مذعورين بعد أن اهتز البناء وانقطعت الكهرباء فجأة. نزلوا كلهم إلى الشارع، تاركين فاطمة، التي “ما قدرت أنزل ما بقى يحملوني رجليي بسبب صوت الأرض وتساقط الحجار وحركة البناية يمين ويسار”. تتابع: “لحظات خوف ما بنساها، لحتى ابني تذكرني وساعدني انزل”.
النزوح بسبب الزلزال كان أغرب نزوح عاشته فاطمة مع عائلتها، التي نزحت من قريتها كفرومة جنوبي إدلب بعد اقتراب العمليات العسكرية منهم، ثم سيطرة قوات النظام وروسيا على المنطقة. تنقلت العائلة بين عدة مناطق منها سرمدا ومحمبل لتستقر مؤخراً بمدينة إدلب في منزل غير مجهز تماماً (على العضم).
تقضي فاطمة مع أفراد عائلتها معظم يومهم متنقلين بين الخيمة – التي نصبها أولادها قرب بنائهم المتصدع، حيث بيتهم المستأجر الذي يحوي أثاثهم، فيكون النوم والجلوس وتناول الطعام والدراسة في الخيمة، فيما تقوم ابنتها وكنّتها بإعداد الطعام وتنظيف الأواني وغسيل الملابس في المنزل. “بقلهم اعملوا الأكل واغسلوا الثياب بسرعة وخليكم منتبهين إذا صار أي هزة انزلوا مباشرة”، تقول فاطمة.
فيما يفترش غسان، حفيد فاطمة، الأرض أمام الخيمة لينجز وظائفه المدرسية ويساعده والده مدرس الرياضيات بعد أن فقدوا أملهم بالعودة الكاملة إلى منزلهم، “بما أنه لسا في هزات مارح أرجع على البيت. قبل الزلزال كانت البناية متصدعة من قصف سابق، مستحيل أرجع نام فيها لحتى يتم تدعيمها أو إعادة بنائها”.
خوف مبرر .. ولكن
يرى الخبير في مجال الزلازل الجيوفيزيائي علي الشاهر أنه لا يمكن لوم الناس أو تحميلهم أي مسؤولية عن الخوف الذي ينتابهم، ولكنه لا يرى مبرراً له بعد فحص البيت والتأكد من عدم تضرره، لأن “المنزل الذي تحمل الزلزال الكارثي سيصمد في مواجهة الهزات الارتدادية والتي كانت وستبقى أخف قوة من الزلزال المدمر”، على حد قوله.
أما المختصة في مجال الدعم النفسي غيثاء الإبراهيم، فترى أنه “من الطبيعي أن يصاب المرء بالخوف، بل إنه ليس من الطبيعي عدم الشعور بالخوف للذين عاشوا هذه الكارثة”. تتابع: “هذا الخوف قد ينتج عنه تصرفات يدافع بها المرء عن حياته مثل الهرب من مكان سكنه إلى خيام، ويتأقلم مع الحياة فيها حتى تتوقف الهزات ويعود إلى حياته الطبيعية ما قبل الزلزال”.
تضيف غيثاء الإبراهيم: “حالة الخوف لدى الأهالي هي مرحلة مؤقتة. يتم نسيان هذا الشعور تدريجياً بعد فترة قد تمتد من شهر إلى ثلاثة أشهر. واذا استمر أكثر من 3 أشهر يتحول إلى اضطراب أو مشكلة نفسية ويجب علاجها” من خلال محاربة الضغوط ومواجهة الخوف (مواجهة بالتعرض – تعرض المريض لذات المسبب الذي أدى لحالته). كما تؤكد الإبراهيم على ضرورة توعية المريض وجميع الأهالي بشكل أكبر عن كون الزلزال أمر غيبي والتفكير فيه أو انتظار أي تنبؤ يزيد الخوف والمرض وتجب محاربة الإشاعات.
التنبؤات: علم أم مجرد صدفة؟
وبالفعل، فقد ذكر بعض الأهالي الذين صادفناهم أن مخاوفهم مبنية في غالبيتها على تنبؤات شخصيات ظهرت مؤخراً على وسائل التواصل ومنهم الهولندي الذي وصف نفسه بالخبير في مجال الزلازل، وأصبح ينشر بشكل دوري توقعاته عن الزلازل بعد نجاحه في توقع حدوث زلزال السادس من شباط، إذ أصاب ببعض التوقعات وأخطأ بأخرى، معتمداً في تنبؤاته على حركة النجوم والكواكب وتعامدها واقترانها.
يرد الجيوفيزيائي علي الشاهر على هذه الطريقة بالتنبؤ، فيقول: “طريقة المتنبئين الذين يعتمدون على اقترانات الكواكب والقمر لا يمكن إنكارها، ولكن لم يُثبت أي تأثير لتلك الحالات من الناحية الفيزيائية عدا تأثير القمر بحالة المد والجزر على مياه الأرض، وغير ذلك من التنبؤات هو تنجيم ولا يجب أن نأخذ به”.
اليوم وبعد أكثر من شهر على كارثة الزلزال المدمر في شمال غرب سوريا، لم تتوقف الهزات الارتدادية بعد، ولم تتوقف معها عذابات آلاف المدنيين، إذ لم تقتصر أضرار الزلزال على الأرواح والأملاك فحسب، بل تعدتها إلى أضرار نفسية، تاركة ندبات لا تُمحى على نفوس أولئك الذين عايشوا الزلزال، وربما لن تبرح ذاكرتهم طالما بقوا على قيد الحياة.