يحكم الاستجابة للزلزال في مدينة حلب، وبعد أكثر من شهر على وقوعه، الفوضى، إضافة إلى البيروقراطية والسرقة. المتضررون هائمون على وجوههم في انتظار حلّ لا يكون على نفقتهم الشخصية أو اضطرارهم لمغادرة المدينة إلى مراكز إيواء خارجها، أما المساعدات فما وزّع منها لم يكن بشكل عادل، بحسب من تحدثنا معهم، وما بقي في المستودعات كان أكبر بكثير مما جرى توزيعه.
حجم الكارثة في مدينة حلب
ما يزال خطر انهيار الأبنية، خاصة العشوائية منها، قائماً في كل يوم، وبعد كل هزة ارتدادية، إضافة للأبنية المتصدعة وتزايد عدد العائلات الباحثين عن مأوى في ظل بدلات الإيجار وقلة المنازل المناسبة للسكن، والحلول التي وصفها من تحدثنا معهم بغير الموفقة لإيواء المتضررين.
بلغ عدد الوفيات في مدينة حلب 415 شخصاً، إضافة لإصابة 1050 آخرين، بحسب مجلس محافظة حلب.
وسجلت منطقة قاضي عسكر الرقم الأعلى بين الأبنية المهدمة بسبب الزلزال، أو تلك المتصدعة والآيلة للسقوط. ووثق مجلس محافظة حلب 54 مبنى تهدم بفعل الزلزال، 220 مبنى آيل للسقوط بعد الزلزال للأضرار التي طالتها، 306 مبنى غير آمن ويجب إزالته، 80 منها في حي قاضي عسكر، إضافة لـ 2287 مبنى غير آمن ويحتاج للتدعيم، منها 1079 مبنى في حلب القديمة، بحسب تقارير اللجان الهندسية في المدينة.
وبلغ عدد العائلات المتضررة في الزلزال داخل المدينة، 13039 عائلة تجاوز عدد أفرادها 65 ألف شخص، جميعهم غادروا منازلهم إلى منازل أخرى مستأجرة أو إلى أقربائهم أو دور الإيواء، بينما افترش آخرون الحدائق والطرقات العامة دون وجود خطة عامة من قبل المؤسسات الحكومية لتحقيق الاستجابة للزلزال في مدينة حلب.
من المساجد والحدائق إلى الطرق العامة
شكلت المساجد والحدائق العامة المكان الأول المؤقت للمتضررين و الخائفين من الزلزال والهزات الارتدادية التي رافقته. سمح للأهالي بالدخول إليها ونصبت لأجل ذلك خيام أو في العراء أو داخل جدران المساجد، قبل أن يعلن عن مراكز الإيواء في المدينة.
تقول السيدة أم محمد، واحدة من متضرري الزلزال في حلب ” بعد الزلزال الأول خرجت مع زوجي وأولادي إلى حديقة ميسلون، وعندما فتح المسجد أبوابه لصلاة الفجر دخلنا إلى قسم النساء واتجه اارجال إلى مكان المصلى الرئيسي، ومع توارد الأخبار واحتمال حصول هزات ارتدادية قررنا البقاء في المسجد، رغم عودتنا المستمرة إلى منزلنا الذي يقع في حي الجابرية المجاور”.
وتضيف أم محمد، إن مسؤول الهلال الأحمر السوري طلب منها أن تكون مسؤولة عن قسم النساء في مسجد ميسلون، إذ تقدم السيدة يومياً قوائم بعدد النساء في المكان وتحديث البيانات لتأمين مستلزمات الاستجابة للزلزال في مدينة حلب.
بعد يوم من الزلزال الأول هيأ عدد من مراكز الإيواء في المدينة، بلغ عددها 188 مركزاً توزعت في مناطق مختلفة داخل المدينة، وبحسب ما نقله رئيس مجلس المحافظة عين لكل مركز مدير وموجه تربوي، إضافة لمشرف من قبل المجلس.
يقول من تحدثنا معهم إن الأمر لم يكن منظماً بالشكل الذي يتم الحديث عنه، وإن مراكز أقفلت بعد ايام ودمجت في مراكز أكبر، قبل أن تقفل معظم المراكز لصالح أخرى خارج المدينة، في منطقة الشيخ سعيد وجبرين ومدينة هنانو، على أطراف المدينة.
رفض معظم المتضررين الذهاب إلى المراكز الجديدة، بعد قرار مجلس المحافظة بنقلهم إليها، سواء من الخيام والحدائق والمساجد، أو من مراكز الإيواء الأخرى، يقول موظف في مجلس المحافظة إن عدد العائلات التي انتقلت إلى مركز جبرين للإيواء لم يتجاوز 5 عائلات كانت تتخذ جامع ميسلون ملجأً لها، بينما فرّ الباقون إلى منازلهم غير الآمنة أو إلى أقربائهم، إضافة إلى مساجد أخرى مثل جامع الباسل في الحمدانية قبل أن تطرد جميع العائلات المقيمة فيه لتفترش الأرصفة أو تلجأ إلى الصالات الرياضية في الحمدانية.
بعد المسافة وقلة الخدمات كانا من أهم الأسباب التي دفعت الأهالي لرفض الانتقال إلى مراكز الإيواء الجديدة، يقول أبو علي العموري، من سكان صلاح الدين لجأ إلى جامع الحمدانية: “بسبب الصدوع الكبيرة في البناء الذي أسكن فيه اضطررت إلى التوجه إلى مسجد الحمدانية في الحي الرابع، بعد وقوع الزلزال الأول مباشرة. ومنذ عدة أيام، قرر مجلس المحافظة نقلنا إلى مركز الإيواء الجديد في الشيخ السعيد، ولدى وصولنا إلى هناك تفاجأت بأن المركز لايصلح للسكن مع عدم توفر الكهرباء والمياه والمرافق العامة هناك”. عاد العموري وعائلته من المكان ليفترشوا أحد الأرصفة في حي الحمدانية بعد منعهم من الدخول إلى المسجد من جديد، على حد قوله.
إغلاق المساجد التي تحولت إلى مراكز الإيواء جاءت، بحسب خادم واحد منها، نتيجة لتحويلها من قبل المتضررين إلى مكان للهو ولعب طاولة الزهر و ورق الشدة، إضافة للنفايات التي انتشرت في المكان، و مصدر الإزعاج والفوضى الذي تسبب به الأطفال خلال أداء الصلوات، ما اضطر أئمة المساجد إلى طرد عدد من العوائل، خاصة وأن كثر من الذين سجلوا أنفسهم كمتضررين كانت بيوتهم بحالة جيدة، على حد قوله.
الأسباب ذاتها تذرع بها حراس الحدائق، لكن من تحدثنا معهم أكدوا عدم صحة هذا الكلام، وأن القرار جاء من الجهات المسؤولة في المحافظة لإخلاء هذه المناطق لنقل العائلات إلى مراكز الإيواء التي أنشؤوها والتي لا تصلح، على حد قولهم، للسكن، وتغيب عنها الخدمات وتبعد عن منازلهم وأماكن عملهم ،مدارس أبنائهم.
حال العموري لا يختلف عن حالات كثيرة تفترش الطرقات كيفما اتجهت في المدينة، خاصة في مناطق الحمدانية اوتوستراد المطار، أو في ساحات مكشوفة أو أسواق مهدمة بالقصف قبل سنوات، مثل السوق التجاري في ضهرة عواد الذي تسكنه نحو 50 عائلة اليوم كانت قد وجدت ملاذاً آمناً في جامع الصفا المقابل، قبل تضرره هو الآخر.
جميع المتضررين من غير القادرين على العودة إلى منازلهم المهدمة أو غير الآمنة، كذلك غير القادرين على استئجار منازل بديلة بعد الارتفاع الكبير في بدلات الإيجار.
وتتراوح نسبة ارتفاع الإيجارات في المدينة بين 50 إلى 70 بالمائة، بحسب المنطقة، إذ يتجاوز الحد الأدنى من الإيجار في منطقة الأشرفية 200 ألف ليرة، وفي مدينة هنانو 50 ألف ليرة، وفي حي صلاح الدين 150 ألف ليرة، وفي حي الجزماتي 35 ألف ليرة، أما في الأحياء الغربية من المدينة فيتضاعف هذا الرقم ليبدأ من 400 ألف ليرة، في الوقت الذي غابت فيه المساعدات المالية ضمن حملة الاستجابة للزلزال في مدينة حلب من قبل الجهات الحكومية، وعلماً أن راتب الموظف لا يتجاوز 150 ألف ليرة، وأجرة عامل المياومة لا تتعدى ضعف هذا الرقم شهرياً.
التكلفة عليك.. وكأننا نملك ما نأكل
البيوت التي تحتاج لتدعيم ترك لأصحابها مسؤولية ترميمها دون مساعدة من أي جهة، في كل يوم تتناقل وسائل الإعلام حديثاً حول إعادة الإعمار لكن ذلك غير حقيقي على أرض الواقع.
يقول نور إنه منع من دخول منزله بعد انهيار الطوابق العليا من المبنى الذي يسكنه، ويضيف “بعد الكشف الهندسي من لجنة السلامة العامة أبلغنا المهندس بضرورة إزالة الطوابق العلوية المهدمة، ورأب الصدوع، حتى يُسمح للعائلات غير المتضررة بشكل كامل بالعودة إلى منازلها”
يتابع نور:” تكمن المشكلة بأن إزالة تلك الطوابق سيكون على نفقتنا الخاصة والتي تجاوزت تكلفتها التقديرية 10 مليون ليرة سورية بالإضافة إلى المعاملات الرسمية في مجلس البلدية ونقابة المهندسين”.
ويقول أحمد، متضرر آخر تتطابق حالة منزله مع حالة نور “أخرجنا من منازلنا بعد هدمها من لجنة السلامة، كيف سنعيد بناءها، كثر من أصحاب المنازل تفرقوا بين مصاب ومتوفى، هناك مستأجرون أيضاً، وجميعنا لا نملك المال لإعادة البناء، لو كنا نملك ذلك لاستأجرنا منازل لعائلاتنا عوضاً عن السكن على الأرصفة”.
ما يزال نور نازحاً في بيت أخته منذ شهر مضى، بانتظار حلّ يقول إنه “لن يأتي”، و “سيضيع في خزانات السرقات والبيروقراطية، مثل كل شيء في هذه المدينة”.
مساعدات كثيرة.. أين هي؟
قدّمت خلال حملات الاستجابة للزلزال في مدينة حلب وسوريا عموماً مساعدات كبيرة، سواء على الصعيد الدولي والعربي أو من خلال الاستجابات المحلية، لكن ما وزع منها على الأرض غير ظاهر للعيان، بحسب متضررين تحدثنا معهم.
تظهر إحصاءات رسمية إن المساعدات الموزعة في مراكز الإيواء والمتضررين الذين يسكنون في الحدائق وعلى الأرصفة، 526988 سلة غذائية ومستلزمات مثل البطانيات والألبسة، إضافة للوجبات الغذائية المقدمة في المطابخ الميدانية وعددها 8.
ويشرف على توزيع المساعدات ميليشيا الحشد العراقي و الأمانة السورية للتنمية إضافة للهلال الأحمر بشكل رئيس، وتعمل عدد المنظمات والفرق التطوعية الأخرى في الاستجابة للزلزال في مدينة حلب تحت مظلة الجهات الرئيسية.
يقول أحد المسؤولين عن المساعدات إن جميع ما يصل يجرد ويدخل إلى مستودعات مخصصة، قبل توزيعه على المتضررين وفق حاجتهم، وأهم هذه المستودعات في المدينة الرياضية داخل حي الحمدانية. ويضيف أن المحافظة وجهت الأشخاص غير المسجلين في مراكز الإيواء من المتضررين للذهاب إلى مبنى المحافظة وتسجيل أسمائهم للكشف عن حجم الأضرار وتقديم المساعدات.
من تحدثنا معهم قالوا إن الأرقام التي ظهرت في الإحصائيات غير دقيقة، وبمقارنة بسيطة بين حجمها وعدد العائلات يظهر حصول كل عائلة على 43 سلة وهو ليس صحيحاً، إذ لم تصل إلا لبعض المتضررين سلة غذائية واحدة.
يفسر من تحدثنا معهم الأمر بوصول المساعدات إلى غير المستحقين أو سرقتها من قبل الجهات المشرفة، يقول أحدهم أنه يعرف شخصاً أصبح لديه مستودعاً كاملاً من الأغطية والملابس حصل عليها، آخرون قالوا أن هناك مواد تموينية وملابس في البقاليات والمحلات التجارية أيضاً.
يقول من تحدثنا معهم إن “مستودعات الهلال الأحمر والأمانة العامة للتنمية مملوءة عن بكرة أبيها ولم يتم توزيع إلى الفائض عنها”، و أكد أحد الشهود بأن “شاحنة كاملة وزعت بطريقة عشوائية نتيجة عدم وجود مستودعات شاغرة لتخزينها”، مع العلم أن “هناك من حصل على المساعدات والمستلزمات أكثر من مرة لدرجة أن أحد سكان حي الحلوانية قد أكد لنا بأن أحدهم جمع في بيته أكثر من 50 بطانية و30 اسفنجة وأكثر من 20 سلة غذائية كاملة”.
المستودعات ممتلئة والكثير من المتضررين لم يحصل على شيء نتيحة عدم رغبتهم بإراقة ماء وجههم في دور الإيواء بانتظار انتهاء خلية الأزمة من جدولة مهامها وأولوياتها ليصار إلى توزيعها في زمن ما وطريقة ما بعد حريق ما.
منذ يومين، حصل حريق في أحد مستودعات المدينة الرياضية، يضم بحسب أحد المسؤولين عنه ألبسة مستعملة (بالة)، كما تسبب القصف “الاسرائيلي” في اليوم ذاته، بتعطيل مطار حلب الدولي الذي كان يستخدم لوصول مساعدات إلى المدينة، وهو ما يخيف السكان الذين قالوا إنهم بانتظار وصول شيء من مساعدات الاستجابة للزلزال في مدينة حلب، قبل أن تلتهم حرائق أخرى باقي المستودعات أو تنتقل إلى جيوب أشخاص محددين تاركين ملايين السكان المتضررين، بشكل مباشر أو غير مباشر، لقدرهم يبحثون عن حلول لتأمين قوت يومهم أو سقف يؤويهم، رغم ما يتابعونه على وسائل التواصل من قوافل وشاحنات وطائرات لمساعدات أممية يجري تصويرها فقط دون توزيعها.