يأتي يوم المرأة العالمي، 8 آذار (مارس) في هذا العام، بعد مرور شهر كامل على الزلزال، في تركيا وسوريا، والذي كان للنساء المتطوعات في شمال غربي سوريا، سواءً من فرق الدفاع المدني أو ممن تطوعن لحظة حدوث الزلزال دوراً كبيراً في إنقاذ الآلاف من تحت الإنقاض، التقينا أربع سيدات منهن، وروين لنا ما عاشوه من تفاصيل في أيام الزلزال الأولى.
لحظات مرعبة عاشتها سلام محمود، 24عاماً، متطوعة ومديرة نقطة للدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” في منزلها بريف إدلب ليلة الزلزال، إذ استيقظت فجأة على وقع هزة عنيفة قرابة الساعة الرابعة وعشرين دقيقة، على صراخ الجيران وبكاء أطفال المبنى، كما روت لنا.
اختلاط الأصوات في عتمة تلك الليلة، لم يسعفها بمعرفة ما الذي يحدث بالضبط، كان تفكيرها محصوراً في كيفية إخراج نفسها ووالدها العاجز من المنزل المتأرجح، لكنها لم تجد الوسيلة فاستسلمت للدعاء والقدر.
تقول المحمود: “كأن الدقيقة التي حدث فيها الزلزال امتدت لساعات أو هكذا خيل لنا، لتكون الأخبار المتداولة عبر الإنترنت ملاذنا الوحيد لمعرفة ما الذي حدث، هل هو قصف جوي من قبل النظام اعتدنا عليه في السنوات السابقة؟ أم هزة أرضية كالتي نسمع ونقرأ عنها في كتب الجغرافيا؟”.
ساعات قليلة، انقشعت عتمة الليل عن أحياء لم تعد موجودة، تغيرت خارطة عدد من الأماكن، واتضحت الرؤية، حسب الأنباء الواردة فإن زلزالاً بقوة 7.9 ريختر ضرب مناطق واسعة من شمال غربي سوريا، وجنوب تركيا خلَّف آلاف القتلى والمصابين الذين قضوا تحت أنقاض منازلهم المدمرة.
على غير الوقت المعتاد الذي تذهب فيه سلام والمتطوعات/ ين في الدفاع المدني إلى مراكزهم في الثامنة والنصف صباحاً، قصدوا مراكزهم صباح الإثنين عند الساعة السابعة، إذ انطلقت مع الفريق إلى بلدة ملس، في ريف إدلب الغربي، تخبرنا أن رائحة الموت غطت على الغبار الذي أحدثه الزلزال في المكان، تقول: “لم تذهلني الأبنية المنهارة والأحياء المتهدمة، كما راعني عدد جثث الضحايا، فأمام الفاجعة البشرية التي نراها اليوم تصغر كل الفجائع المادية الأخرى.. إذ لا قيمة للحجر أمام نقطة دم واحدة”.
أكثر من 26 جثة لضحايا انتشلت من مبنى واحد في ملس، وكذلك ارتفعت أعداد الضحايا في أربعة أبنية أخرى في الحي ذاته، جميعهم كانوا متوفين، إلا امرأة واحدة كتب لها النجاة تحت أنقاض منزلها، حسب ما روته لنا سلام.
“في صوت حدا عايش” صرخ أحد شباب الفريق، مطالباً إيانا بالهدوء قليلاً للتأكد، تقول سلام، وإذ بشابة عشرينية ترتجف من الخوف والبرد، تلفها الصدمة والذهول، تصرخ بصوت مبحوح “طالعوني”.
تصف سلام ذلك اليوم” كنت الفتاة الوحيدة ذلك اليوم في الفريق، فأسرعت وبيدي غطاء سميك إليها، نزلت في النفق الضيق، أنبش بيدي بين الركام إلى أن وصلت إليها، كاد قلبي يتوقف، إذ أن الشابة لم تكن تستوعب ما حدث، فجثتا زوجها وابنها كانتا أمامها، والظلمة تمحي ملامحها، وضيق المكان يسحب آخر ذرات الأكسجين المتبقية، عندما رأتني رجتني أن أخرجها وألا أتركها، أخبرتها أني سأبقى معها حتى نخرج معاً، ولو تطلب مني النوم بجانبها يوماً كاملاً”.
“طلبت لها الأكسجين، ولففتها بالغطاء لتشعر بالدفء، وبقيت فرق الإنقاذ تعمل على إخراجها حتى الساعة السادسة مساء، إلى أن تمكنا من إنقاذها، وتسليمها إلى والدها، ثم قمنا بنقل جثث عائلتها خارج الأنقاض”.
عادت سلام إلى منزلها قرابة التاسعة ليلاً، والأفكار تتزاحم في رأسها، وضميرها يؤنبها وهي تتساءل؛ هل مازال أحد على قيد الحياة ينتظرهم، بعد أن غادروا المكان، وتمنت لو أن الليل لم يأتِ ليواصلوا عملهم بإنقاذ الأرواح المتبقية، حسب تعبيرها.
“الله محيي بنات الدفاع المدني”
في السابع من شباط توجهت سلام هي وزميلتيها نوال الجاسم وإيمان، رفقة فريق الدفاع المدني إلى قرية بسنيا، وهو مشروع سكني حديث الإنشاء، أقيم قرب مدينة حارم بريف إدلب قبل أربع سنوات، كان قد انهار بشكل شبه كامل فوق مئات العوائل، كما تروي سلام، ونجا منه عدد قليل، فيما كان الموت نصيب العدد الأكبر من قاطنيه.
أكثر من 400 شخص قضوا تحت أنقاض منازلهم، في المشروع السكني، بحسب تقديرات الدفاع المدني وفوق ركام المشروع المتهاوي، سُمع صوت تحت الأنقاض، لأشخاص ما يزالون على قيد الحياة. كما تروي سلام، إذ تقول: “أسرعت أنا وأحد المتطوعين نلاحق الأصوات، كان من بينهم صوت امرأة وأطفال، وإذ بعائلة كاملة تتمسك بحبل الحياة بين حطام المنزل، أب وأم وثلاثة أطفال، أسرعت باتجاه السيدة، وكالعادة أحمل معي أغطية للحفاظ على خصوصيتها، فسترت جسدها، وبدأنا بإخراج الأطفال وإذ بضحكاتهم تكسر حزن المكان، ضحكوا وضحكنا معاً وكانت فرحتنا خليطاً من مشاعر الحزن والفرح، بسمات ودموع علت تلك الوجوه المتبعة، وكأننا انتصرنا على الموت هذه المرة وأنقذنا من بين يديه خمسة أرواح”.
كانت نوال جاسم، 29 عاماً، متطوعة في الدفاع المدني، إلى جانب سلام وبقية الفريق، عاشوا المشاعر ذاتها وكانوا على قدر من المسؤولية، تخبرنا أن الأهالي أول الأمر استغربت وجود النساء المتطوعات في الفريق، وتساءلوا ما الذي يمكن لامرأة أن تفعله في هذه المواقف، هل سترفع الأنقاض مثل الرجال، أم ستنزل تحت الركام.. وأحاديث أخرى لم تلقِ لها بالاً، حسب تعبيرها
سرعان ما اتضح دور المتطوعات، وهو الحفاظ على خصوصية وحرمة الضحايا من النساء اللواتي قضين تحت الأنقاض، وهن داخل منازلهن في منتصف الليل، إذ كانت سلام وإيمان ونوال وغيرهن من المتطوعات في جميع فرق الإنقاذ، يلبين نداء زملائهم المتطوعون، في حال عثر على فتاة أو سيدة للمساعدة في انتشالها أو إنقاذها، حينها تعالت صيحات الأهالي ذاتها “الله محيي بنات الدفاع المدني”.
ليس هذا فحسب، بل كان للمتطوعات دور كبير في تقديم الإسعافات الأولية للمصابين، والنساء الحوامل والمرضعات والأطفال الصغار، تقول نوال: “كنا نحتضن الأطفال كأنهم أطفالنا ونغمرهم بمشاعر مليئة بالحب، لنخفف من خوفهم وذهولهم، كانوا يتمسكون بنا كأننا حبل النجاة الوحيد، في ذلك اليوم تخبرنا أنهن انتشلن جثة خمسين امرأة، و25 طفلاً من الضحايا، وفي كل مرة كنا نبكي كأنها المرة الأولى”.
تصف سلام أحد المشاهد الصادمة حسب قولها، عند انتشال جثة امرأة حامل على وشك الولادة، تحتضن طفلتها الصغيرة بين يديها، كان قد سقط عليهما سقف المنزل وتسبب في وفاتهما، تقول: “مستحيل أن يمحَ هذا المشهد من ذاكرتي”.
تتذكر تلك التفاصيل إلى اليوم، وقد مضى عليها قرابة الشهر، تخبرنا أن حياتها قبل الزلازل ليست هي ذاتها بعده، فهي إلى اليوم لا تنام بشكل جيد، ولا تأكل كعادتها، ولا تعرف معنى الراحة النفسية والهدوء وسط ضجيج المشاهد القاسية التي تنبش في رأسها، ومناظر الضحايا والأطفال.
بين الأمومة وواجب العمل .. كيف تصرفت المتطوعات
“وصلنا الليل بالنهار، نسينا الوقت كلياً، ونسينا أنفسنا وأطفالنا”، تقول ، علا اسماعيل، 32 عام، متطوعة في مركز كفر لوسين بريف إدلب الشمالي.
تركت علا أطفالها مع زوجها عند الساعة السابعة صباحاً يوم الزلزال، التحقت بمركزها للمساعدة، باتجاه مدينة حارم، استقبلتهم مبانٍ مدمرة وأحياء محيت ملامحها، تخفي بين ركامها أطفالاً ونساء ورجالاً، عائلات بأكملها دفنت تحت الأنقاض، وكأنها مقابر جماعية أطبقت فوق مئات الضحايا، وأحكمت عليهم.
تقول علا: “وزِّعت المهام بين الفرق، منها ماخُصص للبحث والإنقاذ، أخرى انطلقت إلى مراكز الإيواء لتقديم الإسعافات الأولية للناجين، وقسم بقي في المركز، وجميع تلك الفرق كانت تقضي يومها في الاستجابة للكارثة دون استراحة أو توقف”.
نحو الساعة الحادية عشر ليلاً عادت علا إلى عائلتها، وكلها شوق لأطفالها، احتضنت الاثنين معاً وصور الأطفال الضحايا لاتفارق مخليتها، تقول: “بكيت كثيراً حين رأيت أطفالي بخير، وكنت قد انتشلت بيدي عشرات الأطفال الميتين، ولم يتسنَ لي أن أبكي كما أشاء فالحزن والبكاء كانا رفاهية لم أمارسها وقت العمل وأجلتها إلى حين عودتي للمنزل”.
تلك المشاعر المضطربة عاشتها أيضا المتطوعة مروة حسينو، 33عاماً، أُم لأربعة أطفال، أصغرهم عامين وأكبرهم ابنها عبد المجيد، 13 عاماً، والذي تولى مهمة الاعتناء بإخوته طيلة فترة غياب أمه عن منزلها في منطقة كفر لوسين شمال إدلب، والتحاقها بالعمل في منطقة حارم والتي تستغرق حوالي ساعة ونصف الساعة في السيارة للوصول إليها.
تقول مروة: “لحظة وصولنا، رأينا مشاهد لم نرها من قبل، مع أننا نعيش تحت الصواريخ والبراميل المتفجرة منذ عشر سنوات، إلا أن الفاجعة هذه المرة أكبر والزلزال دمر مناطق عدة في وقت واحد، ما كشف عن عجز كبير في الاستجابة للضحايا، ولاسيما أن جميع معدات وإمكانيات فرق الدفاع المدني لم تكن كافية، فالكارثة تحتاج استجابة أممية، وإمكانيات دولية، وليس كحالنا في الشمال السوري”.
وصفت مروة تلك الأهوال التي رأتها، دمار لا يستوعبه عقل، ضحايا بالمئات، أبنية كاملة أصبحت هباءً منثوراً، وحشود كبيرة تجمعت لتفقد أقاربها وعائلاتها، منهم من يحفر بيديه، ومنهم من يستنجد فرق الدفاع والإنقاذ، ومنهم من وقف عاجزاً أمام مايحدث.
“أختي وولادها وزوجها كانوا هون نايمين” امتزجت عبارة أحد الشبان بدموعه وهو يخبرنا عن مكان عائلة أخته، والتي لم ينج منها أحد، مع أكثر من سبع عائلات أخرى كلها ماتت تحت الأنقاض، تقول آخر إحصائية للدفاع المدني السوري، منذ يوم الزلزال وحتى 13 من شهر شباط، وصل عدد ضحايا الزلزال في شمال غربي سوريا إلى 2274 حالة وفاة، وأكثر من 12400 إصابة، استجابت الفرق لـ 2170 حالة وفاة، وأسعفت نحو 2950 مصاباً.
سلام ونوال وريم ومروة، أربع نساء متطوعات من أصل 335 سيدة متطوعة، يعملن في 39 مركزاً نسائياً للدفاع المدني السوري، متوزعة في معظم مناطق شمال غربي سوريا، تتنوع مهامهنّ بين البحث والإنقاذ والاستجابة العاجلة لحالات الكوارث الطبيعية أو القصف، وفرق نسائية مخصصة تعمل بالمسح غير التقني ضمن فرق إزالة مخلفات الحرب، فضلاً عن دورهم في تقديم الإسعافات الأولية داخل المراكز، وإجراء مسح للأمراض المزمنة في المخيمات عبر الجولات الميدانية، إضافة إلى خدمات الدعم النفسي وجلسات التوعية.