يتزامن يوم المرأة العالمي (الثامن من آذار) لهذا العام بحدث أليم ينغص على نساء إدلب فرحتهن بهذه المناسبة. فالزلزال المدمر، الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط الماضي، أزهق حياة واحدة من أبرز السيدات اللواتي ناضلن من أجل مدينتهن: “رئيفة سميع” التي قضت في منزلها بأنطاكيا.
انخرطت ابنة مدينة إدلب في النضال السياسي منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011. وعندما اقتحم جيش النظام السوري مدينة إدلب، اضطرت رئيفة للانتقال من بيت لآخر. ثم انتقلت إلى حلب ليستقر بها المطاف في مدينة أنطاكيا التركية، حيث أصرت على إكمال دراستها حتى نالت شهادة التعليم الثانوي عام 2014، ثم درست العلوم السياسية وتخرجت بتفوق.
كان نجم الثالثة والخمسين عاماً قد بدأ بالسطوع عندما حصلت، مع ثلاث سيدات أخريات، على عضوية أول مجلس محلي منتخب في سوريا، وهو المجلس المحلي لمدينة إدلب الذي تشكل في عام 2012. بعدها شاركت بتشكيل المجلس المحلي لمحافظة إدلب كاملة، إذ كانت تمثل مدينة إدلب بهذا المجلس، وهو المجلس المحلي المؤقت لمدينة إدلب والذي تشكل في تركيا عام 2012.
كما شغلت رئيفة منصب عضوة مؤسسة في اللجنة الدستورية السورية، وأيضاً عضوة المجلس الاستشاري النسائي عن المجتمع المدني المؤسس من قِبل المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا.
لم يكن الطريق أمامها ممهداً بالورد، فقد تعرضت رئيفة للتنمّر من أولئك الرافضين لوصول المرأة لمراكز صنع القرار. بيد أنها أصرت على استكمال نضالها، ولم تكن تهادن بأي شيء يمس المبادئ ولا تتنازل عن حقها أبداً، بحسب الصيدلانية ” سوسن السعيد” الصديقة المقربة لها، التي تصف رئيفة بـ”الإنسانة البسيطة، الحادة، الصادقة، القيادية منذ صغرها، الطموحة”.
واحدة من العلامات المضيئة في مسيرة رئيفة كانت تشييد مؤسسة منظمة “بارقة أمل” النسائية في عام 2015، التي قدمت الكثير من الأنشطة والتدريبات لنساء وشابات الشمال السوري، ثم استهدفت السوريات المهجرات في سوريا ولبنان. من أبرز الأنشطة التي ركزت عليها رئيفة: تنفيذ تدريبات في مجال (الحوكمة، الديمقراطية، النظم الانتخابية، الدستور، التحليل السياسي، المركزية واللامركزية، الاقتصاد السياسي، إدارة المشاريع، كتابة المشاريع، المناصرة، …) وغيرها من التدريبات التي تهدف من خلالها لبناء قدرات النساء بهدف تجهيز قياديات لقيادة المرحلة القادمة، كما كان من أنشطتها مشروع الشبكة النسائية لتشبيك النساء السوريات الفاعلات للاستفادة من أفكارهنّ وأنشطتهنّ.
وصف أحد المقربين منها نشاطها ونضالها (كمن ينحت في الصخر) محاولةً صنع شريحة من النساء الواعيات لرسم ملامح المستقبل الخاص بسوريا. إذ رتبت لسيدات من الداخل مساحات حوارية تقودها منظمات دولية بين المنظمات أو شرائح المجتمع السوري؛ منها لقاءات مع هيئة الأمم المتحدة للنساء في محاولةٍ منها لإيصال احتياجات النساء في الداخل السوري بشكل مباشر إلى مكاتب الأمم المتحدة. كانت تلك الخطوة الأولى من نوعها افتراضياً مع نساء داخل سوريا، لعدم قدرتهنّ على السفر خارج الحدود السورية لاعتبارات سياسية.
الدكتور “زيدون الزعبي”، دكتوراة بالهندسة وميسّر المجلس الاستشاري النسائي، يصف رئيفة سميع بـ “صانعة التغيير الحقيقية”، كما يعتبرها “شخصية فذة ونادرة بكل معنى الكلمة، كانت تتعلم كل يوم، […] لتُعلّم النساء ما تتعلمه، وكانت تشعر تجاه عامة أهالي إدلب وبخاصة النساء بمسؤولية رهيبة، محاولةً اختراق الأوساط الممنوعة على التيار المحافظ لتحجز لهنّ مكاناً فيه”.
فاطمة العثمان مهندسة ميكانيك من مدينة جسر الشغور ومقيمة في إدلب، شاركت بالعديد من الأنشطة التي أقامتها منظمة “بارقة أمل”، تقول عن التغيير الذي أحدثته مشاركتها على حياتها: “كانت الأنشطة التي دُعيت لها مهمة ومحورية وشكلت نقلة نوعية بمجال عملي، أهمها إتاحة الفرصة لحضور الاجتماعات والمؤتمرات والحوارات الدولية سواء بروكسل أو جنيف وكذلك لجنة المعتقلين والمغيبين قسريا”.
تعلمت فاطمة من رئيفة سميع الصبر والحنكة بالتعامل مع الأشخاص، وكيف تكون قائدة ناجحة ومؤثرة، وتبلورت هذه الصفات عندها بالعمل الأخير الذي دعمتها فيه لقيادة مبادرة “بناء قدرات النساء”. تقول فاطمة: “قوة الإصرار والعزيمة التي تمتلكها (رئيفة) لم أرها عند أي إنسان آخر. لقد أثرت بي لدرجة أني صرت أقلدها وصرت أمتلك القوة والجرأة لمواجهة التحديات والوقوف بوجه الصعوبات، كما صرت أعبر عن رأيي بكل صدق وشفافية دون خوف أو خجل أو تردد.
السيدة رئيفة قدمت للمرأة السورية بإدلب الكثير من الوعي السياسي والاجتماعي والدعم بكافة أشكاله محاولة تغير الصورة النمطية المأخوذة عن المرأة السورية في إدلب، دعمت الشابات بالتدريبات وشاركت معهم أهم التقارير والمعارف والعلوم السياسية”.
وفوق كل ذلك، لم تنسَ رئيفة سميع ملف المعتقلين، فجعلته القضية الأهم في قائمة أولوياتها، إذ لم تدع اجتماعاً أو محفلاً دولياً إلا وطالبت فيه بالمعتقلين والكشف عن مصيرهم.
تقول إحدى المستفيدات من الأنشطة المنفذة: “أهم مشروع استفدت منه هو التحليل السياسيّ، فقد تعلمت منه القراءة الموضوعية للأحداث، والاطلاع والرصد الدائم للمستجدات، وكان من مخرجات المشروع إنشاء أول مركز أبحاث نسائي، لولا بعض العقبات التي جعلته مشروعاً معلقاً.
أما أهم ما يميزها فهو إصرارها وتحديها للظروف وقوتها في قول الحق وفهمها الجيد للمجريات بعيداً عن العواطف، أيضاً جمعها للحزم والحنان على المتدربات والمستفيدات، وأعتقد أنها وضعتني بطريق لا أعلم نهايته ولكن أنا مؤمنة بأنه الطريق الصحيح”
حققت رئيفة إنجازات لا يُستهان بها خلال فترة زمنية وجيزة. ويُجمع أغلب من عرف رئيفة سميع أنها سيدة وهبت نفسها للنضال من أجل المرأة والمجتمع، إذ مهدت لها الطريق في المعترك السياسي، الذي يهيمن عليه الرجال، وبنفس الوقت ساعدت في خلق فرص عمل جديدة للنساء بمدينة إدلب.