تحت ركام مبنى سكني في قرية بسنيا غربي إدلب، وجد أبو سامر نفسه مقيداً تحت الردم، ينتظر وصول فرق عمليات الإنقاذ لإخراجه من بين الأنقاض التي تسبب بها الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط الجاري. دمّر الزلزال المشروع السكني في بسنيا كاملاً، ومنه منزل أبو سامر الذي صنعت ركيزة بيتونية منهارة ما يشبه التابوت، له ولزوجته التي كانت بالقرب منه، بحسب ما نقله أبو سامر لأصدقائه من تفاصيل عبر هاتفه المحمول.
بعد 48 ساعة وصلت فرق الإنقاذ إلى أبي سامر، وعند الاقتراب من مكان وجوده وصلت آخر رسائله عبر الهاتف “أوقفوا الحفر”، ثم توقف كل شيء، فقد أبو سامر حياته وأخرج جثة من تحت الركام، يبدو، بحسب أصدقائه، أنه مات اختناقاً من الغبار.
منذ الدقائق الأولى للزلزال توزعت فرق الدفاع المدني وآليات المؤسسات العامة، محاولة إنقاذ ماتستطيع من الضحايا بطاقات وأعداد لا تساوي جزء يسيراً من حجم الكارثة. كانت فرق الإنقاذ في البداية تتبع كل مكان فيه أي مؤشر يدل أن هناك أحياء.
أبو سامر واحد من آلاف الذين علقوا تحت الأنقاض جراء كارثة الزلزال، لاقى كل واحد منهم مصيراً مختلفاً، كتبت النجاة لقسم منهم، وكثير منهم فارقوا الحياة إما من اللحظات الأولى أو في ساعات الانتظار أو خلال عمليات الحفر.
لم تكن فرق الإنقاذ تمتلك آليات نوعية ترقى لحجم الكارثة، مثل رافعة الأسقف، وكان العمل يعتمد على الجرافات من صنف (تركس) أو آليات بسيطة يدوية، ولم تصل أي فرق إنقاذ دولية إلى شمال غربي سوريا.
أصحاب الحظ من وصلت فرق عمليات الإنقاذ إليهم في الساعات الأولى، حتى وإن كان هناك ما يدل على الحياة، يقول إعلامي إنه سمع أصوات عالقين تحت ثلاثة أبنية في قرية حزرة، صباح الزلزال، وزّع الصوتيات على كل ما يعرفه من وسائل التواصل الاجتماعي وغرف واتس آب، لكن أحداً لم يصل إلى المكان. ويضيف أن أحد العاملين بالإنقاذ أخبره حينها وهو يرشده إلى المكان “لم يعد لدينا فرق، الجميع في العمل، استنفروا شركات الإنشاءات”.
وبلغت حصيلة المباني المهدمة بالكامل، 1298 مبنى ومنزلاً، إضافة لـ 14128 منزلاً متصدعاً غير صالح للسكن ويحتاج للهدم، بحسب إحصائية للدفاع المدني في العشرين من شباط الجاري.
في جنديرس بريف حلب الشمالي، أحد أكثر مدن الشمال المنكوبة بالزلزال، استمرت المناشدات لثلاثة أيام، تطالب بفرق إلى نقاط لم تصلها عمليات الإنقاذ التي استنفذت فرقها كل طاقاتها لكن دون القدرة على الاستجابة لجميع النقاط المتضررة.
يروي أبو أحمد، ناج من جنديرس، “رجتني زوجتي أن أذهب إلى غرفة الأولاد مباشرة بعد الزلزال لأطمئن عليهم، وبالفعل ذهبت وتركتها مع طفلتنا الصغيرة، ثم انشق المبنى طولياً، ووجدت نفسي على الأرض مع بناتي الثالثة، لا يوجد سقف فوقنا ورأسي ينزف”.
لم يعلم حينها ابو أحمد أين ذهب السقف، لكنه استطاع أن يخرج هو وبناته بمساعدة الأهالي، وبعد إسعافه وتضميد جراحه عاد للمكان، يقول: “رأيت نصف المبنى الآخر الذي نسكنه كومة ركام، وتحته زوجتي وابنتي الصغيرة، لم يكن هناك من يرفع الأنقاض، والفرق تعمل بكل مكان في المدينة يتبعون أصوات العالقين، وبعد انتظار ثلاثة أيام خرجت زوجتي وابنتي متوفيتين. أرسلتني زوجتي إلى النجاة وماتت”.
في المنطقة ذاتها وصل أقرباء خالد إلى المبنى المهدم الذي يسكنه، كان عالقاً تحت ثلاثة أسقف وركيزة استقرت على قدمه، في مستوى مرتفع عن الأرض بضعة أمتار، يقول أحد أقربائه: “طلب منا وسادة يريح رأسه عليها، وقال إنه لا يشعر بقدمه، أعطيناه الوسادة ورحنا نحدثه حتى لايغفو، لم يكن بوسعنا فعل شيء سوى الانتظار، انتظرنا 48 ساعة، حتى توفي قبل وصول عمليات الإنقاذ بساعات”.
كانت حصيلة ضحايا جنديرس نحو 1100شخص، ومئات المصابين، وتهدم فيها نحو 278 مبنى بشكل كامل، إضافة لـ 1110 مباني تضررت بشكل جزئي، بحسب ما أعلن عنه المجلس المحلي في المدينة.
الصوت مؤشر النجاة الأول.. ماذا عن الذين لم تسمع أصواتهم؟
يصف سامي الحسين ما حدث في سلقين غربي إدلب خلال الزلزال بـ “يوم مهول يشبه ما وصف به يوم القيامة”، يقول بدأ الأهالي يتفقدون ذويهم، يبحثون عن صوت تحت الركام ينقلونه إلى فرق عمليات الإنقاذ للبحث عن عالقين. كان الصوت مؤشر الحياة ودليل عمل الفرق، وسط قلة المعدات والمتطوعين وكثرة العالقين تحت الأبنية المهدمة. أهال في المنطقة حاولوا رفع الأنقاض بيديهم، بما يتوفر من أدوات، بأي شيء، على حد تعبيره.
أمضت هدى وزوجها نحو يوم كامل تحت أنقاض منزلهم في مدينة سلقين، قبل وصول فريق الإنقاذ، تقول: “في الوهلة الأولى لم أكن أميز ما الذي جرى، اعتقدت أنه كابوس. فجأة وجدت نفسي تحت أنقاض المبنى و الخزانة فوقي، أمضيت ساعات وأنا أحاول تخليص نفسي، وبعد أن نجحت وجدت زوجي قربي وقد تهدم فوقه جدار استند على الخزانة، بدأت أساعده بإبعاد الركام، ثم بدأنا بالصياح نحاول إيصال صوتنا إلى الخارج لينجدنا أحدهم. بعد يوم كامل حالفنا الحظ ووصلت الفرق إلينا”. نجت هدى ونقل زوجها إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة أثناء إعداد التقرير.
إلى المدينة ذاتها وأمام مبنى يقطنه الإعلامي عمار الأسود الذي فقد حياته في الزلزال، وصل محمد دندش، صديق عمار، ليطمئن عليه. يروي دندش: “وصلت على حارتو مالقيت البناية، ماحسيت على حالي غير عم صيح بأعلى صوتي عمار وعبد الرحمن، قربت بين الأنقاض شفت حدا عم يضوي بالموبايل من تحت الانقاض بمكان عالي بالبناية، بس مو قادر يحكي فقط عم يضوي، والضو من نفس طابق عمار الرابع، قلت عمار اذا انت طفي الضو وشغلو، الضو طفي واشتغل، ركضت لعند اخوه قلتلو هاد عمار.”
حاول دندش الصعود على الأنقاض لكنه لم يستطع الوصول، وبعد مضي ساعة تقريباً وصل شبان لمكان الضوء، تأمل أن يكون صاحب الضوء عمار، يقول: “كنت آمل أنو هاد عمار، لكن ماطلع هو، كان جارو ومالو قادر يحكي بس سامعنا، وبدو يانا نوصلو، فخاطبنا بوميض الضوء، كانت اشارتو النا وميض جوالو حتى ننقذوا، الساعة العاشرة صباحاً وصل فريق انقاذ، وطلعنا أخو عمار وهو ضامم ابنو وجنبو زوجتو، كلهم متوفين ماعدا طفل كان حي”
لم يكن عمار ممن استطاعوا إرسال صوت أو وميض ضوء أو أي اشارة، لم يصله الحفر حتى عصر الثلاثاء، وجد عمار وزوجته متوفيين تحت أنقاض الدرج، قد يكون توفى من اللحظات الأولى، وقد يكون مثل آلاف الذين علقوا تحت الأنقاض وكُتم صوتهم حتى وافتهم المنية، دون وصول عمليات الإنقاذ السريع لهم. بلغت حصيلة ضحايا مدينة سلقين 512 شخصاً، إضافة لـ 2280 مصاباً، بحسب إحصائية لجنة الاستجابة الطارئة.
إحصائيات لم تكتمل
بلغت آخر إحصائية أعلنها الدفاع المدني مساء الاثنين 13 شباط لضحايا الزلزال في شمال غربي سوريا، بعد مقاطعة الإحصاءات مع أغلب الجهات الطبية 2274 حالة وفاة، وأكثر من 12400 إصابة، استجابت فرقهم لـ 2170 حالة وفاة، وأسعفت نحو 2950 مصاب، مع استمرار عمليات البحث لانتشال جثث المتوفين في عدة أماكن في ريفي إدلب وحلب. في حين أعلن منسقو الإستجابة في آخر إحصائية لهم في 18 شباط الجاري، مقتل 3467 مدني، وإصابة 7438 آخرين.
لا يمكن اعتبار هذه الإحصائيات نهائية، إذ أن هناك فرق شعبية انتشلت ضحايا لأقربائهم في زحمة عمل الفرق الرسمية، ولم يوَثقوا، وغالباً ما كانت تتم عمليات توثيق ضحايا المدن والبلدات في غرف واتس آب لنشطاء منها، إضافة للمفقودين الذين لم تنتشل جثثهم.
صور كثيرة نقلها سكان في المنطقة عن عمليات الإنقاذ الرسمية والأهلية، كذلك ناجون من العالقين تحت الردم. تحملت فرق الدفاع المدني العبء الأكبر، حاولوا أكثر من استطاعتهم في ظل غياب دعم أممي للمساعدة في عمليات الإنقاذ. كان يمكن أن تكون الكارثة أخف وطأة، لكن ذلك ما حدث.