تمضي الساعات ببطء على موسى الأحمد، جدُّ الطفلتين: سمر، 11 عاماً، وقمر، 9 أعوام، بعد تمكن فرق الإنقاذ من إنقاذهما من تحت أنقاض بيتهما المدمر في مدينة جنديرس، نتيجة الزلزل الذي ضرب تركيا وسوريا صباح يوم الإثنين، السادس من شهر شباط (فبراير) الجاري.
أكوام الركام المحطم ابتلعت عائلة الطفلتين اللتين كتب لهما النجاة من الموت، لكنهما لم تستعدن عافيتهنّ، نتيجة الضغط الطويل على جسديهما الصغيرين، واحتمالية إصابتهنّ بـ”متلازمة الهرس” بات خطراً يلاحق حياتهن ويهدد بمضاعفات قد تلازمهنّ، في حال نجين من الموت. يعيش الجد في حالة صدمة، بعد فرحه بنجاة الطفلتين من الموت، وأن عمراً جديداً قد كتب لهما، حسب قوله.
حالة سمر وقمر، شبيهة بحالات كثيرة ممن أنقذوا من تحت الركام، وما إن انتهت مرحلة إخراجهم حتى بدأت مرحلة الكشف السريري تظهر أخطاراً متفاوتة، نتيجة إصابتهم بما يسمى “متلازمة الهرس أو السحق” والتي تحدث نتيجة إصابة جسم الإنسان، وخاصة الأطراف، بالهرس الذي يصيب الجهاز العضلي والعظمي، وكلما طالت مدة مكوث المصاب تحت هذا الضغط على أطرافه أو أحد أجزاء جسمه كانت الحالة أخطر وأصعب في العلاج. ونتيجة الضغط الحاصل تتحلل العضلات المهروسة مطلقة ماتحويه خلاياها من مواد بكميات كبيرة، حسب مساحة الإصابة، وذلك بحسب الدكتور رضا العمر، المدير الطبي لمستشفى إدلب الجامعي.
يقول العمر لفوكس حلب: “عادة ما يتخلص الجسم من المواد السامة عن طريق الكلية، لكن وكونها تفرز بكميات كبيرة تفوق قدرة الكلية على تصفيتها، في حالة متلازمة الهرس، تترسب داخل الكلى، محدثة ثقباً في أنابيبها وقصوراً حاداً بعملها، إضافة لارتفاع شديد بنسب البوتاسيوم الموجود في الدم، ينتج عن الأعداد الكبيرة من الخلايا المحطمة والتي تكون غنية به. والبوتاسيوم من أخطر الشوارد عند ارتفاعه، وقد يسبب توقف القلب والموت، في حال عدم السيطرة على مستوياته”.
سرعة الاستجابة أساس العلاج
تلعب سرعة إخراج المصاب ونقله لأقرب مستشفى أو مركز طبي دوراً أساسياً في علاجه، إذ يوصى، أثناء عملية إنقاذ المصاب، برفع الضغط المطبق تدريجياً، والذي أدّى للهرس، على مكان الإصابة، رغم صعوبة تطبيق ذلك في الأوقات الحرجة، كما يوضح العمر، إذ تحتاج هذه العملية لخبرة عالية، وأن لا تغيب احتمالية تعرض المريض لهذه المتلازمة عن بال المسعفين، وتزويد المصاب بكميات كبيرة من السوائل، في البداية عن طريق الوريد فور تمكن ذلك، حسب قوله.
أحد مسعفي الطوارئ، الذين قابلناهم، رأى أن الدعم النفسي للمريض وإشعاره بالثقة بالمسعف هو الخطوة الأولى التي عملوا على تطبيقها أثناء إخراج العالقين، تليها خطوة ربط أعلى الطرف المهروس بقاطع كورنيت (رباط ضغط) لضمان عدم عودة السموم للجسم، في حال عادت التروية الدموية بشكل مفاجئ للأطراف، يلي ذلك تزويد جسم المصاب بسائل ملحي، بعدها تبدأ مرحلة سحب المصاب من تحت الجسم الهارس بشكل تدريجي، ثم يُنقل المريض إلى أقرب مستشفى، هذه الإجراءات تساهم في إنقاذ حياة المصاب وعدم تطبيقها قد يعرض قلب المصاب للسموم وتوقف نبض القلب، ثم الموت، كما يوضح المسعف.
يؤكد المسعف أن الكوادر الطبية وفرق الإنقاذ مدربة على التعامل مع حالات الهرس، على عكس المدنيين، الذين تطوعوا لإسعاف المصابين، يقول: “المدني أو المتطوع يكون همه إنقاذ روح من الموت، لكن ليس لديه الخبرة في التعامل الطبي مع الأمر، فالمتطوع، سواء كان من أهل الحي أو أحد الجيران، يكون دائماً في مكان الحدث قبلنا، نحن المسعفين، وهذا ما جرى في الأيام الأولى من الزلزال، الأمر برمته شديد التعقيد، فبينما نحن سعداء بوجود متطوعين، إلا أن هناك خطورة على المصابين بمتلازمة الهرس، ساعة إنقاذهم”.
الكوادر المدربة لا تغطي الاحتياج
وقوع الكارثة في اللحظة نفسها وفي أماكن مختلفة شتت جهود وإمكانيات الكوادر الإسعافية للفرق والمؤسسات الطبية في المنطقة، خاصة في المدن والبلدات الأكثر تضرراً “جنديرس، سلقين، حارم، الأتارب، بسنيا، الدانا، أرمناز، بتيا”، إذ وثق تقرير نشره منسقو استجابة سوريا تدمير ما يقارب 1314 منزلاً سكنياً، وسجلت آخر إحصائية لمنظمة الدفاع المدني 2274 حالة وفاة وإصابة 12400 شخصاً.
تُفسر الأرقام الكبيرة هول المصيبة، والاحتياج الكبير الذي يتطلب جهود دولٍ لتغطيته، في حين عجزت فرق الإنقاذ المحلية عن ذلك، ما دعا الأهالي لتشكيل فرق مدنية تطوعية في معظم الأماكن، وسارع الأقارب والجيران كذلك إلى المساهمة في انتشال الضحايا من الحارات والأبنية القريبة. قلة خبرة المدنيين بأساسيات التعامل الطبي مع حالات العالقين تحت أنقاض المباني زاد من خطورة بعض الإصابات، وهذا ما أكده الدكتور رضا العمر.
في السياق ذاته، يقول العمر: “في حالات الكوارث وكثرة عدد الضحايا يفوق الأمر قدرة المسعفين لتغطية الحالات، ويصبح كل من يستطيع المساعدة يسهم في الإسعاف، وهم غالباً غير مدربين أو مؤهلين، للتعامل الصحيح ليس مع هذه المتلازمة فقط، بل حتى مع الإصابات العظمية والعمود الفقري، إذ قد يجري نقل واستخراج الضحية بشكل خاطئ، ما يؤدي لحدوث أضرار أكثر خطورة من الإصابة نفسها”.
ضعف إمكانيات القطاع الطبي يفاقم الكارثة
قُدِّرت نسبة ضحايا متلازمة الهرس في مستشفى إدلب الجامعي بأكثر من ثلث المرضى، بشكل تقريبي، كما يوضح العمر، إذ أن متلازمة الهرس تحتاج أن يوافق على قبول المرضى الدخول لوحدات العناية المركزة، وقسم كبير منهم بحاجة لإجراء غسيل كلى لعدة مرات، وغالباً ضمن وحدة العناية، ومستشفى إدلب بالأصل تشكو من قلة عدد الأجهزة ونقص مواد تشغيلها، حسب تعبيره.
وتابع العمر حديثه: “العلاج الصحيح والسريع لهذه المتلازمة يحد من تطورها ويمنع تحولها إلى عواقب مزمنة، في حال توفرت الإمكانيات من أجهزة غسيل كلى مع محطاتها ضمن وحدات العناية وزيادة ودعم مراكز غسيل الكلى بالكلف التشغيلية وإضافة أجهزة غسيل مع محطاتها للمستشفيات التي تملك وحدات عناية مشددة هو الاحتياج الحقيقي الذي، إن توفر للمشافي، ستكون قادرة على سدّ الاحتياج اللازم لمعالجة المصابين”.
آمال معلقة وأخرى لم تكتمل بالنجاة
“كسرتِ قلبنا يا شام” عبارة قيلت بحق الطفلة “شام” التي أنقذتها إحدى فرق الدفاع المدني السوري من تحت ركام منزلها المدمر في مدينة أرمناز غربي إدلب، بعد الفرح الذي تبعه حزن، نتيجة الإعلان عن إصابة الطفلة بمتلازمة الهرس، حسب ما نُشر على صفحة الدفاع المدني في فيسبوك، وذُكر في المنشور أن حالة الطفلة شام حرجة وهي بحاجة لرعاية طبية متقدمة، إلا أن الأمل لم ينقطع، فهي تتلقى الرعاية اللازمة في إحدى مستشفيات مدينة إدلب.
لحق الطبيب والأديب مصطفى عبد الفتاح، المنحدر من مدينة إدلب، بعائلته وتوفي بسبب توقّف قلبه بشكل مفاجئ، نتيجة إصابته بمتلازمة الهرس، بعد إنقاذه قبل أيام من تحت الأنقاض في مدينة أنطاكيا التركية، ما يؤكد أن نجاة المصاب من الموت تحت الركام لا تعني نجاته من مضاعفات خطيرة، قد تؤدي إلى الموت وقد يكون أخطرها متلازمة الهرس التي تتدخل بها عدة اختصاصات منها؛ الأعصاب والجراحة والكلى والقلب وجميعها يجب أن تكون ضمن أقسام العناية المركزة. يقول العمر في ختام حديثه معنا: “لا يوجد احتمال واحد محدد للمصاب بمتلازمة الهرس، والشفاء هو أحد الاحتمالات ونسبة ضئيلة قد يصلون لمرحلة القصور الكلوي الدائم”.
تحديات كبيرة يواجهها الناجون من تحت الأنقاض وذووهم، في الشمال السوري، في مرحلة التعافي بالتزامن مع فقر الإمكانيات الطبية، ومستشفيات تشكو من ضغط كبير منذ حدوث الزلزال، إذ ما يزال جزء كبير من المصابين مهددين إما بالموت أو الإصابة بأمراض مزمنة.