تتقطع الأنفاس في ترقّب ما يحدث، جميعنا تسمّرنا ونحن نشاهد ما التقط ونقل من مشاهد، تحت الأنقاض كان العالقون ينتظرون كوة نور أو ثقب في الهدم، فرق الانتظار كانت تترقب صوتاً يدلهم على حياة ما قبل أن ينقطع الأنين، عائلات كانت تترقب فوق الأرض بعض حياة، على المعابر كان أهال يترقبون وصول جثث ذويهم، علّها لا تكون لهم ليشتعل أمل إنقاذهم من جديد، أو لوداعها قبل دفنها، فرق الإنقاذ كانت تترقب ما يعينها على الاستمرار، ولادة جديدة تقول لهم إن بإمكانهم مواصلة البحث.
بقعة نور بين الركام
“أنا متسطح قعدتي ما مريحة، بس إيدي فوقها حجار وكتير انتفخت وعضلت” جمل قالها شاب سوري عالق تحت أنقاض منزله في ولاية هاتاي التركية، خلال مكالمة هاتفية مع أحد أقاربه الناجين من الزلزال، كان يترقب الوصول إليه قبل أن يفقد الحياة.
“ساري توفى، خرج الدم من أنفه وفمه”، ساري أخ للشاب الذي كان يتحدث مع قريبه، كان صوته خائفاً وصوت محدّثه عاجزاً عن طمأنته، لا يوجد وسيلة للوصول إليه وإنقاذه، طلب السماح والغفران وانتهت مكالمته مع العالم الخارجي، ليبقى وحيداً تحت الردم يترقّب مصيراً مختلفاً عن مصير أخيه.. تلك مكالمة بين عالمين يجمعها رابط واحد، الترقب، نحن الذين نترقب وصول فرق الإنقاذ وهو الذي يترقب بقعة نور ويداً تمتد إليه لإخراجه.
يروي مصطفى بعد نجاته من تحت أنقاض منزله في بسنيا بريف حارم، أنه كان يترقب حدوث معجزة ما، استغلّ لذلك كل ما يملكه من طاقة لتثبيت نفسه وأطفاله العالقين معه في المكان. “كنت أتحسس بقدمي مكان وجود أطفالي الثلاثة، لأطمئن على أنهم ما يزالون على قيد الحياة، سبع وثلاثون ساعة أمضيناها تحت الأنقاض قبل أن نرى النور.
وسط ظلام حالك وسقف اقترب من الأرض حتى لامس رأسي، حاولت تهدئة أبنائي، رددنا ما نعرفه من أدعية وأناشيد لأشغالهم عن العطش الذي بدأ يأخذ من أجسادهم. لشدة فرحي بعثور فرق الإنقاذ علينا واقتراب نجاتنا، شعرت أني قادر على رفع طبقات الأسقف التي كانت فوقنا حتى أنقذ أطفالي”.
كوة صغيرة، أحدثها رجال الدفاع المدني في جدار يفصلهم عن مكان وجود العائلة، أنهت حالة من ترقّب المصير المجهول إلى النجاة.. خرج الأطفال الثلاثة ووالدهم إلى الشمس، لم يشعروا ببرودة الطقس، كان الفضاء فسيحاً هذه المرة، أكبر من قبر، كان باستطاعتهم الوقوف ومد أيديهم للضوء. حكايات كثيرة للترقب تحت الأنقاض رواها ناجون، قسم من الحكاية فقدت مع أشخاص لم يكتب لهم النجاة ولا يمكن لجثثهم رواية ما كان من ترقب في اللحظات التي سبقت موتهم.
على ضفاف الركام.. نحن نترقب
ساعات طويلة قضاها سكان المناطق المنكوبة فوق ركام منازلهم ومنازل أحبائهم وأصدقائهم، يترقب الجميع أي خبر، بصيص أمل، أنين، أو أي شيء يخرج من المجهول.
يدل سكان يعرفون المنازل فرق الإنقاذ، يشيرون بأصابعهم لغرف وأمكنة من المحتمل أن يكون العالقون فيها ما يزالون على قيد الحياة، يرسمون مخططات على الأرض لتوزعها، يصلّون ويحوقلون ويسبحون، يناجون الله ويناشدون فرق الإنقاذ والمتطوعين، أي أحد بإمكانه مساعدتهم، يتعبون، يجلسون على الركام، بعضهم ينفث سجائره على معدة تصيح من الخواء بعد أن نسيوا الطعام والشراب، يعتدلون في جلستهم ويزرعون المكان بخطواتهم، ينصتون برهافة سمع، قد ينامون فوق الركام غير آبهين ببرودة الطقس والمطر.
نقّل ليث الشيخ بعيون تائهة نظره بين مجموعات فرق الإنقاذ، مترقباً بلهفة لحظة إخراج أحد أفراد أسرته حياً من تحت أنقاض منزلهم بجنديرس، عدد أفراد أسرته العالقين “أبي وعمي وستي وخالتي وحرقة قلب”، تمنى ليث أن يكون مصيرهم مغايراً لمصير عمته التي أخرجت من تحت الأنقاض قبل وقت قصير، وقد فارقت الحياة.
تبدلت نظرة الحزن في عيني ليث، أشرقت، وارتجف صوته وهو يسمع أحد فرق الإنقاذ يقول “عايش عايش”، ركض إلى مصدر الصوت علّه يكون أحد أفراد أسرته.
بالقرب من نار أشعلتها لتشعر بالدفء، جلست الحاجة أم محمد، من بلدة البارة بجبل الزاوية، أخبرت كل من مرّ أمامها أنها قضت الأيام الثلاثة الماضية تنتظر خروج أفراد عائلة أخيها (١١ شخصاً) العالقين تحت ركام منزلهم في قرية عزمارين، بريف مدينة حارم، حيّاً، لكن ذلك لم يحدث، فارقوا جميعهم الحياة و انتشلت جثثهم، و”بقي حمودة الصغير تحت الأنقاض”.
كان قد مرّ أربعة أيام على الزلزال عندما بدأت تفقد الأمل، سكنها الحزن وضيق الصدر، لم تقوَ على كبح دموعها المنهمرة حزناً على فراق أحبتها، تحاول الخروج من المكان لكن “حمودة” ما يزال عالقاً، ترجو أن يكون بخير، تعتذر عن عجزها، تقول إنها “أخت الرجال أنا يا ابني.. بس المصاب كبير”.
نعمل ونترقّب.. الخوذ البيضاء
بين أكوام من الحجر والباطون، وخلف كل حجر يزاح قصة لمتطوعي الدفاع المدني، يترقبون بقلق إحداث ثقب في المكان لإخراج ناج كتبت له الحياة من جديد، يفرحون، يكبرون، يحضنون الأطفال ويعانقون بعضهم البعض. يخيم الوجوم على وجوههم مع كل ضحية، يطرقون برؤوسهم، يعتذرون لها، لأنفسهم، للواقفين هناك، حيث الجميع يجمعهم خيط الترقّب.
تلتزم جميع فرق الدفاع المدني الصمت، أثناء قيام زميلهم يوسف العزو بالنبش في أحد الجدران بقرية بسنيا، يرهف هو السمع عله يسمع صوتاً يشير لوجود أحياء، يخترق صوتٌ أكوام الحجارة ليصل إلى مسامع يوسف، بعد أيام أربعة قضتها العائلة تحت الركام، كانوا ثلاثة أطفال ووالدتهم ووالدهم، جميعهم خرجوا أحياء، كان المشهد هائلاً، تكبير وضحك وهتاف ودعاء وبكاء في آن معاً. “كأنك دخلت الجنة أو كشعور من أنقذ ابنه من الموت”، “تفرح العين وتدمع في آن معا” كان تعبير يوسف عما حدث.
العثور على ناجين تحت الأنقاض كان يسرّع حركة العمل، هناك أحياء عالقون في كل مكان، ضعف المعدات وقلتها كان يستعاض عنها بالصبر وباستخدام ما هو متاح. العمل واستمراره يقلل من شعور العجز، والترقّب بين عالمين، فوق وتحت الأرض، دفع (ضحوك العزو) المتطوعة في الدفاع المدني لمواصلة العمل حتى الصباح، رغم أحقيتها بالاستراحة مساء.
تروي العزو لفوكس حلب، كيف أثر بها مشهد طفل يترقب لحظة عثورنا على رفيقه، الطفل الآخر العالق تحت ركام منزله، وكم كانت ردة فعله محزنة حينما قمنا بانتشال رفيقه من بين الأنقاض جثة هامدة، بالمقابل كانت لحظة إنقاذنا لفتاة و اخوتها ووالدها أحياء دافعاً للفرح.
صور ومشاهد كثيرة عاشتها ضحوك خلال ستة أيام متتالية، هي زمن رحلة البحث عن ناجين، لحظات اكتشفت خلالها قوة داخلية لم تعهدها فيها من قبل: “كنت أرافق آلات الحفر الثقيلة أثناء عملهم، شعرت أن لدي قوة إحدى تلك الآليات، وأنه يمكنني رفع الكتل الاسمنتية بيدي”.
بعيدا عن أماكن الهدم والبيوت المتساقطة على رؤوس أصحابها، كانت صور أخرى للترقب تسكن وجوه أشخاص يقضون ساعات من النهار يترقبون وصول جثامين أقربائهم وذويهم الذين قضوا في الأراضي التركية بفعل الزلزال .
العودة إلى مسقط الرأس
أمضى هشام السليمان خمس ساعات رفقة زوجته وبعض من أقاربه، على معبر باب الهوى، على الحدود السورية التركية، في محافظة إدلب، ينتظرون قدوم السيارة التي تحمل جثمان والده، ستين عاماً.
في زاوية قريبة من مكان وقوفهم جلس سمير أبو علي على حافة الرصيف بعد أن تعبت قدماه من الوقوف، يرقب لحظة وصول جثمان ابنه الشاب الذي قضى في كهرمان مرعش تحت أنقاض المعمل الذي كان يعمل به ليعيل أسرته في الداخل السوري.
يتقدم موكب سيارات من المعبر قادمة من الجانب التركي يهرع الجميع نحوها، يحمل موجودون في المكان جثث ذويهم، يتعرفون على وجوههم، يطلقون العناء للبكاء والتحسب، يحملونهم ويبتعدون عن المكان إلى مقابرهم حيث لا شيء بعدها يوحي بالترقّب والانتظار. هشام وسمير لم تصل جثامين من يترقبون وصولهم، مثلهم كثر، عادوا إلى أماكنهم، يجلسون على زوايا الرصيف أو يمضون الوقت بخطوات متثاقلة جيئة وذهاباً.
نحن على أهبة الترقّب
زاحم الخوف الترقّب على مكانه في حياة السوريين، خوف دفع الجميع لمتابعة صفحات التواصل الاجتماعي، غثها وثمينها، وما تحمله من معلومات وتنبؤات وخيالات، دون التثبت منها.
“ننام ونحن نترقّب حدوث هزة جديدة”، “نخاف من أي صوت حتى وإن كان عواء كلب خوفاً من إنذار بزلزال أو هزة جديدة”، “نرتدي ثيابنا ترقّباً للخروج إلى الشارع حتى في ساعات الليل”، “نترقّب أي خبر يقول انتهى الأمر عودوا إلى منازلكم”، “نسمع أصوات واتس آب خائفين، نترقّب خبراً فاجعاً يضاف إلى قائمة الأسماء التي فقدناها”…