“كيلا نصبح أرقاماً”. “ماتوا لاجئين مهجّرين.. على الأقل نستطيع رؤيتهم مرّة أخيرة”. “نزور قبورهم ونقرأ الفاتحة على أرواحهم.. ذلك ما نحتاجه اليوم”. “مسقط الرأس.. نحن ندفن جثثنا في أرضنا”. عبارات كثيرة انتشرت على ألسن ذوي ضحايا الزلزال وهم ينتظرون جثث أحبائهم على معبر باب الهوى، في الحدود السورية التركية، لاستلامها، توديعها، ودفنها في مقابر قراهم إن أتيح لهم ذلك، أو في مقابر خصصت لدفن ضحايا الزلزال في المنطقة.
الأعداد الكبيرة للضحايا، والتي تجاوزت 41 ألف شخص من السوريين والأتراك، في الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وسوريا في السادس من شباط الجاري، حالت دون تطبيق إجراءات دقيقة للتعرف على ضحايا الزلزال السوريين وتوثيقهم ونقلهم، ضحايا آخرون ما يزالون تحت الأنقاض حتى هذه اللحظة.
من حالفه الحظ استطاع نقل جثة ذويه إلى سوريا ليدفن فيها، في الوقت الذي انتشرت صور لقبور مرقمة لا تحمل شاهدتها أسماء من دفنوا فيها، وضمت فيها من لم تتمكن المكاتب التركية والفرق التطوعية السورية من التعرف عليهم وسط زيادة عدد الضحايا وانشغال الجميع بالبحث عن ناجين تحت الأنقاض، وتكدّس الجثث في برادات المستشفيات.
في آخر إحصائية لمعبر باب الهوى، بلغت عدد الوفيات القادمة من تركيا عبر المعبر 1529 ضحية، ولم نتمكن من الوصول إلى إحصائية دقيقة بعدد الضحايا الذين دفنوا في تركيا سواء من الذين تم التعرف عليهم أو أولئك الذين دفنوا مجهولي الهوية وحملوا أرقاماً عوضاً عن أسمائهم.
البداية من المستشفيات التركية
لا تجد موطئ قدم داخل المستشفيات التركية لكثرة المصابين والضحايا، الدماء تملأ المكان، الممرات مكتظة، والبحث عن إجابة مثل التفتيش عن إبرة في كوم قش.
وسط هذه المأساة كان سوريون يبحثون عن ناجين أو ضحايا من ذويهم في المستشفيات، متطوعون أيضاً بشكل فردي أو بمجموعات تشكلت، قسم منهم اتجه لمساعدة فرق الإنقاذ، آخرون تنقلوا بين المستشفيات لمساعدة الأهالي بالتعرف على ذويهم، ونقلهم إلى مناطقهم بعد استلامهم.
في المستشفيات التركية يوثق مختصون الجثامين أصولاً، ويبقون عليها داخل البرادات لمدة لا تزيد عن 48 ساعة، نتيجة الأعداد الكبيرة للوفيات.
تختلف طرق توثيق الضحايا داخل المستشفيات بحسب المعلومات المتاحة، إذ يتم توثيقها، في حال تعرّف أحد الأشخاص عليها من ذوي الضحايا أو الفرق التطوعية بأسمائها، ثم تنقل بشكل فردي أو جماعي إلى معبر باب الهوى وتسليمها إلى مكتب التنسيق الطبي في الجانب السوري من المعبر، أو يتم تسليمها لذويها الراغبين بدفنها في الأراضي التركية.
ينقل الضحايا إلى معبر باب الهوى بطريقتين، من قبل ذوي الضحايا أنفسهم وعلى نفقتهم الشخصية، إذ يتم تسليمها أصولاً، حصراً لأحد أقارب المتوفى، والذي ينقلها بدوره إلى “مقبرة الريحانية” لتوثيقها ونقلها إلى المعبر السوري، أو في قوافل جماعية من المستشفيات إلى المعبر عبر سيارات البلدية التركية.
يروي حسن قسّوم، فقد أحد أشقائه في مدينة اسكندرون التركية: “بعد 24 ساعة تمكنت فرق الإنقاذ في حي مصطفى كمال بمدينة اسكندرون من استخراج جثة أخي، توجهت إلى المستشفى العاجل لاستلام الجثمان ونقله بشكل فردي، لم أكن أريد انتظار القوافل الجماعية التي تنقل الضحايا إلى المعبر، وصلت إلى مكتب الموتى في مقبرة الريحانية المخصص لاستكمال عملية التوثيق، هناك سلّمت الجثمان لتنقله سيارة الجنازات إلى معبر باب الهوى”.
ويقول عثمان حلّاق، متطوع في أحد الفرق السورية في ولاية هاتاي تعمل على متابعة الضحايا والتعرف عليهم “بعد تدقيق الصور والمعلومات المرسلة من ذوي الضحايا ننسق مع المكاتب الطبية داخل المستشفيات التركية. أحياناً نبحث في برادات عدة مستشفيات للوصول إلى الضحية والتعرّف عليها وإثبات معلوماتها تمهيداً لنقلها إلى الأراضي السورية”.
يشرح محمد السويد، متطوع سوري في فرق الإنقاذ والبحث عن الضحايا في تركيا “تبدأ الإجراءات بالتعرف على الضحية من قبل أحد معارفه، ومن ثم ينقل إلى مقبرة الريحانية لتوثيق اسمه الثلاثي بشكل قانوني، لتلافي أي إشكال أو مطالبات مستقبلية من قبل ذوي الضحايا بجثمان ولدهم، ومن ثم يتم نقله بواسطة سيارات الصحة التركية إلى معبر باب الهوى في الجانب التركي، حيث يكون بانتظارهم قسم الجنازات التابع لمكتب التنسيق الطبي السوري، ليقوم باستلام جثامين الضحايا مزودة بأسمائهم الكاملة ونقلها إلى الجانب السوري من معبر باب الهوى لتسليمها لذويهم الذين ينتظرون وصولهم أمام المعبر، بناء على الاسم والتعرف على الوجه”.
الضحايا مجهولو الهوية أو الذين لم يتم التعرف عليهم لصعوبة الوصول إلى المستشفيات أو غياب أحد أقاربهم عن المكان، يدفنون في الأراضي التركية، يقول السويد “الكثير من الضحايا السوريين، لا سيما في الأحياء التي يوجد فيها العمال السوريون بنسبة قليلة، ينتشلون دون وجود لأحد من ذويهم أو أصدقائهم ليتعرف عليهم، وعدم وجود أي ثبوتيات تعريفية بالضحية، تنقل الجثامين بعد وضعها في أكياس إلى مقابر خصصتها الحكومة التركية لذلك النوع من الوفيات، وتوثق كل ضحية بتصوير الوجه والرمز لها برقم، ومن ثم تدفن في تلك المقابر”.
وأضاف السويد أن السبب في زيادة عدد الضحايا الذين دفنوا بأرقام في المقابر التركية نجمت عن كثرة الضحايا ونزوح معظم السوريين عن المناطق التي استهدفها الزلزال، لا سيما مع توالي الهزات الارتدادية، ما حال دون القدرة على التعرف عليها.
قبل أن تجد الضحية
صعوبات جمّة تواجه الأهالي والفرق التطوعية للوصول إلى الضحايا والتعرّف عليهم ونقلهم، يقول عثمان حلّاق إن فرقاً تطوعية تشكلت بهذا الخصوص في معظم الولايات التركية، تشترك فيما بينها في غرف واتس آب لتبادل المعلومات والصور وتسهيل عملية التعرف على الضحايا.
قد يضطر شخص للتنقل بين عدة مستشفيات للوصول إلى الضحية، إن أسعفه الحظ بذلك، قد يصل الأمر إلى التنقل بين ولايات عديدة، وهو ما يفرض وقتاً طويلاً، وتكلفة كبيرة.
بعد التعرف على الضحايا، يقول مازن علوش، مدير مكتب العلاقات العامة في معبر باب الهوى، يجب على الأهالي والفرق التطوعية اتباع الإرشادات التي حددتها الحكومة التركية لتجنب الوقوع في مشكلات خلال نقل الجثامين.
تنقل الجثث إلى مكتب الموتى في مقبرة الريحانية المخصصة لتوثيق بيانات الضحايا عند الموظفين المختصين، يعتبر هذا الإجراء إلزامياً وبدونه لا يسمح بإدخال الجثامين إلى سوريا. بعد عملية التسجيل تنقل سيارة البلدية التابعة للدولة التركية الجنازات إلى معبر باب الهوى (بشكل مجاني)، وتسلم الجثامين إلى فريق تخريج الجنازات التابع لمكتب التنسيق الطبي بالمعبر ومن ثم إلى ذويها أصولاً.
من المعبر إلى المقابر السورية
تبدأ رحلة جديدة لجثامين الضحايا منذ لحظة وصولها إلى معبر باب الهوى في الجانب السوري. أمام المعبر عشرات من العائلات يترقبون لحظة وصول جثث أقربائهم واستلامها. منكوبون ينتظرون دفن ذويهم ليضافوا إلى من فقدوهم في الزلزال داخل مدنهم وقراهم، يتجمعون عند كل سيارة إسعاف تصل إلى المكان، يحمل قسم منهم جثمان قريبهم، تمضي دقائق قبل أن يعود المترقبون إلى أماكن انتظارهم، باستثناء من يحملون فقيدهم على ظهر سيارة استقلوها على حسابهم الخاص بعد أن تعرفوا عليه، يمضون به إلى ذويه، يلقون عليه نظرة الوداع الأخيرة قبيل دفنه.
لا تعرف أسماء الضحايا حتى لحظة استلامها الذي يتم وفق إجراءات تتبعها السلطات التركية بدء من العثور على الضحية وحتى وصولها لذوي الضحايا في الشمال السوري، بحسب مكتب استعلامات الجنازات التابع للمكتب الطبي في معبر باب الهوى. وهو ما يدفع ذوي الضحايا للانتظار أمام باب المعبر.
يقول من التقيناهم من أهال أمام المعبر “إنهم على تنسيق مستمر مع أشخاص سوريين في تركيا بدء من العثور على جثامين أقربائهم تحت الركام وأخبار فرق الإنقاذ بالتعرف عليهم، وحتى وصول جثامين الضحايا الى معبر باب الهوى واستلامها من قبل ذويهم، الذين أخبروهم بضرورة تواجدهم أمام المعبرلاستلام جثامين أقربائهم”.
يقول ناصر اسماعيل، والد فريد الذي قضى تحت الأنقاض في تركيا وسلّمت جثته إلى معبر باب الهوى بعد التعرف عليها من قبل أصدقاء سوريين في تركيا
” تلقيت اتصالاً هاتفياً في وقت متأخر من الليل من قبل أحد أصدقاء ولدي المرافقين لفرق الإنقاذ التركية، أخبرني أنهم عثروا على جثة فريد وأبلغني بالحضور صباحاً إلى معبر باب الهوى لاستلام جثمانه”.
تسلم الجثامين بعد التعرف عليها وتقديم اسمها من قبل ذويه الموجودين في المكان، دون أي إجراءات أخرى وفق ما أفاد به مكتب الجنائز في معبر باب الهوى.
تغيب سيارات الإسعاف التابعة للحكومة ومعها سيارات الدفاع المدني عن المشهد، باستثناء القليل منها، بعد أن انشغلت معظمها بمرافقة فرق الدفاع المدني المنهمكة في رفع الأنقاض وإسعاف المصابين في الداخل السوري.
ويتحمل ذوو الضحية نقل جثمان فقيدهم على حسابهم الخاص إلى مكان دفنه، في ظل انتهاء مهام إدارة المعبر عند تسليم جثمان الضحايا لذويهم أمام المعبر، وفق ما أفاد به مازن علوش مدير الإعلام في المعبر.
ليست وحدها سيارات الإسعاف غائبة عن المشهد، فالحال ذاته ينطبق على مشاهد التأبين و التغسيل والدفن، فمعظم من حضروا كانوا أمام خيارين إما دفن جثامين من فقدوهم إلى المقابر الجماعية التي تكفل بحفرها مجموعة من الجمعيات والمنظمات الإنسانية لدفن ضحايا الزلزال في الداخل السوري، أو حفر قبور على حسابهم الخاص ضمن المقابر التي يتجهون إليها.
اختار، عمر عبيد من بلدة سرمدا، تسلّم جثة ولده من معبر باب الهوى، بعد خمس سنوات من غربته في العمل داخل تركيا، دفن ولده ضمن مقبرة أقربائه، في بلدة سرمدا بعد أن قام بتجهيز قبر على حسابه الخاص قبيل حضوره لاستلام الجثمان.
يقول العبيد “خمس سنين مضت وما قدرنا نشوفو وهو عايش، أقل ما يضل قريب منا ونقرالوا الفاتحة كل يوم وهو ميت”.
الدفن في مقبرة المدينة، بالنسبة لولد عبيد، كان متاحاً، حاله كحال قرى كثيرة يسهل الوصول إليها، لكن كثر من النازحين لم يستطيعوا نقل جثامين ذويهم إلى مسقط رأسها، خاصة القرى والبلدات التي تقع تحت سيطرة مناطق النظام، إذ لجأ هؤلاء إلى دفن موتاهم ضمن مقابر تبنتها جمعيات خيرية، بدء من التغسيل والتكفين وانتهاء بالدفن ضمن مقابر جماعية تم فصلها بقطع من حجارة الطين لاستيعاب أكبر عدد من الضحايا، وهو حال أنور الحلاق أحد المهجرين من ريف إدلب الجنوبي.
دفن الحلاق اثنين من أقاربه بعد انتشالهم من داخل ركام أحد الأبنية الواقعة في بلدة سلقين داخل إحدى المقابر في منطقة حارم والتي تكفلت بشرائها وحفر القبور فيها جمعية التعاون.تلقى الحلاق نبأ وفاة ابنه داخل الأراضي التركية بالتزامن مع انتشال جثامين أقاربه في الداخل السوري، ليقوم باستلام جثمانه بعد ثلاثة أيام من الزلزال من معبر باب الهوى وينقله إلى تلك المقبرة الجماعية ليدفن بجانب أقاربه هناك.
يقول الحلاق “كانت أمنيتي الأولى جلب جثمان ولدي من تركيا وقد تحققت، وكنت أتمنى أن أدفنه في مقبرة البلدة التي نزحنا منها، ولكن قدر الله وما شاء فعل”.
تتوقف جهود الجهات المعنية باستقبال الضحايا السوريين الواصلين من تركيا عند تسليم الضحايا لذويهم أمام المعبر، فيما يتكفل أهالي الضحايا بمتابعة الأمر على حسابهم الخاص بدء من التسليم وحتى نهاية الدفن، وسط حضور ضعيف لمعظم المنظمات.
مضت سنوات على إغلاق المعابر أمام حركة المسافرين السوريين ذهاباً وإياباً من وإلى تركيا، لتفتح على مصراعيها من جديد لدخول جثامينهم إلى مسقط رأسها بعد طول انتظار من ذويهم، بأكياس سوداء وجثث هامدة مصحوبين بورقة بيضاء دونت عليها أسماؤهم.