لم ألقِ بالاً لصراخ زوجتي عندما صرخت برعب “زلزال” وكررتها مرّات عديدة، اعتقدت أنها هزة أرضية صغيرة ستمر بسلام كما جرت العادة منذ شهور قليلة، ولكنها استمرت أكثر من توقعاتي. كانت ابنتاي الصغيرتان تغطان في نوم عميق، احتضنتهما معا، وخيمت أنا وزوجتي بجسدينا فوقهما، ونحن نسترجع الآيات وننطق الشهادة بتواتر مرعب.
مددت يدي نحو الجدار، كنت أظن أن بإمكاني منعه من الاهتزاز، بحثت في دهاليز ذاكرتي عن عمل طيب قمت به يوماً ما، عسى أن يكون شفيعاً لي ولعائلتي، ولكني شعرت بأنني فقدت ذاكرتي.
ما يزال البناء يهتز بعنف جيئة وذهاباً، زوجتي تردد الشهادة بذعر. كانت إحدى ابنتي تبتسم، تسأل عن سبب خوفنا وتعتقد بأنه أمر مضحك. لم تكن تعِ ما يحدث، ربما شاهدت الضعف الذي تغلغل في قلوبنا!
كنت أحسب أننا سنهوي إلى الأسفل بآمالنا وأحلامنا وذكرياتنا ومستقبلنا وديوننا المتراكمة في أي لحظة، شعرت بأن الموت يمسك بأساسات البناء ويحركها ذات اليمين وذات الشمال بلا توقف كي يهزأ بنا.
الدوار الدهليزي في أذني كان يزيد من التخلخل الذهني الذي أحدثته الهزة، والأضواء الخامدة المعلقة بالسقف كانت تتراقص فوقنا كأننا وجبة شهية. لقد كان كل شيء يتحرك إلا نحن. لم أحصِ عدد الثواني لكنها كانت دهراً، تذكرت كفي على الجدار الذي بدأ يهدأ رويداً رويداً كأنه قط أليف، ثم عمّ السكون.
على عجل ارتدينا ملابسنا وحملنا أوراقنا الثبوتية، هبطنا سلم البناء باتجاه أقرب مساحة خالية من الأبنية. لم تمض دقائق قليلة حتى رأيت حجارة تمطر على الأرصفة من فوق الأبنية وجدرانها، السيارات تزرع الشارع بصخب أبواقها وأضوائها المتخبطة، الهلع يرتدي كل الوجوه التي مررنا بها وكأنه يوم الحشر بعينه.
عندما وصلنا الحديقة المجاورة كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحاً، احتمينا بشجرة تتوسط المكان. الغبار يكاد يلتهم الأوكسجين في الجو، لم نلبث هنيهة حتى بدأت زخات المطر لينقشع المكان عن بناءٍ سوّي بالأرض، لم يكن الموجودون يسمعون إلا صراخاً مخنوقاً يخرج من تحت الأنقاض، لم يستطع أحد الاقتراب من سيول الموت التي بدأت تتدفق من تحت الركام، لقد كان الموت قريباً جداً.
تذكرت سيارتي التي تربض تحت بناء بيتي، ربما …وربما.. لم يكن الأمر يستحق المغامرة، قد أموت في الطريق، وقد أخسر عائلتي في فترة غيابي، لقد أصبحت أعظم الأمنيات أن نموت معاً، أو ننجو معا!
أكثر من خمسمائة شخص تجمعوا في حديقة لا تتجاوز أبعادها نصف هكتار، أطفال ونساء ورجال وكبار بالسن. وقفت إلى جانبنا عائلة مؤلفة من سبعة أفراد، بينهم امرأة عجوز لا تقوى على الحراك، فهمت من حديثهم بأن ابنها حملها على ظهره مسافة 100 متر، لم أستطع التمييز بين العرق المتصبب من جبينه وقطرات المطر، لهاثه الشديد كان الفيصل.
امرأة حامل تتأرجح أمامنا، يكاد صوت الجنين يخرج من أوجاعها، زوجها يجرى اتصالات هاتفية، وما من مجيب. الوحل بدأ يتثاقل في أقدامنا كأنه يريد أن يجرنا نحو الأسفل.
اتصلت بجميع أفراد أسرتي ولكن الشبكة كانت رديئة، رأيت اسم والدي على شاشة الهاتف. تلك كانت أعظم راحة أحظى بها. أخبرني بأنه بقي في سريره ولم يتزحزح قيد أنملة قائلاً: لكل أجل كتاب، وذكرني بالحصار والبراميل المتفجرة التي كانت تصفر فوق رؤوسهم في كل ساعة.
مرّت ساعتان إلى أن بدأت السماء بنشر ضوئها الخافت، تلك كانت المرة الأولى لم يؤذن فيها المؤذن لصلاة الفجر، ربما كان ذلك إنذاراً بموت مقيم، ذلك أن صلاة الموت تكون بلا أذان!
في السابعة صباحاً بدأت أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء والدفاع المدني تقترب من المكان، كي يخرجوا أول الناجين من الحياة!
موت بالتقسيط
هدم الزلزال الطوابق العلوية في بناء مخبز النقار، بكرم الجبل ولم يبق سوى على الطابقين الأول والثاني، كان ذلك كافياً لتستعيد (أنسام)، رباطة جأشها وتخرج بطفليها الصغيرين محمد 5 أعوام، وعلي الذي لم يتجاوز عمره عامين، وأم زوجها المقعدة وهي على أبواب العقد السادس، استغرق الأمر خمس دقائق لترتج الأرض من تحتها مرة أخرى وهي تراقب السماء تقذف الهاربين بالحجارة وتطلي وجوههم بالغبار.
تروي أنسام “عندما ارتجت الأرض، احتضنت ولدي بقوة، صوت والدة زوجي وهي تردد “يا لطيف…يا لطيف البناء ينهار” جعلني أفقد توازني، حملت طفليّ باتجاهها وتكومنا معاّ تحت طاولة خشبية أضع عليها عادة الأغطية والوسائد وفرش المعونة”.
تسكن أنسام في حي كرم الجبل في بيت مستأجر، يعمل زوجها في شركة توزيع تضطره على التنقل بين المدن السورية، لا يحتوي البيت سوى على غرفة واحدة وممر يؤدي إلى الملحقات، وأنسام تعمل في مشفى خاص بدوام جزئي حتى تتمكن من التوفيق بين العمل والبيت مقابل مبلغ لا يتجاوز 125 ألف ليرة.
حاول الدفاع المدني إخراج الجثث من الطابق العلوية التي التصقت سقوفها ببعضها البعض بعد أن انهارت الجدران، ولكن دون جدوى إلى أن اهتزت الأرض بعنف بحدود الساعة الثانية ظهراً، كان ذلك كفيلاً بهدم ما تبقى من أمل بالدخول إلى المبني بعد أن أغلق الركام مدخل البناء نهائياّ.
تذكر أنسام تلك اللحظات وتبكي، “أمضيت مع عائلتي أكثر من ثماني ساعات ونحن نعد الجثث التي يخرجونها تباعاً، أبو أحمد، أخته، والده، أم علي المرأة الوحيدة، أبو قاسم وثلاثة من أبنائه، عائلات بأكملها أبيدت. حاولت الدخول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البيت، ولكن الشرطة وفرق الإنقاذ منعونا، حرصاً على حياتنا، لم يعلموا أنهم كانوا يقتلونني في كل مرة أرجع فيها خائبة”.
تضيف أنسام وهي تجهش “انتظرت لساعات تحت المطر، كانت الريح الباردة تلطم أجسادنا المبتلة من كل جانب، مشينا بعيداً بعد أن أخذ منا التعب والإرهاق كل مأخذ، إلى أن وصلنا إلى جسر الصاخور حيث أمضينا الليلة بالعراء، أمام جذوة صغيرة من نار”.
“اتصلت بزوجي بعد أن شحنت هاتفي في مكان مجاور، اطمأن علينا ولكنه كان بعيداً بالقرب من مدينة حماه، اتصلت بمدير المشفى الذي طلب مني إحضار من معي والمبيت في المشفى لكن عزة نفسي منعتني”
البارحة وصلني اتصال من رقم غريب، كانت الشبكة رديئة جداً وكان صوت أنسام يأتي متقطعاً: ” أنا أنسام.. أنا في الطريق إلى حماه، لقد وقع حادث لزوجي أثناء توجهه إلى حلب.. هو في حالة خطرة، ثم انقطع الاتصال”.