فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

مرَّت تسعة أيام .. واللحظات الأولى ما زالت بأذهاننا 

محمود السويد

جميع من نجوا من الزلزال ما زالت عالقة في أذهانهم لحظته الأولى، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.

“نحنا بخير.. حالياً قاعدين جوا السيارة أنا وعيلتي… لا .. بعيد عن البنايات.. ناطرين ليطلع الصبح علينا ونعرف شو صار”. بهذه العبارات المقتضبة والسريعة أوجز يحيى طيَّارة، مُهجّر من مدينة حماة، مكالمته مع أهله المقيمين في مخيمات دير حسان بالقرب من مدينة الدانا، وهو يجلس في سيارته رفقة زوجته وأطفاله الأربعة، إذ تحولت السيارة لملجأ مؤقت للعائلة التي اضطرت للفرار خارج منزلها إثر الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، فجر يوم الاثنين، 6 شباط (فبراير) الجاري.

أنهى يحيى مكالمته والتفت إلى زوجته وأطفاله يطمئنهم أن بيت الجد بخير. اكتفت الأسرة  بالجلوس على مقاعد سيارتهم في انتظار طلوع ضوء الصباح، هذا جل ما كان متاحاً لهم في ذلك الوقت.

بعد مرور تسعة أيام على الزلزال المدمر، ما زالت اللحظات الأولى التي أعقبته عالقة في أذهان الناجين من أبناء الشمال السوري، إذ أنهم إلى الآن تحت تأثير الصدمة بسبب ما عاشوه من لحظات قاسية من موت ودمار وفقدان لأقربائهم وذويهم.

سؤال “لوين بدنا نروح؟” بقي صداه يتردد في ذهن عبد الله الحاج، حين لاذَ بالفرار حاملاً ابنه الرضيع وخلفه زوجته من منزلهم في الطابق الثاني الكائن بأحد أحياء سرمدا الغربية، راكضاً في الشارع تجاه سيارة أخيه عبد الباسط، حسب ما روى لنا. 

يقول الحاج: “تسعة أفراد، هو تعداد أسرتي وأسرة أخي، حشرنا جميعاً داخل سيارة مصممة لخمسة أفراد فقط، بقينا في حالة من الصمت المطبق، ولم أكن أسمع في تلك اللحظة سوى دقات قلبي المتسارعة وأصوات أبواق السيارات في الخارج، بعدها بلحظات طغت أصوات انهيار المنازل ومحتوياتها”.

على جانب الطريق المؤدي إلى كفر دريان، غربي سرمدا، توقفت بهم السيارة، كل ما كان يشغل بال الأسرتين أن تكونا بأمان، قرر عبد الله تجربة الاتصال بأهله المقيمين في مخيم كفر لوسين، ومن حظه أنه يملك شريحة من نوع “فور جي” مرتبطة بشركة اتصالات تركية مباشرة، تمكنه من الاتصال من أي مكان في شمال سوريا، وبعد اطمئنانه على سلامة أهله وعدم تضرر منزلهم بالزلزال، فكر بالذهاب إلى حيث أهله فهم أكثر أماناً، وشارك أخيه عبد الباسط رأيه، فعارض الأخير الفكرة إذ أن الطريق غير آمنة واقترح العودة إلى منازلهم بعد أن يهدأ الوضع قليلاً، ليتفقدوا محتوياتها وما حل بها.

في تلك الأثناء كانت الزوجتان مشغولتان بتدفئة أطفالهما وطمأنتهم أن الحال سيكون على ما يرام، لكن محاولاتهم لم تجد نفعاً، خاصة مع الطفل بكر، 11 شهراً ، الذي عبر عن صدمته بالبكاء والصراخ. 

في جانب آخر من مدينة سرمدا، لجأت أسرة هاشم للاحتماء تحت شجرة كينا اتقاءً من المطر المتساقط بغزارة، مبتعدين ما أمكنهم عن المنازل خوفاً من سقوط إحداها، حاول هاشم البحث عن شبكة اتصال لكن ما من شبكة متوفرة في تلك اللحظات، كما يروي لنا، وانقطاع الكهرباء عن المدينة زاد الظلام حلكة، والبرد تملك أجساد أبنائه الثلاثة الصغار فراحوا يرتجفون برداً وخوفاً وغاصت أرجلهم الحافية في طين الأرض.

“عبثاً تحاول أن تجد ملاذاً آمناً وسط الخراب والظلام” يقول هاشم، وبعد أن تمالك أعصابه قليلاً، تذكر أن هناك مغسل للسيارات بالقرب منهم لديه شمسية من ألواح التوتياء، تصلح أن يتخذوا منها ملجأ مؤقتاً يقيهم من قطرات المطر التي عجزت أغصان شجرة الكينا عن حملها، فأسقطتها عليهم على دفعات، حسب تعبيره

حين وصل هاشم وأسرته المغسل، لمحَ رجلاً يحمل هاتفه الجوال ويجري مكالمة، فطلب منه إجراء مكالمة مع أخيه القاطن في كفردريان، فوافق الرجل، وبلهفة اتصل هاشم بأخيه، يقول: “عادت الروح لي حين سمعت صوت أخي، وأخبرني أنهم بخير وأنه في سرمدا قادماً باتجاهي ليحملنا إلى منزله”.

الخيام أكثر أماناً من المنازل

تفاجأ يحيى طيَّارة بزوجته وهي تطلب منه المسير بالسيارة باتجاه مخيم دير حسان، ليقضوا الليلة عند أهله، “كان طلباً غريباً في وقتها” يقول يحيى، فزوجته كانت تعارض دائماً فكرة السكن في مخيم، لدرجة دفعته للتخلي عن المسكن الذي أمنه له والده بالقرب من خيمتهم، وذلك نزولاً عند رغبة زوجته. يقول طيّارة: “في طريقي إلى المخيم تساءلت في نفسي؛ هل باتت الخيمة أكثر أماناً الآن؟” وتابع طريقه.

في مخيم القلعة، القريب من مدينة سرمدا، هرع السكان خارج منازلهم وخيامهم يستطلعون ما جرى لحظة وقوع الهزة العنيفة، نساء وأطفال ورجال، ملأوا شوارع المخيم خلال ثوانٍ معدودة، الجميع يتساءل ماذا حدث؟ ولا يملك أحد إجابة قاطعة. “قامت القيامة” قالتها العجوز أم أحمد، وهي ترد على سؤال “كنتها”، مصحوبة بعبارات الشكر لله بعد أن تيقنوا من سلامة الأبنية المنخفضة والخيام، إذ يبدو أن ارتفاع جدران الأبنية المنخفضة والذي لا يتجاوز بمعظمه المترين ساهم في صمودها لدقيقة كاملة، هي زمن موجة الزلازل العنيفة.

بدأ سكان المخيم بالعودة لداخل منازلهم وخيامهم، بعد أن هدأت الهزات قليلاً، فالوقوف تحت المطر، وفي درجات حرارة تحت الصفر، أمر صعب، خاصة على الأطفال، لهذا آثروا البقاء داخل مساكنهم وتحت سقوفها بانتظار عودة شبكات الاتصال للعمل.

لا خطر على منزل من طابق واحد

قضى محمد وقاص الساعات التي أعقبت الزلزال متجولاً بين منازل أقاربه وأهله، بعد أن توقف  الزلزال، واطمأن على سلامة أفراد أسرته بالكامل، بعدها غادر منزله واستقل سيارته وطلب من زوجته التزام الحذر والخروج إلى فناء المنزل الفسيح، في حال عاودت الهزات مرة أخرى.

يقول الوقاص: “كنت أعرج بين الفينة والأخرى على منزلي اطمئن لحال أسرتي، بعد أن تأكدت من سلامة أقربائي والذين أعرفهم، فاجأني جمع غفير من النساء والأطفال في فناء منزلنا جالسين تحت المطر وسط هذا البرد، جميعهن هاربات من منازلهن، خائفات من تكرر الهزات”.

وأضاف: من حسن الحظ أن منزلي مؤلف من طابق واحد ولديه حديقة فسيحة، جعله أكثر أماناً من غيره بعيون جيراني في الحي، كنت في غاية السعادة لنجاتهم”.

الخوف على الأطفال وانعدام وسائل التدفئة

احتضنت ليلى الخطيب طفلتها الرضيعة ماري، وشعرت بالحسرة، وهي في طريقها إلى بيت أهلها القريب برفقة زوجها، شعور الحسرة  كان مبعثه الخوف من فقدان طفلتها، كما تقول، وهي لم تشبع منها بعد “للحظات، ندمت لكوني أتيت بها إلى هذه الحياة القاسية وتعاني ما نعانيه”.

أما الشابة ياسمين، والتي كانت تسكن في الطابق الرابع في إحدى شقق سرمدا، فلم تدرك ما حدث لهم إلا بعد أن عادت شبكات الاتصال للعمل، وعلمت حجم الكارثة التي حلت بالشمال السوري، ومنها مدينتها سرمدا، تقول: “لو كنت أفكر وقتها لما غادرنا الشقة لنقف على الدرج وكأن الدرج أكثر أماناً من داخل الشقة، شُلَّ تفكيرنا من هول الموقف”.

ولم يكن حال دعاء القش، 26 عاماً، أفضل، إذ مرَّ شريط حياتها القصير أمام عينيها والموت أصبح وشيكاً، حسب تعبيره. تقول: جلست وعائلتي في سيارة أخي بالقرب من منزلنا الكائن في مدينة الدانا، منتظرين أن يهدأ الزلزال، بعدها عدنا للمنزل والذي بدا لنا أنه لم يتضرر كثيراً جراء الزلزال الذي حدث”.

هناك عائلات آثرت البقاء في منازلها لحظة الزلزال، ظنا منهم أنها مجرد هزة أرضية طفيفة ككل الهزات التي مروا بها، رافقها انقطاع كامل للتيار الكهربائي، وانعدام وسائل التدفئة، وهذا ما حدث مع أسرة هبة العلوان التي اختارت البقاء في منزلها الكائن بمدينة إدلب.

تقول هبة: “لم ندرك حجم الخطأ في بقائنا إلا عندما سمعنا أصوات الناس في الشوارع وهي تلوذ بالفرار بعيداً عن المنازل، وعلى أنوار شبكة الكهرباء البديلة التي كنا نملكها، جلست وأسرتي، متحلقين حول المدفأة، نراقب الجدران وما علق عليها، متأهبين لأي هزة قادمة، لكن بعدها اتخذنا قراراً بالإجماع لمغادرة المنزل وعلى الفور”.

يبدو أن اللحظات التي أعقبت الزلزال، حفرت بذاكرة كل من عاشها، وستظل ترافقهم لوقت طويل في حياتهم، فالزلزال أحدث ندبة عميقة في داخل كل من نجا من الموت.