من داخل أحد الأبنية المتواضعة التي أنشئت لاستقبال النازحين في مخيمات دير حسان، شمالي مدينة الدانا، عند الساعة 4:17 دقيقة فجراً، استيقظت على تساقط أجزاء صغيرة من السقف، والأرض تتأرجح يميناً وشمالاً. مرَّت ثوان، حاولت استيعاب ما يحدث، واختلط الأمر علي؛ فقد سبق تلك اللحظة عاصفة ثلجية شديدة البرودة، دفعت كل سكان المنطقة للعودة إلى منازلهم باكراً، نهاية يوم الأحد 5 فبراير، فهذه الأجواء غير مناسبة للتسكع والسهر لوقت متأخر مع الأصدقاء خارج المنزل.
أصوات الصراخ القادمة من الخارج وبكاء الأطفال الذي امتزج مع سقوط وتحطم الأطباق والأكواب الزجاجية في المطبخ، جعلتني أتأكد أن هذا ليس تأثير العاصفة، إنه زلزال.
أيقظت زوجتي على الفور لتساعدني في حمل أبنائي إلى خارج المبنى، إلا أن الهزة الأرضية اشتدت، وبدأ السقف يتشقق والماء يتسرب منه على رؤوسنا، شعرت أن الأوان قد فات، رغم أن باب الشقة لا يبعد عني سوى متراً ونصف المتر، حسمت أمري بأن نبقى مكاننا، احتضنت أطفالي وزوجتي، وطلبت منها نطق الشهادة.
توقف الزلزال، لم أعلم كم مرَّ من الوقت، ثوانٍ .. دقائق ..ساعات؟ خرجت مسرعاً إلى الخارج، لأتفاجأ بوجود الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً، كان الظلام شديد القتامة، لكن الأضواء الخافتة القادمة من المنازل عكست ملامح الناس الممتلئة بالفزع، متخشبة من أثر الرياح الباردة التي تلفحها. خرجوا جميعاً بثياب نومهم، لا أحد يعلم ما الذي حدث؟ لكن أصوات الصراخ والعويل والبكاء كانت تنذر بالشؤم.
بعد خمس عشرة دقيقة من الزلزال الأول، بدأ كابوس الهزات الارتدادية الناتجة عنه، صاحبها حالات من الهلع والريبة، وضرب المنطقة زلزال ثانٍ بقوة 6.6 على مقياس ريختر، مصدره بلدة العثمانية الواقعة ضمن الأراضي التركية، تلاه ست هزات أرضية تجاوزت بقوتها ستة درجات، بأقل من ساعة على الزلزال الأول، حدث كل ذلك في شوارع المخيم، الذي بات بمعزل عن العالم الخارجي، انقطع تيار الكهرباء وشبكة الانترنت نتيجة تقطع الأكبال في الأراضي التركية والتي تغذي الشمال السوري بالطاقة الكهربائية.
توالت الأخبار الكارثية مع بدء تحويل شبكة الانترنت على الخطوط الاحتياطية في المخيم، عشرات الضحايا ومئات المباني دمرت على رؤوس ساكنيها، آلاف المفقودين ومدن لا زالت شبكة الإنترنت فيها خارج الخدمة ومصيرها مجهول. عائلات بأكملها تحت الأنقاض، وعبر مكبرات الصوت في المساجد، بدأنا نسمع أخبار الموت. فُتحت البيوت للعزاء ومعها حفرت المقابر الجماعية، إذ لم تعد المقابر الفردية تتسع.
المشاهد المفجعة تتراكم أمام أعيننا في كل لحظة، لم نعد ندري أي منها هو الأشد قسوة، إذ رأينا مشهد الأم التي كانت تنتظر فريق الدفاع المدني إخراج ابنها العالق تحت الأنقاض رفقة عائلته وبعد انتظار 48 ساعة من عمليات البحث أصيبت بالصدمة، عندما أُخرجت أشلائهم، لم ينج أحد. ورأينا مشهد المقابر الجماعية التي تم فصلها بقطع من الحجارة، لاستيعاب أكبر عدد من الضحايا، ومشهد المياه التي تسربت إلى تلك القبور وجمدها الطقس البارد. ورأينا مدن وبلدات دمرت بشكل شبه كامل، والخيام التي امتلأت بالعراء وازدحمت بالعائلات التي خافت من العودة إلى بناءٍ قد ينهار على رؤوس ساكنيه في أي لحظة.
كل ذلك ليس أشد من قسوة مشهد العائلات التي افترشت الأرض، على المعبر الذي يصل بتركيا، بانتظار وصول جثامين أبنائهم القادمين من الجانب الآخر من الكارثة، ليصلوا بلباس الكفن، تمهيداً لدفنهم، بعد طول انتظار للقائهم.
لم تنته تبعات الزلزال حتى الآن، فقد بلغ عدد الضحايا حتى هذه اللحظة 2166 حالة وفاة و 2950 إصابة و479 بناء مدمر بشكل كامل و 1481 بناء مدمر بشكل جزئي، هي محصلة لثمانين ساعة عمل أمضتها فرق الدفاع المدني رفقة متطوعين من الأهالي في البحث عن ناجين من ضحايا الزلزال الذي ضرب المنطقة. تزامن ذلك مع وصول 1100 جثمان لضحايا الزلزال من معبر باب الهوى قادمين من الأراضي التركية في أحدث إحصائية لإدارة المعبر.
اعتدنا القصف والدمار وضحاياه، لكن لم ندرك أن هنالك ما هو أعظم من ذلك، لم نكن ندرك أن فعل الزلازل سيغلق قيود عوائل بأكملها دون نجاة لأحد من أفرادها ليحمل اسم عائلته، وألفنا النزوح ومشقته، هرباً من بطش نظام دكتاتوري، لكن لم نتوقع أن هنالك نزوح آخر ينتظرنا سببه زلزال سيطبق منازلنا على رؤوسنا.