قبل الزلزال بيوم، كانت لقاء العُمَرْ، 19 عاماً، تتفق مع مصففة الشعر على موعد للذهاب إليها، وتختار مع شقيقتها الأغاني التي سيرقصن عليها في حفلة عرسها، وتتابع مع خطيبها بقية التجهيزات وتتحدث أيضاً ابنة خالتها منيرة مكالمة فيديو، عبر واتس آب، لتزغرد الأخيرة فرحاً باقتراب موعد الزفاف، وتعدها بأن تكون أول الواصلين إلى العرس.
جاء الزلزال في اليوم التالي، وحول يوم العرس إلى مأتم، إذ جاء خبر موت خالها وجميع أفراد عائلته في مدينة حارم، بعد سقوط المنزل عليهم جراء الزلزال الذي ضرب المدينة. بعد سماعها الخبر دخلت لقاء غرفتها، تأملت فستان زفافها بحسرة. بجانب الفستان كانت قد وضعت باقة الورد التي كانت ستحملها بيدها وهي تدخل صالة العرس، والطرحة البيضاء التي ستضعها على رأسها، حملت الطرحة وضمتها إلى صدرها وانهارت باكية. لم تتوقع أن يكون موعد زفافها وفاة أقرب الناس إلى قلبها، حسب ما روت لنا.
تقول العمر، المقيمة في كللي، بريف إدلب: “بدلاً من أن يزفوني عروساً إلى بيت زوجي، زفوا ستة شهداء إلى المقبرة، ليته يكون مجرد كابوس ونستيقظ منه. في كل دقيقة أشعر أن صوت منيرة يتردد في ذهني، وأحاول أن أقنع نفسي بأن الخبر كاذب وبأنها ستطرق الباب في أي لحظة”.
منذ شهر كامل، وأولاد عمي في جنديريس يحضرون أنفسهم ليوم زفافي، وعدوني بأن “يحرقوا الجو” ويغنون من بداية العرس حتى نهايته، ويدبكون ويرقصون حتى تتعب أقدامهم، يقول عمار الأحمد، خطيب لقاء، إذ أنه لم ينم من شدة الفرح.
لم يتخيل عمار أن يوم الزفاف سيتحول إلى جنازة لأولاد عمه الثلاثة، وبدلاً من أن يحملوه على أكتافهم خلال “عراضة العريس” حملهم بمساعدة مجموعة من الناس في التوابيت متجهاً إلى المقبرة، يشعر بالندم لأنه لم يبقى معهم خلال المساء، لأن الموت أهون من الفراق والحزن، حسب تعبيره.
خلَّف الزلزال في مدينة جنديرس وحدها 513 حالة وفاة و831 مصاباً و200 مبنى مدمر بشكل كامل و500 مبنى بشكل جزئي، حسب آخر إحصائية للدفاع المدني السوري.
الدمار الهائل الذي أحدثه الزلزال بجنديرس، دفع كثيرين من القرى المجاورة للذهاب إليها ومؤازرة ودعم أهالي الضحايا هناك، من بينهم الشاب علاء بيوش، 28 عاماً، الذي قرر الذهاب من قرية دير حسان إلى جنديرس، مسافة 28 كيلو متر، واستطاع الوصول إلى أول المدينة، لكنه لم يستطع الدخول من كثرة تجمع الناس هناك، وظل يراقب من بعيد محاولات فريق الدفاع المدني إخراج ضحايا الزلزال، العالقين تحت الأنقاض، ولفت انتباهه طفل أُخرج منذ لحظات من تحت الأنقاض وقد ملأه الغبار من شعر رأسه حتى أخمص قدميه، ويحمل سندويشة وزجاجة ماء، يأكل والتعب باد على ملامح وجهه، كما يروي لنا، وحين عرف قصته، اكتشف أنه الفرد الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من أسرته.
يقول البيوش: “نحتاج الكثير حتى نتخطى ما حصل.. ربما أعوام.. وربما أكثر”.
من جنديرس إلى قرية الملند، التي تتبع ناحية الجانودية في منطقة جسر الشغور في محافظة إدلب، كان هناك المزيد من الضحايا العالقين تحت الأنقاض، إذ تروي مريم الأحمد مشهد انتظار والدتها، إخراج أخيها يونس وعائلته من تحت أنقاض بيتها، تقول: “وقفت أمي أمام منزل أخي يونس الذي دمر بفعل الزلزال وبدأت بالصراخ: “يونس .. يا أمي أرجوك رد علي وسمّعني صوتك” ثم تخاطب الشباب الذين اجتمعوا لإخراجه من تحت الأنقاض، وتشير بيديها إلى المكان الذي ينام فيه يونس وعائلة عادة، ثم تترجاهم بأن يسرعوا وتقول: أنقذو ابني”.
أصرت أم يونس على البقاء بالقرب من مكان بيت ابنها، مع أنها مصابة بالربو وتتحسس من الغبار، وتحاول إزاحة الحجار بيديها اللتين ترتجفان من البرد والخوف، وتدعو الله وتتوسل إليه بدموع منهمرة، حسب تعبير مريم.
بعد ساعتين، تمكن المتطوعون من إخراج يونس وزوجته وأولادهما الأربعة، إلا أنهم فارقوا الحياة، لتسقط أم يونس على الأرض غارقة في موجة من البكاء والصراخ حتى أغمي عليها.
سيطر الخوف على الجميع، كل واحد منا يريد الاطمئنان على أحبته، وحالة الترقب والانتظار المميت للأعصاب دفعت الكثير من الشبان لمساعدة الدفاع المدني السوري بإخراج العالقين تحت الأنقاض، بعد إطلاق نداءات استغاثة، وفي بعض المناطق أصبح انتشال الضحايا من تحت ركام بيوتها، مهمة كل شخص قادر على المساعدة، مثل الشاب أبو الطيب، من مدينة الدانا، الذي سمع صراخ رجل مسن عالق بين الركام، ولا يستطيع الحركة بسبب وقوع الدرج وأحجار اسمنتية على قدميه.
يقول أبو الطيب: “بدأت على الفور بإزالة الأحجار، واستغرقت العملية مدة ساعة تقريباً حتى أخرجته، ثم نقلته إلى أقرب نقطة طبية”.
صدمة وبكاء ووجوه شاحبة وأجساد منهكة، تعكس حجم الفاجعة التي أصابت من فقد أخاً أو ابناً أو عائلة بأكملها، وتكاد قصص الفقد أشبه بسلسلة التفت حول أعناق السوريين المكلومين، العاجزين أمام رحيل ذويهم المفاجئ، وهذا ما حصل مع السيدة فهمية الصالح، 55 عاماً، نازحة في ترمانين، إذ رفضت أن تدفن حفيدتها ماريا، 8 أعوام، قبل أن تضعها بجانب المدفأة كي تدفئها، لأنها عندما لمستها وجدت يديها ورجليها باردتين للغاية.
طلبت أم يونس من جاراتها أن يخبزن لها خبز تنور، كي توزعه على الفقراء صدقة على روح ابنها يونس، إذ كان هذا الطلب هو الأخير لابنها لها قبل أن يتوفى بيوم واحد.
لم تنته مراسم الوداع حتى هذه اللحظة، مع كل فقيد يخرج من تحت الأنقاض. أما من قضى هو عائلته بأكملها فلم يكن بحاجة لوداع أحد، لكنه ترك لنا صورته وعائلته في مقبرة جماعية محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد.