عشت في منطقة جنديرس في ريف حلب الغربي حوالي خمسة أعوام مهجراً من دمشق. قبلها كنت أعيش في حي جنوبي العاصمة يقطنه نازحون، فأنا انتمي لعائلة نزحت من الجولان السوري المحتل في نكسة حزيران عام 1967.
هذا يعني أني ولدت نازحاً بسبب إسرائيل، وأصبحت نازحاً بسبب بشار الأسد، وأنا الآن نازح مجدداً بسبب زلزال بقوة 7.8 ريختر يضرب سوريا وتركيا فجر السادس من شباط (فبراير) ويجبرنا على ترك منازلنا.
عندما وصلت وعائلتي إلى ناحية جنديرس، المكان شبه المعزول قرب لواء الإسكندرون على الحدود مع تركيا، كانت التقديرات تتحدث عن حوالي أربعين ألف ساكن يعيشون فيه، لكن المخيمات سرعان ما تكاثرت من حوله ليتضاعف عدد السكان حوالي ثلاث مرات. ولأنّ لا شيء هنا أكثر من الخيام ولا حياة أتعس من العيش فيها، كان قراري منذ البداية ألا أسكن في خيمة، رغم أن إيجار منزل من الاسمنت استنزف جزءاً من دخلي المتدنّي كدخول معظم الصحفيين في الشمال السوري، التي لا تتجاوز 50 دولار شهرياً.
فجر يوم الزلزال خرجت من منزلي في اللحظات الأخيرة قبل انهياره أركض حاملاً طفلتي “جنى” ذات الثمانية أعوام و”جودي” ذات الخمسة، تتبعني زوجتي التي كان لها الفضل في نجاتنا، استيقاظها في اللحظة المناسبة أخرجنا سالمين. أصوات تصدّع بنايتنا كان مترافقاً مع صراخ نسوة الجيران وبكاء أطفالهنّ، وعندما صرنا في الشارع لم نكن نميز من بقي داخل البناء ومن خرج نتيجة انقطاع الكهرباء والظلام الدامس.
لم يكن هناك متسع من الوقت للتفكير بدخول المبنى والبحث عن الباقين خشيةً من وقوع هزات أخرى، تلك التي اعتدنا على تسميتها “هزات” جراء ما تعرضت له المنطقة من هزات متفرقة خلال الأشهر التي سبقت. كانت دقائق لا تتجاوز الخمس فصلت الزلزال الأول عن الثاني، ثم انهار كل شيء.
لم نعد قادرين على التمييز بين صوت الرعد والأصوات التي تنبعث من تصدّع الأرض فهي تشبه لحد كبير صوت الرعد. تهتز الأرض من تحتنا فأضمّ ابنتيّ وأهدئ زوجتي، تسألني إن كنا ما زلنا على قيد الحياة، ننظر أمامنا حيث ثلاث أبنية طابقية مجاورة فنرى غبار سقوطها دون أن نراها من شدة الظلمة، لكن صوت انهيارها إلى الأرض كتم كلّ صوت آخر.
وقع الزلزال الأول في الساعة 4:17 دقيقة فجراً، وتلاه آخر خلال أقل من خمس دقائق. “ليته تأخر قليلاً” تقول زوجتي، فهناك كثر لم يسعفهم الوقت للهروب بعد استيقاظهم جراء الزلزال الأول، خصوصاً أن حدوث الهزات الأرضية في الأشهر السابقة جعل الناس تعتادها وتظن أنها هزّة مثل كل مرة.
كانت الطفلتان ترتجفان برداً بينما الأمطار تنهمر فوق رأسيهما، الهزات المتلاحقة جعلتهما تعتقدان أن رجفان جسديهما ناجم عن زلزال جديد، وفعلاً لم يتوقف اهتزاز الأرض لثلاث ساعات بقينا فيها حفاة وشبه عراة بين أشجار الزيتون تحت المطر.
تذكرت مظلّتي ابنتيّ وفكرت في الذهاب لجلبهما. كانت جود وجنى تنتظران هطول المطر منذ أسابيع كي تحملا المظلّتين في طريقهما إلى المدرسة لكن العطلة المدرسية أجّلت استخدامهما، وعند الحاجة الفعلية لذلك لم يكن هناك قدرة للوصول إلى المظلتين فبقيتا معلقتين على جدار الغرفة المتصدع.
كثيرون/ وحيدون
انبلاج ضوء الفجر أفصح عن حجم الكارثة. جل المباني المحيطة بنا مدمرة، تتسارع خطوات الجميع بحثاً عن أحياء بأيدٍ عارية، وعند التيقن من عجز اليد عن النبش تحت أطنان الركام أو عن إزاحة قضبان الحديد كانوا ينتقلون لبناء آخر وإلى عجز آخر لا تصفه كلمات؛ شابّ ملقى على الأرض، نصف جسده العلوي ظاهر أما النصف السفلي فقد أطبق عليه ركام بناءٍ مكونٍ من أربع طبقات.
تجمّعنا قرابة عشرين شخصاً نحاول رفع الأنقاض من فوق الشاب، كان يستنجد بنا يحثنا على الإسراع في انتشاله وكأنه قرأ اليأس بأعيننا. ساعةٌ رابعةٌ مرت ونحن واقفون ننتظر قدوم جرّافة “تركس”، آلية ثقيلة لرفع الأنقاض عنه، أخيراً أخرجناه دون أن يشعر بقدميه ودون أن نعلم مصيره لاحقاً. عدد الآليات الثقيلة التي حاولت انتشال الغارقين تحت 250 بناءٍ طابقيّ في يوم الزلزال الأول كان لا يتجاوز عشرة آليات فقط.
عند نفس المبنى وقف “أبو ليث” المهجر من كفر نبل بريف إدلب والذي يعمل على صهريج تعبئة مياه الغسيل، ينتظر من يساعده في إخراج عائلته كاملة، والده وجدته وأمه وعمته وخالته و..و..و، طال انتظاره حتى نهاية اليوم الثالث من الزلزال ويبدو أنه فقدهم جميعاً.
لم نميز أيهما أشد علينا، الزلزال أم البرد، كلاهما كان قاتلاً، مدخل بنايتنا شبه مدمر لكنها لم تسقط بعد، ركضت مسرعاً أحضر ما تقع عليه يدي من ملابس وأحذية لطفلتيّ وزوجتي، كان تصدع الجدران مرعباً، جزء منها سقط فوق فراشي تماماً، عدت مسرعاً بما تمكنت من إحضاره، أدفئ به “جنى” و”جودي” وأمهما، إلا أن لا دفء في هذا اليوم والأمطار منعتنا حتى من إشعال نار في العراء.
كنا كثر، لكننا وحدنا تماماً، انقطاع التيار الكهربائي ترافق مع انقطاع خدمات الإنترنت وخدمات شبكة الاتصالات التركية التي تصلنا من الحدود التركية على بعد عشرة كيلو مترات. أرسلنا كثيراً من الرسائل على غرف الأخبار المنتشرة في الشمال السوري، أرسلنا عشرات الرسائل نطمئن فيها ونطمئن كل من نعرفه.
خيمتي فيها غرفتان
خلال السنوات الماضية كان حلم كل مهجر في شمالي غربي سوريا أن يمتلك منزلاً بجدران اسمنتية وسقف يحميه، لكن بعد اليوم لا أمان للجدران. لم يخطر ببالي مكان أجلي عائلتي إليه سوى مخيم دير بلوط القريب من جنديرس فهناك لا جدران تهتز ولا أسقف تسقط.
خيمة “فيصل سريع” وهو مهجر من جنوبي دمشق كانت ملجأنا الوحيد. كانت رسالة فيصل إحدى الرسائل التي وصلتني ومثلت لي طوق نجاة، “عزيزي فداء، خيمتي فيها غرفتان، وحدة منهن إلك ولعائلتك.. تعال مباشرة ناطرك”، عرض لم يحظ به سوى قلّة في جنديرس التي يسكنها أزيد من 3500 عائلة، نصفهم مهجر من دمشق وريفها وحمص ودير الزور، لم يميز الزلزال بينهم.
طريق جنديرس الرئيسي امتلأ بالهاربين في كلا الاتجاهين، نحو مخيم دير بلوط الذي على بعد سبعة كيلومترات باتجاه مخيم أطمة في الجنوب الغربي، وآخرون نحو عفرين شرق جنديرس بـ 20 كيلومتراً. أنشئ مخيم دير بلوط منتصف عام 2018 من قبل منظمة آفاد، هيئة الكوارث و الطوارئ التركية لايواء مهجري جنوبي دمشق، ثم لاحقاً لايواء مهجري ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، وهو يحتوي قرابة 1500 عائلة مهجرة، ولجأ إليه خلال الأيام الاربعة الأولى جراء الزلزال قرابة 50 عائلة جديدة حلو ضيوفاً على عائلات أخرى.
لم يعد أحد يبحث عن منزل اسمنتي، الجميع يبحث خيمة، وأصحاب الخيام الذين كانوا يلجؤون إلى المنازل في عواصف الشتاء الماضية أعلنوا هذه المرة عن ترحابهم بمن نجا من أصحاب المنازل. من لم يتضرر منزله وهم قلة غادروه خوفا من ضربة جديدة مع كثرة الإشاعات التي تناقلتها مجموعات الـ “واتس آب” عن توقع زلزال آخر أشد من سابقيه قوة، وما دفع الناس لتصديق الإشاعة عدد الهزات الارتدادية التي فاقت ألف هزة حتى نهاية اليوم الرابع من الزلزال.
لم تنشط حركة إنقاذ الناس حتى منتصف اليوم الثاني. مع كثرة نداءات الاستغاثة توجه مئات المتطوعين بأدوات تقليدية، رفش وفأس و مطارق للبحث عن أحياء بين جبال الركام، فيما زاد عدد الآليات الثقيلة تدريجياً في اليومين الثالث والرابع، إذ تم إخراج ما بين ثمانين وتسعين عائلة من تحت أنقاض أزيد من 270 بناءٍ أعلن المجلس المحلي عن تهدمها كلياً، فيما تضرر أكثر من 1100 بناء بشكل كبير.
أمل.. وفقدان أمل
إخراج ما أمكن من منزلنا، ملابس وفرش وأدوات مطبخ كان أمر لابد منه، لكن رفع الأنقاض مهمة لم تكن سهلة أبداً من الناحيتين الجسدية والنفسية بعد مرور 48 ساعة على الكارثة. لم يكن لدي قدرة كي أبحث عن لعبة ابنتي “جودي” المفضلة والتي بكت لأجلها قبل النوم في نهاية اليوم الأول، إلا أن الدبدوب أصرّ على اللحاق بصاحبته فوجدته معلقاً بإحدى الطاولات الصغيرة أثناء إخراجها. فرحت برؤيته رغم أني لا أعلم سبب حبّ جودي له.
جل أغراض منزلي كانت سليمة لعدم تهدم بنايتنا بينما آخرون كانوا يبحثون عن صحون وملاعق يتناولون بها وجبة الطعام بين ركام منازلهم، لكن بقي أن نعثر على مكان جديد للسكن. باءت محاولتي بعدم إسكان عائلتي في خيمة بالفشل، بل لم نعد قادرين على الحصول على خيمة خاصة بنا، فإغاثة المنكوبين كان عبر فرق محلية تطوعية في غالبها لا تمتلك دعما دولياً واقتصر معظمها على تقديم المعونات الغذائية بعيداً عن مستلزمات الإيواء.
قضى في جنديرس ما يقرب من 800 شخص وفق إحصائية غير نهائية (مساء التاسع من شباط/ فبراير) وجرحى أضعاف ذلك، وتم تأمين خيم مؤقتة لنحو 600 عائلة فيما بقي قرابة 2700 عائلة دون مأوى حتى نهاية اليوم الرابع من الكارثة. وبلغ عدد ضحايا الزلزال في الشمال السوري عموماً 2030 وفاة وقرابة 3000 إصابة بحسب إحصائيات “الخوذ البيضاء”.
لا داعي للبحث عن ذوي الضحايا في محيط أي بناء مهدم، يكفيك نظرة سريعة لتجدهم جالسين يرقبون بعيون لا يمكن تفسير نظراتها. أمل ثم فقدان أمل مع كل ساعة تمضي. محمد صطوف مهجر من مدينة حمص وسط سوريا، يعمل آذن مدرسة في جنديرس، أُخرج حيّاً من تحت الأنقاض رفقة ابنته وبقي يرقب أن يعثروا على جثامين زوجته وابنتيه الأخرتين، “فقدت تاج راسي وجوهرتين عليه.. والحمدلله ربي سلم لي جوهرة” كما أخبرني بعيون باكية بعد أن دفنهم بقبر جماعي مع بقية الجيران المتوفين.
ضعف الإغاثة المقدمة للمنطقة المنكوبة بدا واضحاً، أو لنقل تخلي العالم عن هذه المنطقة برمتها، فحتى كتابة هذه السطور في اليوم الرابع على الزلزال لم يكن هناك جسور جوية تصل الشمال السوري، ولم يدخل سوى فريق طبي واحد مصري الجنسية يعمل مع منظمة إغاثية دولية، أغلقت جميع المعابر مع تركيا المتضررة من ذات الزلزال، لكن سمح بعبور جثامين سوريين قضوا على الجانب الآخر من الحدود بلغ عددهم حوالي 570 بحسب مازن علوش مدير المكتب الإعلامي في معبر باب الهوى الحدودي.
سماء خالية
تربط سوريا بتركيا عدة معابر أهمها معبر الحمام في جنديرس، ومعبر الراعي، ومعبر باب السلامة في اعزاز، إضافة إلى معبر باب الهوى، كلها كانت نشطة تجاريا بإتجاه واحد فقط، من تركيا إلى سوريا، باستثناء زيت الزيتون الذي يعتبر المادة الرئيسة لمنطقة عفرين وأريافها بما فيها جنديرس، وذلك بحسب ما يرتضيه المشتري من سعر.
وزير الخارجية التركي صرح أن “معبر باب الهوى مفتوح لكن الطرق في سوريا معطلة”، وهو ما يمنع من دخول فرق الإنقاذ، لكن أهالي المنطقة المتجمعين حول جثامين أبنائهم كانوا يتساءلون، كيف يعقل أن أن تعبر الطرق جثامين السوريين دونا عن فرق الإغاثة؟ كذلك الأمر علقت الأمم المتحدة إدخال المساعدات التي كانت تصل إلى الشمال السوري مؤقتاً بسبب الزلزال، وبقينا في الشمال السوري وحدنا في وجه الكارثة بينما كانت الجسور الجوية تغطي سماء جارتنا.
عشرات الآليات غطت جل مساحة جنديرس في اليوم الرابع من الزلزال مترافقة مع آلاف الأشخاص الذين أتوا للمساعدة في البحث عن ناجين وانتشال جثث الضحايا، هذا العدد من المتطوعين الذي افتقدته جنديرس في أول أيام الكارثة بات يشكل عبئاً على فرق الإنقاذ والآليات جراء ازدحام المكان.
أفكر اليوم في عشرات التقارير التي كتبت عن جنديرس ذات التربة الزراعية الرخوة التي لا تصلح للأبنية الطابقية، لكن رغم ذلك كانت تنشط فيها حركة بناء كبيرة قبيل وقوع الزلزال، إذ زاد حجم جنديرس بمقدار الضعف أو أكثر خلال خمس سنوات. أذكر تقارير صحفية أخرى كانت تتحدث عن غياب الجهات الرقابية على مواصفات الأبنية المشيدة حديثاً في منطقة تقع على حزام الزلازل.
بدا اليوم كل شيء واضحاً. شارع الصناعة وسط جنديرس حوى على أكثر من ثلاثين بناءً طابقياً سوّي بالأرض، كذلك الأمر في حي الفيلات غرب جنديرس، فيما بات شارع الـ 16 وشارع سوق الهال وشارع عفرين مدمراً بشكل شبه كامل.
جدران تلك الأبنية تركها ساكنوها وعليها آثار من روحهم، “I LOVE YOU” عبارة حملها جدار منزل مهدم على العظم، بدون إكساء، تدل ربما على وجود عروسين، وسقف آخر حمل بالونات ملونة ملأتها قلوب الحب الحمراء، تدل ربما على حفلة عيد ميلاد حدثت بذات ليلة الزلزال.
نجلس الآن أنا وزوجتي وطفلتاي (والدبدوب) في خيمة عند صديقنا فيصل في مخيم دير بلوط، كدّسنا فيها كل أغراضنا، وبينما نجري اتصالات مع منظمات ومعارف بحثاً عن خيمة خاصة بنا، أكتب هذه المادة وأقرأ على مجموعات الأخبار أنّ مجلس جنديرس المحلي يجد صعوبة في تأمين احتياجات المتضررين مع تعاظم الكارثة، فهو لم يؤمن إلى الآن سوى 20٪ من الخيم للمتضررين.
يبدو أن لا مفر لنا من الخيمة، مهما حاولنا.
تنشر هذه القصة بالتعاون مع موقع خط ٣٠