لم تكن تلك الليلة هادئة، إذ بدأت بمنخفضٍ قطبيّ، كسر سكونه أصوات الرياح وغزارة الأمطار، تخلله صوت نباح كلب تحت نافذة جارتي أم محمد، أرملة تعيش مع ابنها الوحيد، والتي اتصلت بي، قبل حدوث الزلزال، لتعبر لي عن خوفها واستغرابها من الأصوات التي تصدرها الكلاب هذه الليلة، ليأتي التفسير سريعاً باهتزاز الأرض تحتنا، تبعه أصواتنا التي صارت تعلو كلما ازداد الاهتزاز “يالطيف .. يالطيف”، لم يخطر ببالي حينها أن الكلاب كانت تحذرنا لأنها تشعر بالكوارث الطبيعية قبل الإنسان.
ثلاث دقائق، حسبناها ساعات لم تكن تنتهي، صرتُ أدور في الغرفة، أنظر إلى أطفالي، أتساءل وزوجي؛ هل نوقظ الأطفال ونخرج؟ لكنّ الجوّ ماطر بغزارة، نخشى عليهم من البرد، وعندما استوعبنا أن الجدران قد تسقط، استيقظ الأطفال خائفين بسبب الاهتزاز الشديد الذي رافقه طرق جارنا باب المنزل، متسائلاً عن سبب هذا الاهتزاز، إذ أعتقد أن هشاشة بناء المنظمات في مخيمات الكمونة، بريف حلب الغربي، وتشقق معظم جدران البيوت وتسرب مياه الأمطار من الأسقف قد يجعل الجدران أيضاً تهتز بفعل الرياح. لا أعلم إن كان يكابر ولا يريد أن يظهر لنا خوفه من الزلزال، أم أنه فعلاً يعتقد أن الرياح هي سبب الاهتزاز؟
خانتني عيني التي راحت تودع بنظراتها زوجي وأطفالي، لأنها ناقضت محاولتي طمأنتهم وإشعارهم بأن الخطر سيزول بعد لحظات، فقد اعتدنا على هذه الهزات التي تكررت خلال الشهر السابق عدة مرات، لم تكن عيني وحدهما من أشعرتهم بالخوف بل توافد جيراننا إلى منزلنا فضح هول المصيبة التي حلت على الجميع.
عاد ضجيج موتنا من جديد، نحن السوريين، فجر يوم الاثنين 6 شباط ( فبراير) الحالي، وتوقفت عقارب الساعة عند الرابعة وسبعة عشر دقيقة، هذه المرة لم يكن السبب البراميل المتفجرة ولا الإبادة الجماعية، بل على هيئة زلزال أرغم جدران مبانٍ على احتضان أصحابها مخلفاً مئات الضحايا وآلاف من المصابين.
بعد سكون الزلزال اجتمعنا وجاراتي في منزلنا، منهنّ من فقدت زوجها بقصف سابق، وأخريات لا يعرفن مصير أزواجهنّ، وانشغل كل منا بجواله ليبلغ الأقارب والمعارف أن زلزالاً قد حصل، وإذ بمواقع التواصل الاجتماعي تضجّ بخبر زلزال مدمّر بقوة 7,8 على مقياس ريختر ضرب المنطقة، وهذه القوة المدمرة للزلزال تتكرر كل 300 عام، بحسب أحد المراكز المتخصصة بالزلازل، وبدأت بعدها تنهال صور ومقاطع الفيديو التي تزيد من هول الكارثة، وانطلق صوت سيارات الإسعاف استجابة لنداء المتضررين والعالقين ما جعلنا ندرك أن ما حصل حقيقة وليس كابوساً.
“كأنها أهوال يوم القيامة” هي أول ما يخطر في بال من تصله مشاهد الدمار والاستغاثات والعجز الذي بات يظهر شيئاً فشيئاً، صفحات التواصل الاجتماعي بدأت تكشف مناطق هُدمت فيها بنايات وابتلعت جميع قاطنيها النائمين، منها (الأتارب، ترمانين، أرمناز، جنديرس، زردنا، بسنيا، حارم، سلقين، الجينة، الدانا، سرمدا، الباب) هذه المناطق لجأ إليها السوريون الفارون من الموت، ولكل عائلة أقارب يقطنون في إحدى هذه المناطق، لتضاف قصة وغصة جديدة في كل بيت.
مع هول المصاب أطلقت فرق الدفاع المدني نداء استغاثة، كما فعل العديد من الناشطين، يناشدون فيها الدول العربية والدول المجاورة للتدخل والمساهمة في عمليات انتشال الجثث وإنقاذ العالقين، فالكثير من العوائل لم تستطع الفرق الوصول إليها على الرغم من سماعهم أصوات أنينهم وصراخهم التي باتت تخفت شيئاً فشيئاً، وفي كل مساءٍ يقترب تتضاءل فرصة نجاتهم من الموت، فدرجات الحرارة تقترب من الصفر ليلاً، ما يجعل الأهالي يعتقدون أن العالقين تحت الأنقاض، وما زالوا على قيد الحياة، إن لم يموتوا بسبب إصابتهم، قد يموتون من شدة البرد. وتتوالى الخيبات مع توالي الساعات خاصةً أنّ نداءات الناشطين والدفاع المدني لم تلقَ آذاناً صاغية.
انقضى الزلزال الأول، ولم تنقضِ ارتداداته بعد، إذ قُدِّرَ عدد الهزات الارتدادية في اليوم الثاني 7 شباط (فبراير) بـ (78 هزة منها 10 هزات بقوة 5.5، بحسب مركز Solar System Geometry Survey- ssgeos.
مع تكرار الاهتزازات لم يفارق شعور الاهتزاز خولة الحسن، 40 عاماً، وأصيبت بأعراض منها عدم الاتزان والشعور بهزات متكررة وشعور مستمر بالدوار وعدم الراحة، وهذا يسمى متلازمة الاضطرابات الزلزالية بحسب دراسة يابانية حول المتلازمة بعد الزلزال المدمر الذي ضرب اليابان في 11 مارس 2011 (بلغت قوته 9.0 درجة) وقد لوحظ ازدياد الحالات مع زيادة قوة الهزات الأرضية، وتستجيب أكثر الحالات للعلاج وهو الإكثار من شرب الماء والراحة النفسية وتجنب الضغط والتوتر، بحسب عاملة الدعم النفسي التي لجأت إليها خولة في مركز صحيّ قريب من مخيم الكمونة، حسب قولها.
أعاد الزلزال الشعور بالذعر إلى ذاكرة أم رائد، 55 عاماً، من مدينة كفرزيتا بريف حماة الشمالي، إذ تذكرت أيام القصف الشديد قبل تهجيرها إلى مخيمات الشمال، إلا أن القصف كان يلزم الناس بالبقاء في منازلهم، أما الزلزال أجبرهم على الهروب إلى الشوارع والساحات للابتعاد عن الأبنية السكنية.
قبل حدوث الزلزال بأيامٍ قليلة تنبأ العالم Frank Hoogerbeets بحدوثه بالفعل، وما إن وقع، وتناقل الناس منشور العالم، حتى أُنشئت الكثير من الصفحات التي تحمل الاسم نفسه، وراحت تبث الشائعات حول حدوث زلزال آخر أكثر شدة، وكذلك أنباءً عن هزات ستحدث في الساعة الفلانية مع تحديد الدقيقة وقوة الهزة، الأمر الذي زاد من حالات الذعر بين الناس، وراحوا يتداولون هذه الشائعات على منصات التواصل وفي غرف الأخبار على تطبيق الواتس آب. ومع كثرة الهزات الارتدادية بدت الشائعات وكأنها حقيقة، ما دفع العديد من المختصين والمهتمين منهم المهندس أنس الرحمون المتخصص بالأرصاد الجوية لمحاولة طمأنة الناس وعدم تصديق الشائعات من خلال منشورات متكررة عبر جداريته على منصة فيسبوك.
هذه الشائعات دفعت الكثير من الناس لمغادرة منازلهم مفضلين البقاء في الأراضي الخالية من المباني على الموت تحت سقف المنزل، كما أنها تخلق ضغطاً نفسياً وتوتراً مستمراً قد يؤثر على صحة مرضى القلب والضغط وكذلك النساء الحوامل.
تداعيات الزلزال وآثاره لم تنتهي، فما يزال هناك أناس عالقون تحت الأنقاض، أغلب من خرجوا من بيوتهم لم يعودوا إليها، فهي إما دمرت أو لم تعد صالحة للسكن.