بات سكانٌ، في ناحية جنديرس بريف عفرين، ليلتهم في العراء أو فوق أنقاض منازلهم بحثاً عن ناجين تحتها، إثر زلزال وصف بـ “المدمر” ضرب فجر أمس الاثنين، جنوب تركيا وسوريا، وامتدت آثاره إلى الدول المجاورة.
الزلزال والهزات الأرضية الارتدادية التي رافقته طيلة الساعات الماضية تسبب بانهيار وتصدع مئات المباني والمنازل في الولايات التركية والمدن والبلدات السورية، خاصة في مدينتي حلب وإدلب وريفهما وصولاً إلى المناطق الساحلية ودمشق، وخلف آلاف القتلى والعالقين تحت الأنقاض.
وكانت ناحية جنديرس من أكثر المناطق التي تلقت الضربة الأشد إيلاماً جراء الزلزال، ولم يخل حي فيها من سقوط أو تضرر عدد من الأبنية، إذ أحصى فوكس حلب بعد يوم واحد من الزلزال دمار أكثر من مئة مبنى ومنزل في المنطقة، منها نحو عشرة أبنية في حي الفيلات غربي جنديرس، وثلاثين بناء طابقي في شارع الصناعة ومثلها في شارع يلانقوز، إضافة لدمار في أبنية شارع 16 وشارع السوق وشارع الهال وشارع المبلط.
لا توجد إحصائية دقيقة لعدد القتلى في جنديرس، إذ ما يزال أشخاص عالقون تحت أنقاض الأبنية في الناحية شأنها بذلك شأن جميع المناطق السورية المنكوبة، وقدر الدفاع المدني السوري، بعد إعلان شمال غربي سوريا منطقة منكوبة، في آخر إحصائية نشرها صباح اليوم عدد الضحايا بأكثر من 900 حالة وفاة، وأكثر من 2300 مصاباً، والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير، فيما بلغت عدد المباني المدمرة أكثر من 210 بشكل كامل، وأكثر من 520 بشكل جزئي وآلاف الأبنية والمنازل المتصدعة.
عوامل كثيرة أسهمت في زيادة الآثار المدمرة للزلزال الذي تعرضت له المنطقة وبلغت شدته 7.8 درجة على مقياس “ريختر”، منها عمق مركز الزلزال على بعد نحو 17,9 كيلو متر تحت ولاية غازي عينتاب التركية، وكثرة الهزات الارتدادية، وطول الصدع الأرضي على امتداد خط الصدع الزلزالي (100 كيلو متر).
يزيد على ذلك في سوريا طبيعة المنازل السكنية غير المتوافقة مع الزلازل العنيفة، وما تركه القصف المستمر منذ سنوات على المنطقة من أثر في خلخلة أساسات المباني، كذلك البنية التحتية الهشة، وضعف قدرات الاستجابة والطوارئ والمستشفيات.
جولتنا في الساعات الماضية ضمن ناحية جنديرس، وما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية، أظهرت عشرات المواقع المهدمة والمشاهد القاسية، كان أكثرها إيلاماً صعوبة إخراج العالقين تحت الأنقاض، أصواتهم تسمع من تحتها دون القدرة على انتشالهم بسبب ضعف الإمكانيات، بينما يحاول متطوعون إخراجهم بأياديهم العارية أو بمعدات بسيطة من المطارق والأزاميل.
وسط ظروف مناخية سيئة يحاول عناصر الدفاع المدني والمتطوعون من السكان إنقاذ ما يمكن إنقاذه وانتشال الضحايا والمصابين، أماكن كثيرة لم تتح الإمكانيات الضعيفة الاستجابة لها.
“مشان الله بدي باكر، في زلمة ومرته عايشين وعم نحكي معهم”، بهذه العبارة وبلهفة شديدة يركض متطوع في شارع الصناعة في جنديرس بحثاً عن آلية (باكر) لإخراج رجل وزوجته ما يزالون أحياء تحت أنقاض منزلهم. محاولة البحث عن الآليات باءت بالفشل نتيجة لكثرة النقاط التي تحتاج للاستجابة “لا يمكن سحب آلية من مكان عملها إلى مكان آخر حتى الانتهاء” كان رد عناصر الدفاع المدني الذين يحاولون بكل طاقتهم إنقاذ العالقين تحت الأنقاض.
مئات الأشخاص من المتطوعين والأهالي يحاولون قدر استطاعتهم فعل أي شيء.. يأس وأمل بالبحث عن ناجين.. الأيادي تمتد إلى الحجارة المتهدمة وتنقلها بعيداً.. الآذان تصغي السمع لالتقاط أي إشارة توحي بحياة ما.. أهال يبكون أحباءهم وهم يشيرون إلى أماكن ألفوها قبل سقوطها ويدلون عليها للمساعدة في تحديد أمكنة البحث.. يسقطون على الأرض بعد أن عجزت أقدامهم عن الوقوف من جديد.. فرحة باستخراج طفل ولد منذ قليل وأشخاص كتبت لهم الحياة مرة أخرى، ما تزال أجسادهم حارة تلك دلالة أنهم ما يزالون على قيد الحياة.. إجهاش بالبكاء على عائلات فقدت بأكملها.. وساعات من الترقب علّ معجزة توصلهم إلى همسة أو أنين عالق لإنقاذه.
سيارات الإسعاف والمستشفيات عاجزة عن تلبية النداءات الكثيرة، لم يعد هناك سرير فارغ في المنطقة والوصول إلى سيارة إسعاف بات مهمة جديدة يصعب تحقيقها، بالرغم من المناشدات الكثيرة لدول العالم في المساعدة، تبدو الأمور أكثر صعوبة، فتركيا المتنفس الوحيد للسوريين في المنطقة منكوبة هي الأخرى، والحلول المتاحة قليلة لا تتعدى الدعاء والاعتماد على ما تبقى من أمل يبقيهم على قيد الحياة.
الهزات الارتدادية أسقطت أربعة مبان جديدة في جنديرس، ومثلها العشرات في مناطق سورية مختلفة، لا تمض دقائق قليلة دون الشعور بهزة أرضية جديدة، إذ قدر عدد الهزات بأكثر من 120 هزة ارتدادية تفاوتت شدتها، من نجا من الأهالي اتخذ من الشوارع والأراضي الزراعية ملجأ في ليلة ماطرة شديدة البرودة، شوادر وضعت على سيارات وتحولت إلى ملاجئ في الطريق، سيارات مكدسة بالعائلات تتخبط في المكان بين الذهاب والإياب، كل منهم يبحث عن مكان دون وجهة محددة، فيما اختصره السكان بما يشبه “يوم القيامة”.
جنديرس مدينة منكوبة، يلخص سكان فيها ما يعيشونه، دون عمليات إنقاذ جادة، عائلات بأكملها فقدت، قسم منها وجدت جثثهم ودفنوا في مقابر جماعية، خمسة هنا، تسعة هنا، سبعة هناك.. أما من كتبت لهم الحياة فيعيشون قسوة ما شاهدوه أملاً في النجاة مرة أخرى، مناشدين العالم باتخاذ إجراءات سريعة تساعدهم على الاستمرار، لم يعد هناك قدرة على التحمل، شاهدنا كل أشكال الموت.