تعرض الطفل أحمد حاج إبراهيم، من قرية “ندة”،أثناء لعبه مع رفاقه، لعضة كلب. لم يعالج مكان الجرح الذي خلفته على الفور، بل أسعف أحمد إلى مستشفى إعزاز الوطني بعد 35 يوماً من تعرضه للعضة، بعد أن ظهرت عليه عدة أعراض؛ آلام حادة في البلعوم، حكة شديدة، اضطرابات في الحركة، وردات فعل عدوانية مصحوبة بصداع في الرأس وإقياء شديد ورهاب من شرب الماء، ونتيجة التأخر في اتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة، توفي أحمد في اليوم الذي دخل فيه المستشفى.
حالات عدة راجعت المستشفى في الفترة الأخيرة، نتيجة تعرضهم لعضات من الكلاب الضالة والمسعورة في المنطقة، كما يوضح الشاب شادي ( اسم مستعار)، أحد الكوادر الطبية بالمستشفى، وأُنقذت الحالات التي عولجت بعد حادثة العض مباشرة من خلال غسل مكان الإصابة بالماء والصابون لمدة لا تقل عن ربع ساعة بماء متدفق، كي لا يعود الماء للجرح، ويُعتبر هذا الإجراء بمثابة 50- 70% من العلاج، والذي يصفه شادي بـ “الخطوة الدفاعية الأولى”، لحماية الشخص من انتقال الفيروس، تليه إجراءات أخرى كإعطاء اللقاحات المناسبة.
الأمر نفسه حصل مع طفلة تبلغ من العمر عشر سنوات، من حي البيدر، في مدينة أرمناز غربي إدلب، إذ توفيت بعد مضي شهرين من تعرضها لعضة كلب في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، وفي الثاني عشر من الشهر ذاته أعلن الدفاع المدني السوري عن إسعاف طفل تعرض لعضة كلب في مخيم البر بالقرب من بلدة باتبو غربي حلب.
تنتشر الكلاب الشاردة شمالي حلب وشرقها، وفي إدلب وريفها، على شكل مجموعات ضالّة. وبات كل من يتعرض لعضة كلب يذهب مباشرة إلى أقرب مركز صحي أو صيدلية، يقوم الصيدلي بتعقيم محيط العضة وإعطاء المصاب إبرة كزاز، ثم يحيله إلى أقرب مستشفى لأخذ المصل المضاد لداء الكلب، كما يقول الصيدلاني أنور لـ”فوكس حلب”، والذي راجع صيدليته الكائنة في مخيم بريف حلب الغربي، شخصان تعرضا للعض من كلاب شاردة في أوقات مختلفة من الشهر الجاري.
زيادة حالات هجوم الكلاب الضالة سببت قلقاً لأهالي المنطقة على أطفالهم، فعدا احتمالية من يتعرض لعضة كلب إلى الموت، في حال لم يذهب إلى المستشفى مباشرة واتخاذ الإجراءات اللازمة، قد يسبب هجوم الكلاب على الأطفال الصغار صدمة نفسية لهم، حتى إن نجو من آثار عضة الكلب، وهذا ما حدث مع الطفل عبد الرحيم، سبع سنوات، يقيم في أحد مخيمات الكمونة بريف حلب الغربي، إذ تعرض هو الآخر في طريق عودته من المدرسة لهجوم من أحد الكلاب، ليصل إلى البيت في حالة يرثى لها، حسب تعبير والدته.
تقول والدة عبد الرحيم: “كانت ثيابه ممزقة، غطى جسده الوحل من رأسه حتى قدميه، ظننت أنه تشاجر مع أطفال آخرين أثناء سيره في الطريق المختصر، الذي يسلكه في بعض الأحيان، بين أشجار الزيتون، وما كان مني سوى أن وبخته، لكنه لم يظهر أي ردّة فعل، بعد لحظات قاطعني وصول رفاقه و أبلغوني أنه تعرض لهجوم من كلب أحد الرعاة، لكنه تمكن من الهرب، ونتيجة ذلك، أصيب طفلي بصدمة من شدة الخوف الذي تعرض له، بقي على إثرها صامتاً لا يتحدث مع أحد لأيام”.
طال امتناع الطفل عن الكلام، عندها ذهب جده مع عدد من الأقارب لخيمة الراعي الذي يملك الكلب، وطلب منه أن يربطه، وإلا سيقدم شكوى ضده، كما تروي والدة عبد الرحيم.
وحذر الدفاع المدني من خلال منشور على فيسبوك من ازدياد حالات العض في الآونة الأخيرة، طالباً من الأهالي الانتباه لأطفالهم وعدم السماح لهم بالاقتراب من الكلاب الشاردة والأماكن المهجورة التي تنتشر بها، ضماناً لسلامتهم وتفادياً لتعرضهم للعض الذي قد يؤدي إلى الوفاة.
موت الطفل أحمد، والشاب علي زعزوع، توفي أيضاً بعد عشرة أيام من تعرضه لعضة كلب مسعور في مدينة عفرين، بريف حلب الشمالي، دفعا المجلس المحلي في مدينة إعزاز وريفها لتنظيم حملة لقاح استهدفت الكلاب المنزلية التي تستخدم للحراسة أو الصيد في المنطقة، بحسب محروس عشاوي، رئيس بلدية إعزاز.
وقال العشاوي لـ” فوكس حلب”: “إن البلدية تنفذ بداية فصل الشتاء من كل عام حملات لمكافحة الكلاب الشاردة، نتيجة لعدم وجود مكان (حديقة محمية) لرعاية الكلاب الضالّة في المنطقة، ونظراً للأذى الذي تسببه من ترويع للمارة”.
وأضاف: “بعد نقل فيروس السعار لشخصين ووفاتهما بريف حلب، حصل المجلس على فتوى من دار الإفتاء بمديرية الأوقاف بقتل الكلاب الضارّة في المدينة، تتمثل الحملة باصطياد الكلاب ورميها في مكب النفايات، سبق ذلك حملة توعية للأهالي لمنع الكلاب المنزلية من الخروج فترة الحملة وربطها وإعطائها اللقاح اللازم”.
نفَّذَ الحملتين المكتب الزراعي بالتعاون مع المكتب الطبي لمحلي إعزاز، الأولى لـ “لقاح الكلاب المنزلية والكلاب المرافقة للمواشي” والثانية لـ”توعية الأهالي بالإجراءات الوقائية في حال تعرض أي شخص لعضة كلب”. ورافق الحملتان حملة نظافة وأخرى لمكافحة الكلاب الشاردة، التي تتجمع على شكل مجموعات شرسة، تتجول في الليل وأول ساعات الفجر.
يتوفر مصل داء السعار في ريف حلب الشمالي والشرقي، مثل مستشفى مارع وعفرين والباب والراعي وجرابلس، وأيضاً في مستشفى صوران الصحي، بحسب مصدرنا السابق شادي. إلى جانب توفره في مستشفى الجامعة بمدينة إدلب ومستشفى باب الهوى ومستشفى الحروق بأطمة، وذلك بحسب الطبيب البيطري محمد النعسان.
لكن المصل لا يتوفر في كل مناطق إدلب، فحين تعرضت الطفلة دانيا حميد، عشر سنوات، لعضة كلب بالقرب من مخيمات حربنوش، في 23 كانون الأول /ديسمبر الماضي، لم يكن من السهل على والدها مصطفى، مهجر من ريف حلب الجنوبي، إيجاد المصل.
وخلال تقديم الإسعافات الأولية تواصل مع معظم المستشفيات بحثاً عن المصل، ليعلموا فيما بعد أن المستشفى الوحيد الذي يتوفر فيه، وبشكل مجاني، هو مشفى الحروق في مدينة أطمة، شمالي إدلب، وهو المستشفى الذي أحاله إليه الطبيب المسعف في مستشفى معرة مصرين، كما يوضح مصطفى، الذي وصف الفترة التي قضاها في البحث عن مستشفى يتوفر فيه المصل بالمرعبة، حتى وصولهم إلى مستشفى الحروق وإنقاذ طفلته بإعطاء المصل أخيراً، حسب تعبيره.
يدير مستشفى الحروق بمدينة أطمة، شمالي غربي سوريا، منظمة أطباء بلا حدود منذ عام 2012، ويقدم المشفى مصل داء الكلب، وهو عبارة عن ثلاث جرعات تعطى للمريض بالتتالي، ويوفر الضمادات اللازمة لعلاج الجروح الناتجة عن عضات الكلاب، حسب قول محمد درويش، نائب مدير مشروع أطباء بلا حدود في المستشفى.
يقول درويش لـ”فوكس حلب”: “علاج المريض يكون من خلال إعطائه حقنة سريعة المفعول (الغلوبولين المناعي لداء الكلب) لمنع الإصابة بالعدوى الفيروسية، ونعطي المريض هذه الحقنة في حال لم يكن قد تلقى من قبل لقاح داء الكلب، وتُعطى هذه الحقن بالقرب من موضع عضة الحيوان إن أمكن، وفي أقرب وقت ممكن. بعد العضة، تستكمل سلسلة من لقاحات داء الكلب لمساعدة جسم الإنسان على التعرُّف على الفيروس ومكافحته”.
وأضاف: “في العام الماضي، وصل لمستشفى الحروق 746 إصابة تعرضت لعضات كلاب، ويتراوح عدد الإصابات شهرياً ما بين 50 لـ 60 إصابة، بشكل تقريبي، ففي شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي كان عدد العضات 62 عضة، وفي أيلول (سبتمبر) كان عددها 48 عضة”.
يكثر تجمع الكلاب في أماكن تجميع الخردة، كتلك الموجودة على طريق بنش، إذ جرى الإبلاغ عن كلب يهاجم المارة بعدوانية في تلك المنطقة، كما يوضح الطبيب البيطري محمد النعسان، والذي رصد عدة حالات لإصابات في إدلب المدينة وسهل الروج وأطمة.
يقول النعسان: “بعد السؤال عن سلوك الكلب والحالات التي هاجمها من قبل، إلى جانب الأعراض الظاهرة على الكلب مثل الألم والأنين وشلل الأطراف، والخوف من الماء، شخصت الحالة على أنها مرض السعار”.
بعض الكلاب تتجول على طريق قرية كللي أيضاً، والتي تعرضت لمنصور حمادي، صاحب محل تجاري، ويقطن في خيمة قريبة من تلك المنطقة، يقول: “كنت عائداً في الليل إلى خيمتي، على دراجتي النارية، حين انتبهت لمجموعة كلاب تهاجمني، كان واضحاً عليها أنها شديدة الشراسة والعدوانية، ما جعلني أزيد من سرعة دراجتي، وأصبحت أتسلح بمجموعة من الحجارة لأرمي بها الكلاب في حال اضطررت لذلك”.
يصيب داء السعار الكلاب، وينتقل من المصابة إلى السليمة عن طريق عض الحيوانات بعضها البعض، خلال المشاجرات التي تحدث بينها، عن طريق اللعاب بالدرجة الأولى، وقد ينتقل داء السعار عن طريق بعض القوارض، كالخفافيش والجرذان للحيوانات الأخرى، بحسب حسين بلان، نقيب الأطباء البيطريين في إدلب.
يقول بلان لـ”فوكس حلب”: “لا يوجد في الوقت الحالي أدوات تشخيص مناسبة للكشف عن عدوى داء الكلب قبل ظهور الأعراض السريرية، وقد يكون التشخيص السريري صعباً، ما لم يتم ربط الأعراض بحادثة مع حيوان مصاب بداء الكلب، أو ظهور أعراض تميز داء الكلب مثل؛ رهاب الماء أو تحليل دماغي من حيوان مصاب بالفيروس، وفي الوقت الحالي لا يوجد مراكز خاصة بلقاح الكلب أو داء السعار، وهذا الأمر يجب أن يكون له أهمية كبيرة في الأيام القادمة، بسبب الانتشار الواسع لهذه الظاهر في إدلب وريفها”.
استنكر البعض صمت حكومة الإنقاذ عن حماية المدنيين من الكلاب الشاردة باللجوء إلى قتلها، وهو الحل الذي تطبقه بلدية إعزاز، وطالبوا بإيجاد حلول أخرى دون قتلها، مثل توفير رعاية ضمن محمية لهذا الكلاب في منطقة محددة، بحسب بعض من التقيناهم، إذ يفتقر الشمال السوري لمراكز الرعاية للكلاب، بحسب الطبيب البيطري عبد الحكيم حمروش.
حمروش الذي يعمل في مهنته منذ عام 1994، كان يحلم بإنشاء جمعية للرفق بالحيوان في شمالي سوريا، ومنعه من ذلك ضعف الأحوال المادية. عجزه عن تنفيذ المشروع لم يمنعه من ممارسة بعض الأنشطة التي تساهم في حماية الحيوان ومنها الكلاب، كما يروي لنا، إذ كلما سمع عن كلب مريض ذهب لمعالجته، سواء كان هذا الكلب ملك شخصي أو شارد في الطريق وبحاجة رعاية.
في بعض الأحيان يعالج حمروش الحيوانات بدون مقابل كي لا تنتشر بينها الأمراض وإنقاذها من الموت، مثل تعليق سيرومات لبعض القطط والكلاب، يقول: “من شدة اهتمامي بالحيوانات حاولت إقناع أصدقائي ومعارفي بضرورة اقتناء الكلاب من أجل الحراسة، وقدمت المساعدة للعديد منهم، من خلال تأمين توصيل الكلاب لمزارعهم وتعهد بمعالجتهم بشكل دائم، وبالمجان، وتأمين طرق تحسين السلالات الهادئة والذكية والمطيعة”.
ربما كان الممكن أن تستعين حكومة الإنقاذ، أو بلدية إعزاز، بأطباء بيطريين، لديهم الخبرة بالتعامل مع الحيوانات، ولديهم القدرة على اقتراح حلول عملية وطبية، دون اللجوء إلى قتل الكلاب، وتأمين الرعاية الصحية لهم.