في فناء المنزل تحرك أماني مقود السيارة بابتسامة عريضة مع شعور بالتوتر، بجانبها زوجها أحمد، يراقبها بدقة، تجنباً لوقوع أي حادث، ويشرح لها عن الأجزاء الميكانيكية الموجودة في السيارة، يخفف من توترها ويشجعها على محاولة القيادة، بينما تصغي له أماني باهتمام شديد.
تقول أماني اليوسف: “لم يكن قرار تعليمي القيادة أمراً سهلاً ومؤخراً اتهمني الجيران بأنني أساهم في إفساد تفكير النساء في الحارة، لاعتقادهم أن القيادة خلقت للرجال فقط”.
اعتقاد البعض أن قيادة السيارات محصورة بالرجال عرَّضَ نساء كثيرات للانتقاد من قبل الوسط المحيط بهم في إدلب وريفها، وتزداد حدة الانتقادات كلما تسببت سيدة بحادث سير، مع العلم أن الحوادث تحصل بشكل شبه دائم في هذه المنطقة، ويكون الفاعل غالباً من الرجال.
في 29 أيار (مايو) الماضي، انتشر خبر على فيسبوك بأن سيدة تسببت بحادث سير في مدينة إعزاز، بريف حلب الشمالي “حادث سير تسبب بدهس رجل، لينقل إلى المستشفى على الفور بعد اصطدام سيارة سنتافيه تقودها امرأة بسيارة أخرى، ثم تكمل لترتطم بعدة محال تجارية، وتنتهي بدهس رجل”.
تعليقات كثيرة رأت أن سبب الحادثة هو أن من كان يقود السيارة امرأة، مثل: “من أيمت صارت النسوان تسوق” و”بس حوادثكم محترفة”، كما علق البعض على صفحات أخرى تعليقات تسيء لكل سيدة تقود سيارة.
تعليقات شبيهة تلقتها الشابة إسلام الرشيد، 28 عاماً، لكن على أرض الواقع منذ أربعة أشهر، بعد أن اصطدمت أثناء قيادتها لسيارتها بحائط وهدمته، فأصبحت سيرتها على لسان أهل الحي، كما تعرضت لشتائم وتأنيب من قبل زوجها وضغط عليه والده بأن يحرمها من قيادة السيارة.
تقول إسلام: “بقيت عامين ادخر المال وبعت مجوهراتي من أجل أن يشتري زوجي سيارة للعائلة، وكان الاتفاق أن أقودها أنا أيضاً، لكن ذلك الحادث شكل عقبة أمامي”.
امرأة سبقت الرجال في قيادة السيارة
في عام 1885 كان مصمم المحركات ومهندس السيارات الألماني كارل بنز قد انتهى من صنع أول سيارة شبيهة بالسيارة الحالية، جمعت بين العربة ومحرك الاحتراق الداخلي. لم يلق اختراع بنز تشجيع أبناء بلدته مانهايم، جنوب غرب ألمانيا، خوفاً من غضب القيصر الذي كان مهووساً في ذلك الوقت بالخيول ويثار غضبه عند سماع فكرة الاستغناء عنها، إذ كانت الخيول في ذلك الوقت تشكل عماد جيشه، لذلك قرر بنز إبقاء اختراعه سراً في كراج منزله وأسماها “بنز باتينت موتورفاغن“
ورغم حصول موتورفاغن على براءة اختراع في عام 1886، إلا أن بنز لم يتمكن من الترويج لها بشكل جيد خوفاً من تعرضه للانتقادات، لكن زوجته بيرتا بنز سئمت من تردده وخوفه من المواجهة، لذلك قررت في صباح اليوم الخامس من شهر آب (أغسطس) من عام 1888 قيادة أحدث نسخة من سيارات الموتورفاغن، أثناء نوم زوجها، وبصحبة ابنيها ريتشارد ويوجين ذوي الأربعة عشر والخمسة عشر عاماً، وتركت لبنز رسالة بأنها ستذهب لزيارة والدتها في مدينة بفورتسهايم، وقطعت مسافة تجاوزت 106 كيلو متر، وبذلك أصبحت بيرتا أول شخص يقود سيارة لأكثر من مسافة قصيرة، وأول امرأة تقود سيارة في التاريخ.
وبعد 32 عاماً على قيادة بيرتا سيارة الموتورفاغن، ستحصل أول فتاة مصرية على رخصة قيادة في فرنسا في 24 يوليو 1920، وهي عباسية أحمد فرغلي، والتي كانت زوجة رجل أعمال شهير وشقيقة ملك القطن آنذاك، وبذلك أصبحت عباسية أول امرأة تحصل على رخصة قيادة في العالم العربي.
كما أن قيادة المرأة للسيارة لم تكن يوماً أمراً مستهجناً في تاريخ سوريا الحديث، حتى النساء في السعودية حصلن على حقهن في قيادة السيارة منذ سنوات قليلة وبعد نضال طويل.
حاجة ملحة
رغم حق النساء في إدلب امتلاكهن سيارة وقيادتها بحرية سواء كان السبب التمتع برفاهية ما أو الحاجة العملية، إلا أن أغلب النساء في إدلب تقرر تعلم القيادة وشراء سيارة خاصة لأسباب عملية كالموظفات اللواتي يخرجن من المنزل ويضطرون لقطع مسافات طويلة مشياً على الأقدام لعدم وصول وسائل النقل إليها، أو عدم تطابق مواعيد حافلات الزاجل التي تخدم المنطقة مع مواعيد خروجهن لعملهن وعودتهن.
وهذا ما حدث مع عبير اسماعيل، 30 عاماً، والتي تعمل في مجال الدعم النفسي، وتقيم في قرية قاح بريف إدلب الشمالي، إذ حاولت إقناع إخوتها ببيع ذهبها وشراء سيارة، بعد فشلها في حل مشكلة المواصلات، لكنهم رفضوا، تقول: “أنا لست متزوجة، وأبي وأمي مسنان، وإخوتي الشباب كلهم متزوجون ولديهم مسؤوليات، وعملي في الدانا، وفي أغلب الأحيان لا أجد وسيلة للنقل، لذلك أنا بحاجة لسيارة خاصة”.
أما جيهان عبد السلام، 40 عاماً، توفي زوجها منذ أربعة أعوام، وعملت مع واحدة من المنظمات الإنسانية في مدينة سرمدا، وتعيش في مخيم تابع لمدينة قاح، قررت في هذا العام شراء سيارة، لأنها يجب أن تكون في مكتب العمل من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساءً، كما توضح لـ”فوكس حلب”، ولم تعثر على حافلة تتناسب مع مواعيد عملها، ولا يمكنها الانتظار في الشارع، أو المشي سيراً على الأقدام، حسب تعبيرها.
لكن بعد شرائها السيارة وقيادتها تعرضت جيهان لمقاطعة السيدات في الوسط المحيط بها، لأن أزواجهن طلبوا ذلك، خوفاً من تأثيرها عليهن، أو أن يطلبن منها تعليمهن قيادة السيارة، تقول: “بات الناس يطلقون عليها صفة “مسترجلة”، وأنني أسعى للفت الأنظار، بعد وفاة زوجي، وغيرها من الأقاويل التي تُسيء لسمعتي”.
نساء يعملن مدربات لقيادة السيارات
نساء كثيرات لم يأبهن بانتقادات المجتمع المحيط بهن، وبادرن بالذهاب إلى مدارس تعليم قيادة السيارة في الشمال السوري، أو التعلم عن طريق نساء مدربات.
صفاء زهرة، واحدة من المدربات اللواتي وافقن على التحدث معنا عن تجربتها كمدربة، وباسمها الحقيقي، على عكس ثلاث مدربات أخريات رفضن التحدث إلينا أو إعطائنا معلومات عن هذه المهنة، بسبب تعرضهن لانتقادات خلال عملهن فيها وخوفاً على أنفسهن من التعرض للتنمر على منصات التواصل الاجتماعي.
سابقاً كانت تعمل زهرة مدرسة لغة فرنسية، لكن بسبب منع تدريس اللغة الفرنسية بفترة في المدارس، كما توضح، حوّلت خبرتها وشغفها بقيادة السيارة إلى مهنة، تقول: “أنا أول مدربة قيادة سيارات في الشمال السوري ككل، بالبداية كان الأمر هواية، لكن مع الإقبال الكبير للنساء، قررت الاستمرار بهذا العمل”.
وأضافت: “الهدف كان استقطاب وتأهيل وتعليم النساء قيادة السيارة. ورغم عدم تقبل البعض لقيادة النساء للسيارة، لكن ليس الجميع ينظرون إلى الأمر بالطريقة نفسها، وإنما فئة قليلة، كما أن الموضوع لم يؤثر علي شخصياً، خاصة مع ازدياد عدد السائقات، وشجاعة نساء كثيرات ورغبتهن في تعلم القيادة”.
تحرص زهرة على تعليم النساء كل ما يتعلق بالقوانين والقواعد المرورية من التنبيه للإشارات المرورية، والمسموح، والممنوع، والأولويات الواجبة أثناء القيادة، كي لا تتعرض أي سائقة لموقف يجعلها عاجزة عن التصرف في حال وقعت به، تقول: “أحيانا تحدث بعض المواقف والمضايقات للسيدات السائقات، لذلك ننصحهن بأن لا يذهبن إلى أماكن خالية من الحركة، وفي حال تعرضت لأمر مقلق أو مزعج، نرشدها بأن تلجأ إلى أقرب عنصر شرطة مرور، وتقديم شكوى ضد أي مضايقة”.
دربت زهرة حوالي ألف سيدة على قيادة السيارة، منذ أن بدأت بالعمل كمدربة قيادة قبل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وخلال تلك الفترة عملت كمدربة مستقلة وفي مدارس تعليم القيادة الموجودة في المنطقة.
وترى أن تعليم القيادة بوقتنا بات أمراً عادياً، ويتم لقضاء أمور واحتياجات البيت من توصيل أولاد إلى المدارس، وإسعاف الأشخاص إلى المشافي عند الضرورة، عدا عن تأمين حاجات المنزل، وغيرها من الاحتياجات الملحة، حسب قولها.
لا تكترث زهرة للانتقادات التي تطالها بسبب مهنتها، والسبب أن عملها لا يضر أحداً، كما توضح، ولا يتنافى مع الأخلاق العامة، لذلك لا تتوقف كثيراً عن ردود الأفعال المعارضة.