في منزل قديم أبوابه ونوافذه مطلية باللون الأزرق في بلدة “ترمانين” شمالي إدلب، دعتني السيدة وحدة عبد الحي، 54 عاماً، لزيارتها وشرب فنجان قهوة داخل الغرفة الواسعة التي خصصتها لعملها في مهنة الحياكة والتطريز.
تقضي وحدة أغلب وقتها في غرفة أشبه بمرسمٍ زُيِّن سقفها بأقمشة عليها رسومات وأشكال هندسية بألوان مختلفة، وانتشرت في أرجائها الملابس والأقمشة المشغولة يدوياً إلى جانب الوسائد والمفارش المطرزة.
تقول السيدة وحدة وهي تمسك “المسلّة” في يديها: “إن إنجاز قطعة صغيرة بهذه الأداة يحتاج إلى ساعات طويلة من العمل المتواصل، لكن من يحب هذا العمل يتحمل مشقته من دون تذمر ويبدع فيه، فأنا أحب التطريز منذ صغري”.
الفراغ الذي خلفه وفاة زوج وحدة منذ 15 عاماً، وكونها لم ترزق بأطفال، دفعها للعمل في مهنة التطريز والحياكة بهدف كسب الرزق والتسلية في الوقت نفسه، تقول: “أجلس وحيدةً كل اليوم في منزلي، لا شيء يشغلني سوى الإبرة والخيط”.
لا تكتفي السيدة وحدة بتطريز الرسومات والأشكال الهندسية على الوسائد والملابس فقط، إنما عملت على تطريز الإكسسوارات والحقائب النسائية واللوحات الجدارية، وتتابع بشكل مستمر الرسومات والأشكال الهندسية المعاصرة المنتشرة على المواقع الإلكترونية وصفحات “السوشال ميديا”.
تقول وحدة: “استفدت في تصنيع عدد من الأشكال الجديدة من رسومات حديثة حصلت عليها من الأنترنت، وهنا بدأت بتوسيع عملي بشكل أكبر والاشتغال على مشاريع مختلفة وأصبحت محلات الإكسسوارات والهدايا ومحلات تزيين السيارات تشتري مني قطعاً قماشية مطرزة برسومات أو بعبارات معينة، حسب طلب الزبون”.
لكل فصل متطلباته، ومع دخول فصل الشتاء يزداد الطلب على المعاطف وكنزات الصوف المطرزة إلى جانب “التنانير” و”اللفحات” والجوارب.
يحتاج كل معطف إلى سبع كرات صوف على الأقل، كما توضح وحدة لنا، تنجزها في ثلاثة أيام كحد أقصى وتبيع الجاكيت بـ250 ليرة تركية وكنزات الأطفال الذين يبلغون من العمر ما بين 2 لـ 6 أعوام بـ 100 ليرة تركية، وتستهلك كل قطعة ملابس عدداً معيناً من الكرات ويبلغ سعر البكرة الواحدة 12 ليرة، وتتراوح أجرة يد السيدة وحدة ما بين الـ 50 حتى 75 ليرة، نحو دولار واحد يومياً، حسب حجم القطعة ووقت إنجازها والجهد المبذول بها.
تحرص السيدة وحدة على أن تكون الرسومات المطرزة على القماش واضحة وجميلة تقول: “للحصول على قطعة فنية مطرزة يجب أن أكون بكامل تركيزي أثناء العمل وللتطريز عدة أنواع؛ أهمها “الغرزات” ولها أشكال عديدة، منها غرزة “الراية الخلفية” و”السلاسل” و”الفرع البسيط” و”القرية الفرنسية” و”البطانية” و”الريشة” و”الورد””.
الشاب مهند المكسور، أحد زبائن السيدة وحدة، يملك محلاً لبيع زينة السيارات في المنطقة الصناعية لمدينة الدانا شمالي إدلب، يقول: ” في البداية تواصلت مع السيدة وحدة عبر واتس أب، وطلبت منها أقمشة مطرزة لكراسي السيارات من نوع “سنتافيه” و”سبورتاج” لكثرة الطلب عليهم وسرعة بيعها في المحل”.
ويضيف: “لدي زبائن يحبون تزيين كراسي سياراتهم بأقمشة مطرّزة يدوياً ويطلبون مني أشكالاً وألواناً متنوعة، وأحياناً قطعاً مطرزة خاصة لوضعها على “تابلوه” السيارة وعليها كتابات محددة، ورغم أن الأقمشة المطرزة يدوياً مكلفة لصاحب السيارة إلا أنهم يفضلون الأقمشة المشغولة يدوياً”.
لا تختلف قصة فاطمة الحسين، 48 عاماً، عن قصة السيدة وحدة كثيراً، إذ أنها بعد وفاة زوجها لجأت أيضاً للعمل في مهنة التطريز لتستطيع إعالة نفسها.
تنحدر فاطمة من عائلة شركسية، وتقيم في مدينة الأتارب، تقول: العمل في التطريز سهل بالنسبة لي، لكنه يأخذ مني وقتاً طويلاً، في حال كانت بعض الرسومات التي أقوم بتطريزها بحاجة لدقة وتركيز كبيرين وأحياناً أكون مجبرة على العمل عشر ساعات متواصلة وبشكل يومي لتسليم الأعمال بموعدها المحدد”.
وتضيف: “من الأعمال التي أواجه صعوبة في إنجازها، هو التطريز والخرز على “القماش المخملي” وأغلب الزبائن يختارون هذا النوع من القماش لأنه يحافظ على قوامه ويبقى مشدوداً، إذ أقوم في البداية برسم ما أريده بقلم الرصاص ومن ثم أملؤه بالخرز”.
قبل سنوات قليلة كان الإقبال على المنسوجات اليدوية كبيراً لكنه تراجع مؤخراً بسبب ارتفاع أسعار كرات الصوف في الأسواق، الذي يعود إلى فرق سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار، ما جعل الإقبال ضعيفاً على شراء الصوف، كما يوضح تاجر صوف، من محافظة إدلب، مبيناً أن تكلفة الكنزة المنسوجة يدوياً أعلى من نظيرتها الجاهزة.
يقول التاجر: “سعر كرة الصوف الواحدة يتراوح ما بين 10 إلى 20 ليرة تركية، ما يعني أن الكنزة المنسوجة يدوياً قد تصل تكلفة ثمن الصوف التي تحتاجه لـ 100 ليرة تركية، وأجرة اليد العاملة تكون بتكلفة سعر كرات الصوف”.
وأضاف: “تنتشر أصناف متنوعة من الصوف في الشمال السوري مثل الـ “ناكو أسترا” و”الكليم” و”بوليانا” وغيرها، لكن جميعها مستوردة ولا يوجد إنتاج محلي للصوف”.
أغلب الناس كانت تفضل الألبسة اليدوية عوضاً عن الجاهزة لرخص ثمنها وجودتها ومتانتها، لكن مع ارتفاع سعر مستلزمات الحياكة وخاصة الخيوط لم تعد الناس مهتمة لهذه الفروقات بين الألبسة اليدوية والجاهزة، وذلك حسب ما تراه آية عباس، 25 عاماً، نازحة من ريف حمص إلى شمال غربي سوريا، وهذا ما قلل مردودها المادي بمهنة الحياكة والتطريز.
تعمل آية في مهنة الحياكة والتطريز منذ أربع سنوات، وهي أم لثلاثة أطفال، أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمكنت بفضل مهنتها من مساعدة زوجها الذي يعمل في مجال البناء على إعالة عائلتهما، تقول: “منذ أن تعلمت الحياكة باتت النساء القريبات من مسكني تطلبن مني حياكة شالات أو تطريز “كلابيات” أو نسج فساتين وكنزات صوفية لهنّ، وكان الإقبال جيداً في السنوات السابقة وكانت الأسعار مناسبة وهناك ربح مادي، لكن اليوم باتت الناس تتجه للألبسة الجاهزة وخاصة المستعملة”.
تتقاضى العباس أجراً بسيطاً ولا تملك القدرة على شراء كميات وألوان صوفية متنوعة لتحويلها إلى قطع ألبسة، إذ تخشى المغامرة بحياكة ألبسة قد لا تستطيع تصريفها وبيعها، بسبب قلة الإقبال في العامين الأخيرين، إذ إن كرة الصوف البالغ وزنها 100 غرام سعرها اليوم 15 ليرة تركية، وأجرة عملها 15 ليرة تركية أيضاً، فإذا كان القطعة تستهلك عشر كرات من الصوف والبالغ سعرهم 150 ليرة، فأجرة عملها يكون 150 ليرة، حسب قول آية.
ما زال أبو تيسير، 78 عاماً، أحد وجهاء بلدة ترمانيين، يتذكر الأقمشة المطرزة التي كانت تحيكها والدته، يقول: “كان التطريز يعكس هويتنا وكانت والدتي تطرز البساطات والستائر وأغطية الوسادات التي كنا نجمعها بشكل متناسق فوق قطعة خشبية نقول لها “المحمل”، وتُغطى بقطعة قماشية كبيرة، مطرّز عليها وردة وأغصان في منتصفها، وكذلك أغطية الكراسي والطاولات وحتى التلفاز والراديو وكنا أيضاً نطرز أقمشة لكؤوس الشاي ونقدمها للضيوف”.
ترتسم على وجه أبو تيسير ابتسامة عفوية ويختم حديثه بقوله: “كانت أياماً جميلة، إذ نالت مهنة التطريز قسطاً كبيراً من الاهتمام والشهرة في القرن الماضي، ومن الجميل أن نجد بعض النساء في هذا الزمن ما زلن مهتمات بتعلم هذا المهنة وكسب الرزق من خلالها”.
في الوقت الذي تُثمن الصناعات والحرف اليدوية حول العالم تشهد الكثير من الحرف اليدوية السورية، ومنها التطريز والحياكة تراجعاً كبيراً، أو اقتصار العمل بها على عدد قليل من الأشخاص اتخذوا من هذا الحرف هواية لهم أو لكسب الرزق بأجور زهيدة.