فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

قرية جوزف بعد هجرة شبابها: جميلة.. لكن بلا روح

سلام زيدان

هاجر 500 شاب من أصل 7500 نسمة كانوا يسكنون قرية جوزف التي تكاد تخلو من شبابها ولم يبق في القرية سوى الأطفال وكبار السن.

تتمشى سارة في شارع الحي القديم بقرية جوزف، تتناثر من حولها أوراق المحلب والكرز الصفراء في جو خريفي يوشك على الانتهاء معلناً بداية فصل الشتاء. تتأمل سارة الطرق الفارغة والأبواب المغلقة، يكسر هذا الفراغ “أم أحمد” عجوز تتكئ على عصاها وتجلس على حجر أسود قرب باب منزلها، وسيدة أخرى تكنس شرفة منزلها بينما تنشغل سيدة أخرى بجمع أوراق دالية تساقطت على الأرض وتراكمت أمام باب منزلها.

للحظة، وقفت سارة، استعادت أيامها في القرية التي خلت من الرجال وأصواتهم، غاب سعالهم وغابت رائحة الدخان وكؤوس الشاي، حملهم كزوجها وأخيها قرار الهجرة واللجوء إلى دول أوروبا وتركيا بحثاً عن العمل، أو النزوح إلى الشريط الحدودي بحثاً عن الأمان

تتبع قرية جوزف إللى ناحية إحسم في منطقة أريحا وتشغل على تلة في جبل الزاوية، تتوسط قرى إبلين ومعراته وجبل جوزف وتل النبي أيوب، المعلم الأثري المشهور في القرية، وتكثر فيها البيوت الطينية الصغيرة.

أسماء لدول كثيرة حصة شبان جوزف ورجالها، منذ أن أجبرتهم الحرب على اللجوء والذين كانوا يملؤون الحي بضحكاتهم وسهراتهم وتجوالهم في أرجاء القرية، أما اليوم يخيم على أجواء القرية السكون وفراغ الأمكنة.

هجرة خمسمائة شاب من قرية واحدة

هاجر من القرية حتى الآن قرابة 500 شاب من أصل 7500 نسمة مجموع سكانها، ،ما جعلها تكاد تخلو من شبابها ولم يبق في القرية سوى الأطفال وكبار السن، بحسب عادل علوش مختار قرية جوزف.

الصورة من قرية جوزف في جبل الزاوية
الصورة من قرية جوزف في جبل الزاوية

يقول المختار: “بدأت الهجرة  من قرية جوزف ببعض الشبان الذين كانوا مقيمين في تركيا، ثم تطور الأمر بهجرة أعداد قليلة من شباب من القرية لتحسين أحوالهم وذويهم، بعدها بدأت الهجرة تأخذ شكل مجموعات متتالية من الشباب”.

ويرى علوش أن نساء كثيرات بقين في القرية بسبب قوانين اللجوء وصعوبة لم الشمل، خاصة عند الرجال متعددي الزوجات، إذ تفرض قوانين هذه الدول منع لم شمل أكثر من زوجة واحدة.

بعض الأزواج  لجؤوا إلى استقبال الزوجة الأولى بشكل رسمي، والزوجة الثانية كـ”صديقة” ما دفع نساء كثيرات لرفض السفر بصفتهن صديقات للزوج أو لعائلته من زوجته الأولى. وغالباً ما يختار الزوج الزوجة التي لديه منها عدد أطفال أكثر من غيرها، ما سبب بوقوع خلافات كثيرة انتهت إما بطلاق الزوجتين أو طلاق واحدة على حساب الأخرى وكلاهما مر، كما ذكرت فاطمة وهي زوجة ثانية وأم لطفلة.

تقول فاطمة: “بعد سفر زوجي إلى هولندا اختار الزوجة الأولى بأن تكون زوجته على الأوراق الرسمية لأنه لديه منها أربعة أطفال، ولأنه قوانين الدولة الأوروبية التي لجأ إليها تمنع تعدد الزوجات واقترح علي، لكي استطيع السفر إليه، أن يستضيفني بوصفي صديقة”.

وأضافت: “كما طلب زوجي مني أيضاً تسجيل ابنتي على سجل زوجته الأولى، لكي تصبح بالسجلات الرسمية ابنتها، لتسهيل إجراءات لم الشمل، لكني رفضت كلا العرضين؛ استضافته لي بوصفي صديقة وتسجيل ابنتي على زوجته الأولى”.

وترى فاطمة أنها بهذه العملية قد تخسر الزوج والابنة في حال عدم تسهيل أمور سفرها، وحين رفضت تسجيل طفلتها بصفتها ابنة الزوجة الأولى على الأوراق الرسمية، طلقها زوجها، تقول: “كان هذا القرار ظالماً بكل المقاييس”.

كُسرت يد شذى إثر تعرضها للضرب من قبل والدها بعد فشلها في إقناع زوجها بالبقاء وتخليه عن فكرة السفر. شذى واحدة من نساء كثيرات في القرية كان مصيرهن إما مطلقات أو مواجهة صعوبة وصولهن لأزواجهن بعد سفرهم لأوروبا، بسبب تعقيدات قوانين لمّ الشمل في البلدان التي سافروا إليها.

تنظر شذى إلى يدها التي جبّرتها ليلتئم كسرها وتقول: “ألم الفراق والطلاق كان أشد بكثير من ألم الكسر الذي أشعر به في يدي”.قبل ثلاثة أعوام خُطبت شذى لإبن عمها لكن لم تكتمل فرحتها بالزواج منه بسبب قراره السفر إلى أوروبا، ليتقدم لها شابٌ آخر من القرية ويتزوجها منذ ستة أشهر مضت، لكن الآخر قرر أيضاً الالتحاق بقافلة الهجرة، لتواجه المصير ذاته وتعود لبيت والدها.

تقول شذى: “قتلتني الهجرة مرتين، وحمّلني والدي ذنب هجرة زوجي وضربني ..وكسر يدي”.

فتيات يتزوجن وهنَّ قاصرات وأمهات مكافحات

زادت ظاهرة العزوبية وتأخر زواج الفتيات بعد هجرة غالبية شباب القرية وبات الفارق بين عدد الفتيات والشباب واضحاً أكثر من أي وقت مضى، ما دفع بعض الأهالي لتقديم تنازلات من أجل تزويج بناتهم سواءً كانت الأسباب تتعلق بصغر عمر الفتاة أو عدم وجود مقومات كانت تتمنى عائلة الفتاة وجودها في الشاب الذي يخطب ابنتهم.

الصورة من موسم قطاف الزيتون في قرية جوزف بريف ادلب
الصورة من موسم قطاف الزيتون في قرية جوزف بريف ادلب

حلا، 20 عاماً، تزوجت ابن خالها وهي بعمر الرابعة عشر، دون أن يكترث أهلها لصغر سنها، وترى أنه من الطبيعي أن تتأثر مسألة الزواج بهجرة الشباب، تقول:”الشاب المناسب غير موجود في كل الأوقات”.

أما أم أنس، فقد تركها زوجها مع ستة أطفال وهاجر منذ بضعة أشهر، لتتحمل مسؤولية تربية أطفالها وحدها. لا تعلم أم أنس إلى الآن إن كانت رحلة زوجها إلى أوروبا ستكلل بالنجاح أم ستبوء بالفشل، كحال أغلب الشباب، حسب تعبيرها.

تقول أم أنس: “عمري ما رحت عالسوق ولا تابعت طفل بمدرسة ولا اشتغلت بأرض لبعد ما سافر زوجي وترك برقبتي مسؤولية العيلة والولاد وتأمين لقمة العيش”. وانعكست هجرة الآباء على سلوك أطفالهم ، خاصة في عمر المراهقة  مثل التسرب الدراسي وممارسة عادات خاطئة.

أم مصطفى واحدة من النساء التي تركها زوجها وهاجر، يمر أولادها بفترة المراهقة. لم تستطع وحدها التحكم بأهواء أولادها وتمردهم في هذه المرحلة العمرية، ما أدى إلى انقطاع أبنائها عن الدراسة وقضاء معظم وقتهم مع مجموعة أولاد مراهقين من نفس فئتهم العمرية، تقول: “بسبب صحبتهم لهذه المجموعة من الأولاد استدعيت إلى مخفر الشرطة المتواجد بقرية إحسم وأخبروني هناك أن أولادي أقدموا على سرقة اسطوانات غاز، ما سبب لي انهياراً عصبياً”.

رجال باعوا أراضيهم وأملاكهم من أجل الهجرة

البطالة والفقر وانعدام فرص العمل وإهمال تخديم المنطقة من قبل المنظمات بحجة أنها منطقة ساخنة عسكرياً هي أحد أهم أسباب هجرة شباب القرية، بحسب عادل علوش مختار القرية، ويرى أن متابعة شباب القرية لمن سبقوهم بالهجرة بأعوام ورفاهية المعيشة بأوروبا هو ما شجعهم لاتخاذ قرار الهجرة لتحسين أوضاعهم والبحث عن مستقبل أفضل.

بعض رجال القرية يلجؤون إلى بيع أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم أو رهنها للشخص الذي يشرف على عملية تهريبهم إلى أوروبا أو اقتراض المبلغ المالي الذي سيدفعه للمهرب أو جزء منه، وعند وصولهم لأوروبا يرسلون المبلغ عن طريق الحوالات المالية إلى مكاتب الصرافة. وقد لا يحالف بعضهم الحظ بالحصول على العمل أو المال، ما يشكل عبئاً آخر على عاتق أسرته وذويه.

الصورة من قرية جوزف في جبل الزاوية بريف ادلب
الصورة من قرية جوزف في جبل الزاوية بريف ادلب

تروي لنا ربى، زوجة أحد رجال القرية، كيف سيطر مكتب التهريب على أرضهم ومنزلهم لعدم قدرة زوجها على تأمين المبلغ الذي وعد بسداده للمهرب حال وصوله لأوروبا، تقول: “صادروا كل أملاك عائلة زوجي، في الوقت الي لم يبق بحوزتنا أي مبلغ مالي نستعين به لشراء حاجياتنا المنزلية، وعندما علم والد زوجي بالأمر أصيب بنوبة قلبية أفقدته حياته”.

تتراوح تكلفة الهجرة غير الشرعية من سوريا إلى أوروبا للشخص الواحد ما بين 10 و12 ألف دولار أمريكي، بحسب محمد الحجي (إسم مستعار) أحد أعضاء شبكة تهريب، ولكل مرحلة سعر مختلف عن الأخرى. إذ أن السعر المطلوب لتهريب شخص من سوريا إلى تركيا من 1000 إلى 1200 دولار ومن تركيا إلى اليونان وبلغاريا من 2500 إلى 3000 دولار ومن بلغاريا إلى صربيا تتراوح ما بين الـ 4000 و 6000 دولار.

ويحتاج الشاب إلى جانب مصاريف الطعام والشراب مبلغاً احتياطياً في حال واجه قطاع الطرق و”المشلحين” والأمن في اليونان وبلغاريا فيضطر لدفع مبلغ قد يتراوح ما بين 1000 إلى 2000 دولار، والبعض يكون سيء الحظ إذا قام الأمن بترحيله إلى تركيا ويعاود محاولة الدخول لصربيا أكثر من مرة، حسب تعبير الحجي.

وهذا ما جرى مع زوج أم أنس، إذ تحكي أنه بعد وصول زوجها غابات اليونان واقتراض مبلغ ثمانية آلاف دولار ودفعها للمهرب، لم تنجح عملية تهريبه بالكامل بعد محاولته دخول غابات صربيا أكثر من مرة، وهو الآن سيحاول للمرة الأخيرة.

تقول أم أنس: “من أجل هذه الهجرة باع زوجي حصته من الأرض التي ورثها عن أبيه هو وأخوته، واليوم اضطر أنا للعمل في قطاف الزيتون بأجر يومي لتأمين ما يلزم لعائلتي”.

بعد سفر زوجها، تركت سارة منزلها الذي بنياه معاً، وعادت للعيش في بيت عائلتها، لتشعر بشيء من الألفة والونس بوجودهم، تقول: “الخريف في قرية جوزف هذا العام هو خريف الفراق حقيقةً، بعد خلوها من رجالها”.