ترسّخ المعابر الداخلية حالة السيطرة في المناطق السورية على اختلاف الجهات المسيطرة عليها، وتخلق بوجودها تمويلاً لهذه الجهات، وورقة سياسية للدول الضامنة (تركيا -روسيا)، بينما يغيب أثرها الإيجابي على حياة السكان، خاصة في شمال غربي سوريا، إذ يقتصر على توفر بعض المواد الأساسية بأسعار أقل نسبياً عن الموجودة حالياً، والمستوردة من تركيا، مقابل ارتفاع في باقي السلع مع سياسة العرض والطلب.
ومرّت المعابر الداخلية، شمال غربي سوريا، مع النظام السوري وقسد، بفترات من النشاط والتوقف المتكرر، كان آخرها التوقف نهائياً عن العمل في 2020، قبل أن تعيد الفصائل المسيطرة على الشمال السوري، منذ أشهر، تجهيز المعابر الواصلة بين ريف حلب الشمالي وإدلب، تمهيداً لإعادتها إلى العمل لاحقاً.
ففي الأسبوع الثالث من شهر أيلول/ سبتمبر المنقضي، أعادت فرقة “السلطان مراد” المنضوية في الجيش الوطني افتتاح معبر أبو الزندين قرب مدينة الباب بريف حلب الشرقي، لساعات قليلة قبل إغلاقه، ثم تلاه وبعد أسبوع تقريباً إزالة هيئة تحرير الشام السواتر الترابية وتجهيز الطرق لعودة العمل بمعبر “ترنبة” بريف إدلب الشرقي، تبعه هجوم من الهيئة على فصيل “فيلق الشام” وطرده من المنطقة.
وعلى عكس الاحتجاجات الشعبية التي رفضت إعادة افتتاح المعابر الداخلية سابقاً، ودفعت إلى منع افتتاحها، كما حدث في آذار 2021، بدا لافتاً غيابها مع انتشار أخبار تجهيز المعابر لإعادة افتتاحها، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول التغيرات التي طرأت.
إيجابية فتح المعابر الداخلية
ينطلق سكان في موقفهم من تأييد فتح المعابر الداخلية أو عدم رفضه من قناعة متمثلة بأن هذه المعابر مفتوحة اليوم عبر طرق التهريب، هناك بضائع تدخل يومياً من وإلى مناطق النظام وقسد، وبإتاوات مرتفعة تزيد من أسعار هذه المواد وتثقل كاهل المواطنين.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن فتح المعابر الداخلية ليس أمراً جديداً، كانت هناك معابر لسنوات طويلة، هذا لا يعني إضفاء شرعية على النظام، كما أن الشمال السوري اليوم “منطقة معزولة” تستورد فقط عن طريق تركيا دون معاملة بالمثل، خاصة مع فارق الدخل في تركيا، ما يؤدي إلى كساد المنتج المحلي بعد توقف تصديره وارتفاع أسعار المواد المستوردة، إذا أضفنا أيضاً الرسوم المفروضة على المعابر الحدودية.
لا يربط من تحدثنا معهم الموضوع بالاقتصاد فقط، هناك أشخاص عالقون في مناطق النظام، مرضى يحتاجون للعلاج، خاصة مع صعوبة الدخول إلى تركيا وغياب هذه العلاجات في مستشفيات الشمال السوري، مثل أمراض التهاب الكبد والسرطان.
يعتبر اقتصاديون سوريون، أن الإنهاك المعيشي والاقتصادي الذي يعيشه قاطنو الشمال السوري، حول شريحة واسعة من السكان إلى غير مكترثين بقضية المعابر الداخلية، بينما تنظر فئة أخرى بإيجابية لهذا القرار، الذي يتيح تدفق السلع من مناطق سيطرة النظام دون الحاجة إلى مرورها عبر قنوات التهريب ودفع الأتاوات الباهظة، فضلاً عن إمكانية توسيع العملية لتشمل نشاط المعابر مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
وتعد الأدوية والألبسة وبعض المواد الغذائية والمعلبات، والمشروبات الغازية والكحولية والبن والشاي، إضافة إلى قطع تبديل السيارات من أبرز السلع المتدفقة من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق نفوذ المعارضة، التي تدخل عبر طرق التهريب من خلال المعابر المغلقة.
إضافة إلى توسع سوق التصريف بالنسبة للقطاعات الإنتاجية في الشمال، وفي مقدمتها الإنتاج الزراعي المحلي الذي يعاني الكساد وارتفاع العرض أمام الطلب، وبالتالي انعكاسه الإيجابي على واقع القطاع وتحصيل بدل مالي يسمح للمزارعين بالتوسع وإعادة استصلاح أراضيهم.
ويرى الباحث الاقتصادي عبد الرحمن أنيس، أن إعادة تفعيل المعابر يحمل إيجابيات وسلبيات عدة، إلا أن الثابت في الأمر، هو حق الشعب السوري في حرية التنقل على الأراضي السورية والتجارة والعمل.
ويقول: لا يمكن نفي حاجة جميع الأطراف من نظام ومعارضة وقسد إلى بعضهم في تأمين السلع والمواد على اختلاف أنواعها، فضلاً عن التبعات الاجتماعية من خلال حرية تنقل المدنيين الذي يعيد شيئاً من الترابط المجتمعي بين الأهالي.
وعن الإيجابيات التي يحملها تفعيل المعابر، يجيب أنيس: أهم فوائد هذه الخطوة يتمثل في إيجاد سوق تصريف للإنتاج الزراعي في مناطق الشمال السوري، مثل الخضروات والبقوليات والزيتون والفستق والمشتقات الغذائية، مثل المعلبات وزيت الزيتون والفواكه المجففة وغيرها الكثير من السلع، ما يعني نشاط القطاع وحصول الفلاحين على سيولة نقدية تساعد في توسعة مشاريعهم وتحسين وتطوير إنتاجهم، بعد الضرر الكبير الذي لحق بهم خلال السنوات السابقة بسبب محدودية أسواق التصريف.
وبالمقابل، يتابع أنيس: مناطق النظام قادرة على تعويض سوق الشمال من بعض السلع التي يتم استيرادها عبر تركيا بأسعار مرتفعة وأهمها الحمضيات والفواكه، إضافة إلى إمكانية استجرار الكهرباء بأسعار رخيصة مقارنة بـ القادمة من تركيا، في حال تحسن الظروف واستمرار الاستقرار العسكري واتفاقيات وقف إطلاق النار.
انعكاسات مرهقة للسكان
رفض التعامل مع النظام السوري، أهم ما يشغل بال كثر من المواطنين في الشمال السوري، لكن الأساس في رفض فتح المعابر الداخلية يعود للاستفادة المالية الكبيرة لقوات النظام وميليشياته من فتحها، إضافة لتخفيف الضغط الاقتصادي عليه في ظل العقوبات المفروضة، وتشريع وجوده في المجتمع الدولي من خلال إدخال المنظمات الدولية للمساعدات عبر طرق النظام كما تضغط روسيا والنظام، كذلك مخاوف أمنية وتحويل المنطقة إلى ساحة مرور للمواد المخدرة بعد أن تحولت سوريا النظام إلى دولة مخدرات، بحسب تقارير صحفية محلية ودولية.
مخاوف السكان أيضاً تكمن في ارتفاع أسعار السلع المتوافرة في مناطقهم في حال تم العمل على تصديرها لمناطق سيطرة النظام، وغياب ما يضمن استيراد البضائع وانعكاسها على الأسعار في السوق المحلية.
يقول أنيس، لن يلمس السكان أي أثر على مستوى انخفاض كتلة الأسعار، بل على العكس، فإن جميع أنواع السلع سيرتفع ثمنها، إن كان نتيجة زيادة الطلب، أو من خلال الضرائب والرسوم التي تفرض من قبل متسلمي المعابر، وأيضاً الإتاوات التي تدفع للحواجز على طرفي السيطرة، وهذه الزيادات المرهقة بطبيعة الحال يتم تعويضها من المواطن الذي هو بالأصل ذو دخل بسيط ومحدود.
ويرى أنيس ضرورة رفض فتح المعابر الداخلية للتحذير من استغلال النظام هذه التحركات في قضايا سياسية واقتصادية تضر بالشمال.
ويضيف: من المتوقع أن يستغل النظام وحليفته روسيا عمل المعابر في تعزيز موقفهم تجاه المساعدات الأممية العابرة للحدود، وعملهم على حصر مرورها عبر دمشق، من خلال التأكيد على وجود معابر ومنافذ تجارية مع مناطق المعارضة. إضافة إلى استغلال المعابر لسرقة أو تأمين “العملة الأجنبية” وتصريف العملة المحلية الرخيصة، مما يضاعف آثار الكارثة على سكان المناطق المفتوحة، مقابل انتفاع بعض الشخصيات النافذة لدى كل الأطراف.
من المستفيد
يحدد تقرير تحليلي لمركز الحوار السوري قوات النظام كأكبر المستفيدين من فتح المعابر الداخلية، بما تضمنه هذه المعابر من تمويل لقوات النظام وفتح طريق يتنفس من خلاله النظام اقتصادياً، تليه هيئة تحرير الشام باعتبارها تسيطر على عائدات المعابر مع النظام في إدلب وما تستفيده من عمليات التصدير والاستيراد، ويضع التقرير الجيش الوطني في آخر قائمة المستفيدين.
وتراهن هذه القوى على خطوة فتح المعابر الداخلية، خاصة وأن الحركة التجارية لن تقتصر على التبادل الداخلي، بل تتسع لتشمل عودة حركة الترانزيت بين سوريا وتركيا.
لكن الدكتور في الاقتصادي كرم الشعار، يؤكد على أن البضائع التركية وغيرها منتشرة وبكثافة في أسواق سيطرة النظام، وفي مدينة حلب على وجه الخصوص، وأنها تدخل من خلال التهريب عبر مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.
ويقول: إن الانفتاح الاقتصادي يساعد على التكامل بين المناطق السورية، ويعزز عملية التبادل للسلع والبضائع التي تحمل فوائد متبادلة للسكان، خاصة وأن العائدات والرشاوى والإتاوات التي تدفع لقوى الأمر الواقع مقابل مرورها بطرق غير شرعية ستنخفض مع وجود طرق شرعية.
ويشير الشعار، وهو مدير مركز السياسات وبحوث العمليات، إلى أن “قرار فتح المعابر يفيد جميع الأطراف المدنية والعسكرية، ويساهم في نشاط الحركة التجارية بعيداً عن طرق التهريب، ويقلص الفوائد المالية لجهات السيطرة في سوريا على حساب المدنيين”.
ويبدو أن العوائد المالية الضخمة التي قد توفرها المعابر، أثارت شهية مختلف الفصائل العسكرية للسيطرة على المورد الاقتصادي الجديد، وهو ما بدا واضحاً من خلال الأحداث الأخيرة التي شهدها ريف حلب الشمالي وسيطرة هيئة تحرير الشام على مدينة عفرين، التي اعتبرت محاولة من الهيئة فرض نفسها كقوة قادرة على إدارة الملف.
ويعتقد الصحفي السوري فراس علاوي، أن تركيا سمحت لهيئة تحرير الشام بالتمدد إلى ريف حلب الشمالي، للضغط على الفصائل العسكرية في المنطقة وتمرير رسالة لهذه الفصائل أنها لم تعد مرغوب فيها.
ويقول: قضية المعابر مرتبطة مع مشروع الشمال السوري والخطة التركية لإعادة مليون لاجئ سوري، الأمر الذي يفرض عليها إيجاد فصيل قوي قادر على ضبط المنطقة وإدارة ممراتها الداخلية ومعابرها الخارجية.
مضيفاً: هذه التحركات جزء من مكافحة السلطات التركية للفساد في ريف حلب، الأمر الذي استغلته الهيئة لفرض نفسها كلاعب قادر على إدارة المنطقة، وهو ما لا تعارضه تركيا التي تريد فرض الأمن اللازم لإعادة السوريين المتواجدين في تركيا.
بينما تؤكد المعطيات على أن عمل المعابر بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام بات قريباً من التنفيذ، في ظل غياب الصوت الشعبي المنقسم بين مؤيد لهذه الخطوة وآخر رافض أو غير مهتم، يحذر اقتصاديون وسياسيون سوريون من مخاطر هذا التوجه في حال لم يتم ضبطه وتسليم إدارة المعابر لجهة قادرة على القيام بهذه المهمة كما يجب، وقطع الطريق على التبعات السياسية التي قد يستغلها النظام من وراء هذه الخطوة.