في السادس والعشرين من شهر آب (أغسطس) الفائت أعلنت شركة “الياسين” لتجارة المناديل الصحية (فوط الأطفال) إفلاسها.
كانت الشركة قد بدأت نشاطها عام 2017، في منطقة جبل الزاوية، واستمرت في العمل نحو خمس سنوات قبل أن تعلن إفلاسها ويقوم الأهالي ومندوبي الشركة بتسليم مالكها المدعو “ي.خ” إلى السلطات المحلية، حيث أودع في السجن، بعد قيامه بجمع مبالغ مالية كبيرة من أهالي المنطقة بغرض “تشغيلها”.
لم تكن شركة “الياسين” الوحيدة في الشمال السوري التي اعتمدت نمط الشركات التي تفتح تحت أي مسمى وهمي وتعمل على سحب آلاف الدولارات من مدخرات الأهالي من تجار ومزارعين وموظفين، إذ تعددت طرق النصب والاحتيال في المنطقة، إما من قبل أفراد أو شركات كبيرة جمعت رؤوس أموال ضخمة، بغرض تشغيلها مقابل أرباح مادية كبيرة وسريعة، وخلال فترة زمنية قصيرة تعلن إفلاسها أو يهرب مالكها خارج البلاد لعدم قدرته على سداد الأموال المودعة لديه.
منذ عام 2017 كان ي.خ يعمل على جذب المودعين وأصحاب الأموال للاستثمار بشركته مقابل حصولهم على أرباح شهرية تتراوح ما بين 10 إلى 15% صافية من مجمل أرباح الشركة، والتي تتراوح ما بين 20 إلى 25%، حسب ما يرويه لنا أبو إسماعيل، أحد المودعين في شركة الياسين.
يقول أبو اسماعيل لفوكس حلب: “مع مرور الوقت ازداد عدد المودعين بشكل كبير، وبات الأهالي يطلبون إيداع أموالهم في شركة الياسين دون قيد أو شرط، وهذا يعود إلى أن صاحب الشركة كان يرغب في البداية بإضفاء شرعية على عمله وكسب ثقة الناس، إذ لجأ في البداية إلى تقديم الأرباح للمودعين بعد عملية جرد الحسابات مباشرة، والتي كان يجريها ي.خ كل شهرين أو أربعة أشهر، كي لا يشكك به أحد”.
بلغ حجم المال الذي جمعته الشركة نحو 13 مليون دولار، ومع زيادة عدد المودعين، عينت الشركة مندوبين لها في جميع المناطق التي نشطت فيها، ومنها؛ جبل الزاوية وإدلب المدينة والباب شرقي حلب، واشترطت الشركة على كل شخص يريد أن يصبح مندوباً عندها جمع مبلغ 50 ألف دولار أمريكي من الأهالي، وفق ما رواه لنا أبو إسماعيل.
مودعون ومندوبون والجميع ضحايا
اتبع صاحب الشركة سياسة معينة لكسب ثقة المودعين قوامها الالتزام بمواعيد سداد الأرباح وعدم التأخر في إعادة أي وديعة، في حال حصول خلاف مع صاحبها.
هذا ما شجع عمر حج درويش (30 عاماً)، أحد المندوبين، ليودع أمواله ويعمل كـ”مندوب” مع الشركة، يقول لفوكس حلب: “ما دفعني لأثق بالشركة إقدام مالكها على إعادة وديعة بمبلغ 100 ألف دولار مع أرباحها المتراكمة، لأحد المودعين إثر خلاف حدث بينهما دون تلكؤ أو تأخير”.
لكن هذه السياسة كانت مجرد فخ، أوقع به صاحب الشركة شبان كثر في مقتبل العمر، يعانون من أوضاع مادية سيئة، هذا ما حدث مع مصطفى الخليفة الذي قرر أن يقترض 1300 دولاراً من أحد أقربائه، بغرض إيداعها في شركة الياسين، لكن بعد خمسة أشهر لم يحصل سوى على 300 دولار فقط، حسب ما رواه لنا.
سألنا مصطفى كيف بنيت ثقتك بشركة الياسين، فأجاب: “الغريق يتعلق بقشة، ومتطلبات المعيشة والأحوال المادية الصعبة دفعتني لخيار إيداع المبلغ في شركة الياسين أملاً بتحسين وضعنا المعيشي، فبعد وفاة والدي، أردت مساعدة أمي وإخوتي الستة إلى جانب مصاريف الجامعة، لكن الشركة أعلنت إفلاسها واختفى المبلغ المالي الذي أودعناه، والذي نعتبره مبلغاً كبيراً مقارنة بـ أوضاعنا المادية الصعبة”.
كان مصطفى قد أودع نقوده لدى عمر حاج درويش، المندوب السابق في الشركة، والذي يقطن في القرية ذاتها؛ “كفرحايا” و الأخير كان قد جمع أموالاً من أخوته وأقاربه وأودعها مع مالك الشركة “ي.خ”، لكن بعد أن بات مندوباً تابع عمر جمع المبالغ المالية من جيرانه وأغلب أهالي قريته، بهدف تشغيلها في الشركة، سألنا عمر عن قيمة المبلغ، لكنه فضل عدم ذكر المبلغ المودع عن طريقه.
تعرَّف عمر على الشركة وعملها، تجارة فوط الأطفال، أثناء نزوحه هو وعائلته إلى منطقة الباب في منتصف عام 2020، يقول: “أودعت في الشركة مبلغاً من المال وبعدها أصبحت مندوباً في الشركة وتحولت إلى صلة وصل بين “ي.خ” والمودعين، في نهاية كل جرد حساب يجريها “ي،خ” كان يعطيني مبلغاً من المال كمساعدة يتراوح ما بين 500 إلى 700 دولار، ويقول لي ولباقي المندوبين: هذا المبلغ مكافأة، لكنه لم يكن يفعل ذلك بشكل دائم”.
وأضاف: “ما شجعني على الوثوق بـ “ي.خ”، وجود شخصيات اعتبارية ورجال دين أودعوا مبالغ مالية كبيرة في شركته، ومنهم من معاهد شرعية معروفة في المنطقة مثل الشيخ أحمد، المعروف في بلدة سرجة بنزاهته، وهو من أقارب ي.خ”.
رغم أن عمر استطاع سحب المبلغ الأول الذي أودعه في الشركة، مع كامل الأرباح، وهذا ما جعله يثق بصاحبها، اعتبر نفسه وجميع المندوبين في الشركة ضحايا أيضاً، “كان ضررنا الأكبر أننا لم نسحب أموالنا ولا حتى الأرباح التي كنا نضيفها إلى رأس المال، في حين أن العديد من المودعين قد استردوا جزء كبيراً من نقودهم، عبر الأرباح التي أخذوها”.
شركات وهمية غير مرخصة
تعيد هذه الحوادث إلى ذاكرة السوريين شركات الاكتتاب في تسعينيات القرن الماضي، عندما أعلنت شركات الكلاس وأمينو والأخرس إفلاسها، بعد أن جمعت أكثر من 16 بليون ليرة سورية (1 دولار يعادل 45 ليرة سورية) من نحو 140 ألف عائلة سورية، ليصدر بعدها قانون جمع الأموال رقم 8 لعام 1994، والذي ينص على منع جمع الأموال من الغير عدا الزوجين والأقارب حتى الدرجة الرابعة، وحدد عقوبات الاعتقال والغرامة لكل مخالف لأي بند من بنود القانون.
في ذلك الوقت اعتقل التجار الأربعة الكبار؛ محمد كلاس ومصطفى كلاس و أحمد الأخرس ومصطفى أمينو، وأحيلوا إلى محكمة الأمن الاقتصادي.
إلا أن فارقاً يمكن ملاحظته بين هذه الشركات والشركات الجديدة، فبحسب ضحايا سابقين أودعوا أموالهم لدى الكلاس، إن شركات الكلاس وأمينو لديها تراخيص وأصول ومعامل ومزارع لتربية الأبقار وعقارات بخلاف الشركات الوهمية الحالية التي لا يملك أصحابها أي أصول أو ترخيص تجاري لعملها.
الشركات الوهمية دائماً تعمل خارج نطاق القانون، ظاهرها شركة تجارية وحقيقتها جمع أموال، وتنتهي بالإفلاس وضياع أموال المودعين لديها، والنصب عليهم، لذلك لا يقوم الأعضاء المؤسسين بالترخيص المطلوب لعملها، وفق ما يوضحه المحامي المختص في مجال القانون والاستشارات القانونية، أحمد العمر.
يقول العمر لفوكس حلب: “نتيجة لحادثة شركة الياسين وشركات أخرى صدر قرار رقم 243 لعام 2022 الذي يمنع الشركات كافة، على اختلاف أنواعها ومسمياتها القانونية، من إيداع أموال المساهمين والأشخاص الطبيعيين والاعتباريين دون الحصول على التراخيص اللازمة من وزارة الاقتصاد”.
سألنا العمر؛ ماهي عقوبة من يقوم بإنشاء شركة وهمية غايتها النصب والاحتيال؟ ليجيب أن هذه الجريمة “توصف قانونياً بـ”الجريمة الجنحية”، يعاقب مرتكبها بعقوبة الحبس والغرامة المالية ويصار إلى حجز جميع أموال الشركة الثابتة والمنقولة، وتعيين حارس قضائي عليها، وبعد تصفيتها تُقسم الأموال بين المودعين -الضحايا، قسمة غرماء؛ كلاً بنسبة رأس المال الذي أودعه”.
الهروب خارج البلاد
مع اختلاف طريقة ومجال العمل، برز اسم شركة Art link production تُعنى بإنتاج المواد الإعلانية والدعائية، في بلدة مرعيان وسط جبل الزاوية جنوبي إدلب، يملكها، طالب طب أسنان في جامعة حلب الحرة يدعى “خ.خ”، من البلدة ذاتها. أنشأ الشركة في شهر نيسان (أبريل) عام 2021 واستمرت حتى شهر آب (أغسطس) من عام 2022.
في البداية عمل “خ.خ” من خلال مكتب صغير كان يتواصل فيه مع عملائه، عن بعد (أونلاين)، ومعه عدة موظفين، بعد مرور شهرين استأجر مقراً كبيراً للشركة في مدينة إعزاز، يعمل فيه نحو 12 موظف بمختلف المجالات الإعلامية.
أحمد (اسم مستعار)، وهو أحد الضحايا الذين وعدهم “خ.خ” بأرباح كبيرة، بعد أن أودع معه مبلغاً من المال، يقول لفوكس حلب: “كان خ.خ صديقاً مقرباً، ولم أتوقع أن تكون لديه أي نية في الاحتيال علي، إذ أقنعني بأنه اشترى مواقع مهكرة وحسابات تحقق أرباحاً كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ووعدني بتحقيق أرباح تصل إلى 50% خلال أيام قليلة، في حال أعطيته مبلغاً وقيمته 4 آلاف دولار”.
وأضاف: “في الموعد المتفق عليه، طالبت خ.خ بالمبلغ، لكنه بدأ يراوغ ويماطل بحجة شراء مواقع جديدة أو معدات لشركته، حتى جاء الموعد الأخير الذي قطعه علي، حينها تواصلت معه، لكنه قال لي: لقد أفلست وليس معي أي دولار”.
يتابع أحمد: “لم أكن أتوقع أن يفعل خ.خ مافعله، بحكم الصداقة القديمة بيننا، لكن عندما قال لي: “لقد أفلست، اذهب واشتكي حيث تريد” أدركت أنه قام بالاحتيال علي.
قدّر أحمد ومصادر أخرى؛ المبلغ الذي جمعه “خ.خ” من الناس في قرية مرعيان بنحو 63 ألف دولار أمريكي، دون معرفة إذا كان قد جمع نقود أخرى من آخرين في مدينة إعزاز، مركز شركته، أو من أماكن أخرى.
تبريرات الإفلاس
حين تواصلنا مع خ.خ صاحب شركة art link production لمعرفة أسباب إفلاسه، اتهم موظفيه بسرقته، وقال إن “أحد الموظفين، وهو مصور، قام بسرقة فيلم كنا نعمل عليه، قبل بيعه للجهة التي تعاقدنا معها، وخسرنا نتيجة ذلك عقداً بمبلغ 50 ألف دولار، إلى جانب قيام بعض موظفي قسم المونتاج بضرب صفحة للشركة على أحد مواقع السوشيال ميديا، تحتوي على 400 ألف متابع، بالإضافة لموقع world التابع للشركة”.
وأضاف: “هناك موظفون آخرون عملوا مع جهات أخرى، رغم وجود سياسة منع ازدواجية العمل في شركتنا، وسربوا مشاريعنا لشركات منافسة لنا، وحين قررت مقاضاتهم، عن طريق تقديم شكوى ضدهم للمحكمة، هددوني بإبلاغ والدي، والذي لم يكن لديه علم عن عملي، إذ كانت رغبته أن أكمل دراستي فقط ورفض أن أقوم بأي عمل، وهذا ما دفعني لالتزام الصمت والسكوت عنهم”.لكن في نهاية الأمر علم والد “خ.خ” بأمر الشركة.
نتيجة لإفلاس الشركة، كما يدعي صاحبها، قام أصحاب الأموال بتقديم شكاوى ضده في المحكمة لذلك “اضطرت لإيقاف الشركة لمدة شهر على أمل أن أقنع والدي وأعاود الانطلاق من جديد، لكن يبدو أن بعض الأشخاص الذين وضعوا الأموال كشراكة معي لم يتحملوا الخسارة ولو لمرة واحدة، ظناً منهم أن الحياة كلها مرابح ولا يوجد خسارة أبداً، فسارعوا لتقديم الشكوى ضدي، مما اضطرني إلى التواري عن الأنظار”.
يعترف خ.خ ببعض حقوق الناس لديه، ولكنه ينكر بالمقابل مطالب العديد ممن طالبوه بحقهم ويشكك بمصداقيتهم، يقول: “أصحاب الحقوق سوف تعود حقوقهم بطريقة شرعية مناسبة، ولكن الذين يدّعون أنهم لديهم حق، وهم كاذبون، عددهم كثير”، دون أن يوضح عدد أولئك “الصادقين” بينهم وكيف سيعيد لهم أموالهم.
حسن صادق أحد الموظفين الذين عملوا في الشركة لمدة ثلاثة أشهر، قال لفوكس حلب: “عملت في شركة art link production مصوراً ومعلقاً صوتياً، أي بعقديّ عمل، عدا أنني كنت أستخدم معداتي الخاصة، وحصلت على أجرة راتب شهر واحد فقط، وحين طالبت خ.خ براتب الشهرين المتبقيين، قال لي: ليس لك أي رواتب واذهب واشتكي لأقرب محكمة”.
وشكك حسن برواية “خ.خ” وإفلاس شركته بقوله: “يستحيل أن تكون عملية إفلاس، لأن المبلغ الذي جمعه كبير، والمعدات وتجهيزات الشركة ورواتب الموظفين بالأشهر الأولى كانت تتراوح ما بين الـ 15000 و20000 دولار أمريكي”.
ويضيف أن خ.خ “كان طوال الوقت يطمئن الموظفين حين يسألونه إن كان لديه أموالاً لتغطية زيادة عدد الموظفين بقوله “لدي الكثير ويمكن تغطية الأجور والتكاليف لعدة أشهر، لا تقلقوا”، كما أننا لم نكن على علم أنه كان يجمع الأموال بغرض تشغيلها، لكن بعد مرور شهر على طمأنتنا، هرب خ.خ إلى تركيا”.
حسن لم يكن الوحيد الذي لم يحصل على كامل أجره، هناك أكثر من عشرة موظفين وموظفات لم يحصلوا على رواتبهم الأخيرة، من بينهم الموظفة التي كانت تشرف على نظافة مركز الشركة، وفق ما رواه حسن.
تكررت حالات تشغيل الأموال في عموم مناطق الشمال السوري على اختلاف الطرق والآليات، والكثير من الشركات المتورطة أعلنت إفلاسها أو هرب أصحابها وتركوا خلفهم ضحايا خسروا أموالهم، يخبرنا أحد الضحايا في بلدة ابلين، فضل عدم ذكر إسمه، عن قيام شخص يدعى “ع.ر.م” بتشغيل أكثر من 60 ألف دولار لعدد من المزارعين والأهالي في القرية ضمن مجال المواد الغذائية وتجارتها وتوزيعها، وكان يوزع أرباحاً للمساهمين معه تتراوح ما بين 4 و6 % بشكل شهري، وبعد سنوات من العمل أعلن إفلاسه وهرب خارج المنطقة، دون أن يعيد الحقوق لأصحابها.
وجه المحامي أحمد العمر عدة نصائح للأهالي في حال رغبتهم بتشغيل أموالهم أهمها؛ عدم التعامل مع أي شركة غير مرخصة وغير مسجلة في السجل التجاري، والتأكد من بياناتها وأنشطتها والكشف عن أعمال هذه الشركة قبل التعامل معها، واستشارة محامي أو خبير قانوني مختص، حتى لا يقعوا ضحية عملية نصب واحتيال، إذ تتعدد الأساليب والأشكال التي يتبعها من يقوم بذلك، من تقديم المغريات المالية كنسبة ثابتة من الأرباح، والتي غالباً ما تكون مرتفعة، حسب تعبيره.