تسابق السيدة الأربعينية علياء أشعة الشمس في النهوض باكراً، توقظ جميع أفراد أسرتها، استعداداً ليوم عمل طويل في حقول الزيتون بمنطقة “ميدانكي” في عفرين، بعد أن جهزت عدداً من الأرغفة المدهونة بزيت الزيتون والملح ودبس الفليفلة، وهي وجبات الطعام الأكثر شهرة في موسم قطاف الزيتون، تحضرها العاملات معهن كـ “زوادة طعام”.
ارتدت علياء لباساً شتوياً يقيها برودة الطقس وحرصت على انتقائه بلون غامق، كي يتحمل غبار الأرض والزيتون، وانتعلت حذاءً خفيفاً من النايلون يناسب المشي على التراب، والوقوف لساعات طويلة، كذلك تفعل باقي النساء العاملات فيما يسمينه “حواش الزيتون”.
يبدأ موسم قطاف الزيتون في إدلب وأرياف حلب، بحلول شهر تشرين الأول (أكتوبر)، يميز هذا الموسم مشاركة مئات النساء في ورش القطاف، باعتباره فرصة عمل موسمية، تحرص نساء كثيرات على استغلالها لتحسين ظروفهم المعيشية السيئة.
علياء، أرملة نازحة من ريف إدلب الجنوبي، تقيم في عقربات شمالي إدلب وأم لخمسة أولاد، علقت آمالاً كبيرة على الأجرة التي ستتقاضها مقابل عملها في ورش القطاف، تقول لفوكس حلب: “أفكر في تسديد ديون قديمة، وشراء حاجيات للمنزل وثياب للأطفال وأمور أخرى تخطر على بالي بين الحين والآخر، و أؤجل شرائها إلى حين انتهاء عملي في الزيتون وجمع الأموال اللازمة لذلك، إضافة إلى تأمين مونة بيتي من الزيت والزيتون”.
الطريق إلى حقول الزيتون
في موسم القطاف، تنتظر سيارة المتعهد الزرقاء يومياً سبع عائلات برفقة أولادهم وبناتهم الشابات، ويسمح بأخذ الأطفال الصغار للمساعدة بالتقاط حبات الزيتون المتساقطة على الأرض، تقول علياء: “إن وجود أطفالها معها أثناء عملها الطويل، يشعرها بقليل من الأمان”.
تنحشر النسوة فوق بعضهن البعض في الصندوق الخلفي للسيارة مثل “المكدوس” حسب تعبير إحدى السيدات التي تضحك أثناء تأملها تكدس النسوة داخل السيارة، إذ تجاوز عددهن خمسة عشرة امرأة، أعمارهن بين 15 إلى 50 عاماً، إحداهن تجلس على قدميها وتحتضن أطفالها، وأخرى لم تنم جيداً؛ تغمض عينيها وتأخذ غفوة، وبعض الفتيات تقفن على أطراف السيارة.
أما الأحاديث التي تجري بين النساء في الطريق إلى حقول الزيتون تدور حول الحاجيات التي ترغبن في شرائها عندما ينتهين من العمل.
فور وصولهن الأرض، تتقاسم النساء الأشجار، وتعملن على قطاف أكبر كمية ممكنة من حبات الزيتون، بهدف الحصول على أجرة أفضل، تخبرنا علياء أن المتعهد المسؤول عن الورشة، يعطيهن الأجرة حسب الكمية.
تتشابه معدات العمل وطقوس القطاف في جميع الحقول، تُوضع “الشوادر” الكبيرة حول محيط الأشجار وتجمع عليها الثمار بعد تمشيطها بوساطة أدوات خاصة تسمى “أمشاط”، وتتوزع السلالم التي تسهل عملية قطاف الحبات العالية من خلال الوقوف عليها، وتتولى النساء والفتيات هذه المهمة أحيانًا عن الرجال، أما حبات الزيتون الساقطة تحت الأشجار تنتظر أن تلتقطها أيدي الأطفال الصغيرة وتنحصر مهمتهم بجمع الحبات ووضعها داخل الأكياس، وتتوزع باقي النسوة العاملات على الأشجار.
أجور منخفضة وغير مرضية
لا يوجد إحصائية رسمية عن عدد النساء العاملات في ورش القطاف، لكن يؤكد لنا عدد من أصحاب الورش؛ أن نسبة عدد العاملات تفوق عدد الرجال في ورشات القطاف، لكن هناك إقبال كبير من النساء على العمل ضمن ورش القطاف بشكل ملحوظ.
يفضل أصحاب الورش (الفعالة =العاملات) النسائية، لقبولهن بأجور تتراوح ما بين 3 لـ 4 دولارات (سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية 18.5) وهي أقل بدولارين من أجرة العامل، إضافة إلى وفرة اليد العاملة من النساء، بسبب الكثافة السكانية في المنطقة.
تتفاوت أجور عمال المياومة بين متعهد وآخر، ومن منطقة إلى أخرى، وبين الرجل والامرأة، أخبرتنا عاملات تحدثنا إليهن؛ أن الأجرة تتراوح بين 35 -70 ليرة تركية يومياً، أي أقل من 4 دولارات، وبعض أصحاب الورش يعطون العاملة حسب كمية الزيتون التي قطفتها، عادة ما تجمع في كيس كبير من الخيش (الشوال)، يتسع لـ 70 كيلو من الزيتون، أجرته 100 ليرة تركية، تقول إحدى العاملات: “نتشارك وأطفالي لجمع الشوالات، وأحياناً لا نتمكن سوى من جمع شوال واحد”.
وهناك عملة بديلة، تختارها قاطفات الزيتون، إذ تحصل إحداهن على شوال من الزيتون مقابل قطاف عشرة شوالات. وتوجد أنماط أخرى من حساب الأجور، يتبعها أصحاب الورش، منها إعطاء من 5- 10 ليرات تركية على ساعة عمل واحدة، إذ تمضي عاملات الزيتون نحو تسع ساعات عمل يومياً، تبدأ من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً، قد تزيد أو تنقص، تتخللها ساعة غداء واحدة منتصف النهار، تقول النساء اللواتي قابلتهن: “الأجرة لا تكفي وجبة طعام يوم واحد!”، حالهن كحال كل عمال المياومة في إدلب.
يقول أبو أحمد، متعهد وصاحب سيارة لنقل ورشة العمال: “إن ضعف الإنتاج وكثرة اليد العاملة، وتكاليف السيارة وأجرة النقل، هي من تحدد الأجرة التي تصفها العاملات بالقليلة، إذ تصبح المنافسة أشد بين الورشات المختلفة للحصول على العمل”.
تؤكد علياء وباقي النسوة اللاتي تحدثنا إليهن أن علاقتهن مع المتعهد، وليس مع صاحب الأرض، وليس لديهن معرفة دقيقة عن الأجر الحقيقي الذي يقطعه من كل عاملة. وبهدف الحصول على أجرة أعلى، تركز النساء على الأشجار الأكثر ثماراً، وتشتد المنافسة بينهن، وتمضين ساعات طويلة في حقول الزيتون على وقع أحاديث التحسر على الأيام السابقة والظروف التي جعلت كثيرات منهن تلجأن لـ (الفعالة) اليومية لتأمين قوت أطفالهم.
عائلات كثيرة تنتقل من إدلب إلى عفرين في ريف حلب، لتوافر فرص عمل أكثر ديمومة، تقول علياء: “نسبة حصولي على فرصة عمل في عفرين كبيرة، لقلة عدد العاملات الموجودين هناك، ونزوح سكانها الأصليين (الأكراد) منها بسبب الحرب، ما اضطر أصحاب الحقول إلى تشغيل ورش العمل”.
ذكريات حاضرة وطقوس غائبة
سلام واحدة من العاملات، لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تصحب طفلتها الرضيعة معها إلى العمل، فيما يبقى طفلاها الآخرين في المنزل بانتظار عودتها، تقول “مرض زوجي وفقر حالنا دفعني إلى العمل في أراضي الآخرين، في حين كنا من أصحاب الأراضي، قبل تهجيرنا من بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي”، قطعت كلامها بتنهيدة حزينة ثم أضافت: “بعين الله، هالحياة مرة متل الزيتون”.
طوال ساعات العمل يظل ذهن سلام قلقاً على أطفالها في المنزل، ويبقى قلبها غير مطمئن على طفلتها الرضيعة التي تنام تحت شجرة الزيتون، إذ تخاف أن تتعرض لأي خطر أو تلدغها حشرة، ناهيك عن التعب والوقوف طيلة النهار في العمل.
ولا يختلف حال جميلة (42 عاماً) عن حال سلام، إذ قررت هي الأخرى مساعدة زوجها في مصروف البيت، في ظل الغلاء والظروف المعيشية السيئة، تقول: “أغتنم أي فرصة عمل في الأراضي من قطاف وحصاد، كوني معتادة على العمل مذ كنت في قريتي قبل نزوحنا من ريف معرة النعمان”.
تقارن جميلة ما بين ورشات العمل في الزيتون هذه الأيام والتي تفتقد روح الألفة والمحبة وبين أجواء القطاف “أيام زمان” والتي كان يتخللها الأناشيد الشعبية المرتبطة بموسم القطاف، تدندنها النسوة أثناء العمل في أراضيهن، وجمعات الأهل والأقارب، وقت الغذاء وصنع الشاي على الحطب، كلها استبدلت بقصص معاناة النسوة، والنزوح، والفقر والحاجة التي دفعتهن إلى العمل بالأجرة في غير أراضيهم، حسب تعبيرها.
ينتصف النهار، بعد أن أكل التعب والجهد من طاقة النسوة، وحان موعد تناول وجبة الغداء الوحيدة، والاستراحة قليلاً، لاستعادة النشاط مرة أخرى قبل العودة للعمل، تحضر كل واحدة زوادتها الخاصة، وتطعم الأمهات أطفالهن وسرعان ما تنقضي ساعة الراحة بصوت مسؤول الورشة، ينادي عليهن بالعودة إلى العمل.
تسع ساعات وأكثر، تمضي ببطء شديد في يوم العمل، تقول علياء، “رغم أن النهار شتوي قصير إلا أنه يطول كثيراً في حقول الزيتون”، تحصي النسوة العاملات الكميات التي قطفنها، وتجري كل واحدة منهن حسبة بسيطة لمعرفة أجرة اليوم الذي عملته.
نهاية يوم من العمل
مع اقتراب نهاية اليوم وغروب الشمس، يبدأ المتعهد بتسجيل اسم وكمية القطاف الخاصة بكل امرأة وتسرع الفتيات والنساء إلى السيارة، ينحشرن فوق بعضهن البعض، وقد اكتست ملامح التعب والغبار على وجوههن، ولم تعد الأحاديث تغريهن كما في الصباح.
ثمة معركة أخرى بانتظار النسوة عند عودتهن إلى المنازل، من تحضير الطعام، وتدريس الأطفال، وغسل الملابس وتنظيف المنزل، واحتضان أطفالهن، ومسح الغبار عن وجوههن المتعبة.
قبل وصولها إلى البيت، ذهبت علياء إلى السوق، بعد أن أخذت 70 ليرة أجرة يومها، اشترت فيها ربطتي خبز واثنين كيلو من البطاطا، وكيلو واحد من البندورة، بلغ ثمنهم 40 ليرة، وأكملت بالباقي شراء مسحوق غسيل وقليل من قطع البسكويت لأطفالها كما وعدتهم في بداية اليوم.