حين افتتح المعهد التقاني للإعلام في جامعة إدلب عام 2016 جمعت أوراقي الرسمية وتوجهت إلى الجامعة لأقدم طلب التحاق في المعهد، لأتلقى صدمة من موظف شؤون الطلاب، وهو يعيد إلي أوراقي، قائلاً: “لا تستطيعين الانتساب إلى المعهد، هذا الفرع مخصص للذكور فقط”.
جلست، وقتها، على الدرج الواصل بين غرفة شؤون الطلبة وقاعات كلية الآداب، شددت على الأوراق بيدي، تمنيت تمزيقها، وانتابتني حالة من الاستياء ومرت في مخيلتي عشرات الأفكار والمواضيع التي حلمت بالعمل على كتابتها؛ نساء فقدن أزواجهن، قاصرات حوامل، معتقلات خلف الزنازين، أمهات في الخيام، جميعها مشكلات وقضايا لنساء كثيرات غيرت الحرب في سوريا مسار حياتهن.
لكن حين أعلن رئيس جامعة إدلب الدكتور أحمد أبو حجر عن افتتاح كلية العلوم السياسية والإعلام، خلال ورشة إعلامية تحمل عنوان “نحو إعلام ثوري معاصر” والتي أقيمت في 20 أيلول (سبتمبر) الماضي بجامعة إدلب، شعرت بالتفاؤل، بأن يكون هناك فرصة لكثير من الإناث في إدلب يحلمن بدراسة الإعلام.
عقب إعلان افتتاح الكلية، انتشرت أخبار ومنشورات على الفيسبوك، تقول أن الدراسة في كلية العلوم السياسية والإعلام سيكون للذكور فقط، حاولت البحث داخل الصفحات الرسمية للجامعة، للحصول على تفاصيل، لكني لم أصل إلى أي معلومات تؤكد الخبر إلا بعد مرور يومين، حين صدرت المفاضلة الرسمية لجامعة إدلب، وهنا كانت الصدمة الثانية التي أتلقاها؛ عند قراءة عبارة “للذكور فقط” ضمن قوسين بجانب السطر الذي يحمل كلية العلوم السياسية والإعلام في المفاضلة.
هي عملية الإقصاء ذاتها التي تعرضت لها إناث كثيرات في مفاضلة عام 2016 التي افتتح بها في جامعة إدلب المعهد التقاني للإعلام، تتكرر اليوم في كلية العلوم السياسية والإعلام المستحدثة.
قبل الكلية ..كان المعهد التقاني للإعلام
في عام 2017 كنت واحدة من ضمن 15 طالبة التحقن بالمعهد التقاني للإعلام، لكن الأمر لم يكن بهذا السهولة، ولم يحدث إلا بعد جلسة لنا مع عميد الجامعة؛ طلبنا منه من خلالها أن يفتتح لنا شعبة للإناث في المعهد، ووافق بشرط أن يصل عددنا إلى 15 طالبة كحد أدنى، وبعدها افتتحت شعبة للإناث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تابعة للمعهد التقاني للإعلام، وتجاوز عدد الطالبات اللواتي التحقن بالشعبة 22 طالبة.
لكن حين صدرت المفاضلة الخاصة بالعام الدراسي 2018، أعادوا تخصيصها للذكور فقط، وبذلك كنا نحن الدفعة الوحيدة من الإناث التي سمح لها بإتمام تعليمها في الجامعة وتخرجنا صحفيات من معهد الإعلام التابع له.
وجود المرأة في المجالات والاختصاصات العلمية والتعليمية كافة مهم جداً، لكن في مجال الصحافة والإعلام يكون ذو أهمية مضاعفة، كما توضح الصحفية والمدرسة السابقة في المعهد التقاني للإعلام عفاف جقمور لفوكس حلب.
وترى أن الجدل الدائر حول قضايا المرأة في الواقع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وما نتج عنه من مبادرات كثيرة، تتمحور حول فكرة تمكين المرأة؛ سببه الرئيسي هو عدم وجود صحفيات قادرات على مخاطبة الإعلام بشكل جيد ونقل قضايا ومسائل تتعلق بوضع المرأة في المجتمع، حسب تعبيرها.
ووصفت جقمور تجربتها كمدرسة لمقرر “التحرير الصحفي” في معهد الإعلام بالمميزة جداً، تقول: “كنت سعيدة بتجربتي كمدرسة في معهد الإعلام، وحين أقارن بين تجربتي كمدرسة للطالبات في المعهد، وطالبات دربتهن صحفياً في واحد من المشاريع التي أقدم من خلالها تدريبات صحفية لتأهيل مواطنين صحفيين؛ أجد أن الفرق كان شاسعاً”.
مضيفة أنه: “على الرغم من النقص الذي كان يعانيه المعهد بالمعدات واللوجستيات (كاميرات، لابتوبات، أجهزة إسقاط، استوديوهات ومخابر)، لكن طالبات المعهد كان لديهن غنى ومعلومات شاملة عن الصحافة والإعلام”.
أما الصحفية سلوى عبد الرحمن، من مدينة إدلب، فهي أيضاً كانت ممن حالفهنَّ الحظ والتحقن بمعهد الإعلام في جامعة إدلب، تقول: “كان هدفي هو تطوير عملي وسد ثغرات النقص لمساعدتي على العمل الصحفي بشكل احترافي ومهني، واكتسبت من خلال دراستي في المعهد معلومات جيدة جداً وأضافت الكثير لخبرتي السابقة بمجال الصحافة والإعلام، لكن المحزن أن المعهد أغلق أبوابه بعد أربعة أعوام فقط من افتتاحه”.
في المقابل، ترى سلوى أن المجتمع مازال لا يتقبل وجود المرأة سواء في مجال الصحافة والإعلام أو في المجال السياسي، فالكثير منه يرى أن الرجال أنسب لمثل هذه المجالات، ويعود ذلك تبعاً لعادات وتقاليد الشرائح المحافظة من المجتمع، والتي لا تحبذ الاحتكاك والاختلاط بالرجال، حتى من قبل المصادر نفسها، حسب تعبيرها.
كما يواجه الإعلاميون والصحفيون بالعموم في سوريا مشاكل أمنية واستهدافات متكررة، وأحيانا نقص في الأدوات والمعدات، لكن فيما يخص الصحفيات يضاف إلى تلك الصعوبات نظرة المجتمع السلبية، والقيود التي يفرضها.
تقول إحدى طالبات معهد الإعلام السابقات، رفضت ذكر اسمها: “خلال فترة دراستي كان هناك تمييز وتفرقة واضحة بيننا وبين الطلاب الذكور، الذين كانوا يحصلون على الأولوية في كل شيء. كما كان هناك تعليقات وتدخلات على مظهرنا الخارجي مثل طول ملابسنا وألوانها، ومنعنا من وضع المكياج على وجوهنا منعاً باتاً”.
وأضافت “كان تخصيص دراسة معهد الإعلام لـ”لذكور فقط” قراراً ظالماً وجائراً بحقنا، والآن يتكرر القرار نفسه في كلية العلوم السياسية والإعلام، أتمنى أن تكون الكلية متاحة للجميع، ذكوراً وإناثاً، في العام القادم”.
سعادة مؤقتة انتهت مع صدور المفاضلة
مريم ( إسم مستعار)، 19 عاماً، من مدينة إدلب، وتدرس حالياً في كلية العلوم قسم الفيزياء، كانت من الإناث اللواتي رغبن بدراسة الإعلام والانخراط في المجال الصحافي، تقول لفوكس حلب: “بعد الإعلان عن افتتاح كلية العلوم السياسية والإعلام بدأ الجميع بمناداتي “الصحفية مريم” وانهالت عشرات رسائل الواتساب على جوالي، تحمل مباركات وأمنيات التوفيق والنجاح من أصدقائي”.
تكمل مريم “لكن سعادتي المؤقتة انتهت مع صدور المفاضلة الرسمية للجامعة، وتخصيص هذا الفرع للذكور فقط، ما سبب لي صدمة نفسية”.
أما سارة، 20 عاماً، من مدينة سلقين، والتي أصيبت بخيبة أمل كبيرة حين ظهرت المفاضلة الرسمية للكلية، فهي أيضاً كانت تحضر نفسها للالتحاق والدراسة في كلية العلوم السياسية والإعلام، واجهت ردة فعل المجتمع المحيط بها وتعليقاته على حزنها لفشلها بالانتساب إلى الكلية، والذي ظهر من خلال الاستهزاء بحلمها، تقول: “الكثير ممن حولي اعتبروا إني أسير في طريق يعارض مصلحتي أساساً، إذ أن مجال الإعلام من وجهة نظرهم لا يناسبني كفتاة، وزوجة وأم في المستقبل، ويرون أنه يحتاج لمؤهلات لا يمتلكها إلا الرجال”.
إقصاء الإناث سببه “البنية التحتية”!
وجود كلية للعلوم السياسية والإعلام بجامعة إدلب هو ضرورة ملحة لرفد المجتمع بخبراء سياسيين ورفع جودة الإعلام وتأهيل إعلاميين وصحفيين أكاديميين يعملون بمهنية أكبر، كما صرح رئيس جامعة إدلب الدكتور أحمد أبو حجر لفوكس حلب.
مضيفاً أنه “بإمكان أي طالب حائز على شهادة التعليم الثانوي بفرعيه العلمي أو الأدبي، وحقق مجموع درجاته الحد الأدنى للمفاضلة “عام أو موازي” واجتيازه للامتحان الشفهي والكتابي أن ينتسب إلى كلية العلوم السياسية والإعلام”.
لكن حين سألنا أبو حجر عن سبب اقتصار الكلية في دراستها على الذكور فقط، أجاب أن “السبب هو عدم توفر البنية التحتية لإنشاء كلية خاصة للإناث وكلية خاصة للذكور”.
ويرى أن الكليات المحدثة يجب أن تفتتح بأعداد قليلة، بهدف موازنة الكلية ودراستها بشكل جيد، وعدم التسرع بأخذ أعداد كبيرة منذ البداية، لتكون الأمور الإدارية والعلمية منضبطة بشكل جيد، حسب تعبيره.
أما عميد الكلية العلوم السياسية والإعلام بجامعة إدلب الدكتور عادل الحديدي قال لفوكس حلب: “في السنوات الـ11 الماضية حاول الناشطون والإعلاميون نقل الأحداث بوسائل وطرق مختلفة، لكنها متفاوتة في المستوى، فنحن نفتقر على أرض الواقع إلى إعلاميين وصحفيين أكاديميين، فمن الضروري أن نؤهل هؤلاء الناشطين ونمكِّنهم، لنصنع منهم أكاديميين وطبقة من الإعلاميين المهنيين يمكن الاعتماد عليهم”.
وفيما يخص اقتصار الكلية على الذكور فقط، لم نجد عند الحديدي إجابة له، واكتفى بالقول إنه “يعتقد أن العام المقبل سيكون عدد الطلاب أكبر بكثير وقد نتيح المجال أمام الإناث للالتحاق بالكلية، إلا أنه حتى الآن لم يتم البت بهذا الموضوع بشكل نهائي”.
الكلام عن “عدم توفر بنية تحتية لإنشاء كلية خاصة للذكور وأخرى للإناث”، وافتتاح كلية بأعداد قليلة” قد يكون غير مقنع لكثيرات من الإناث اللواتي حرمن من فرصة الالتحاق بكلية العلوم السياسية والإعلام، وهناك سؤال منطقي قد يطرح على المسؤولين، وهو لماذا لم يكن هناك طالبات إناث ضمن الأعداد القليلة؟
الإعلام في سوريا بدأ تدريسه من خلال معهد الإعداد الإعلامي الذي تأسس عام 1969 في دمشق، تلاه افتتاح قسم الإعلام التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بدمشق عام 1987، واستمر تدريس الطلاب فيه لمدة 23 سنة إلى أن تأسست كلية خاصة تابعة لجامعة دمشق بتاريخ 1 آذار (مارس) 2011. لكنها لم تكن “للذكور فقط”.
لذلك يبدو تأمل المشهد برمته، عندما يتم الإعلان عن افتتاح كلية للعلوم السياسية والإعلام في عام 2022، من خلال ورشة تحمل عنوان” نحو إعلام ثوري معاصر”، مخيب للآمال. ما هو “الثوري” و”المعاصر” بإقصاء الإناث عن السياسة والإعلام؟!.