لا يملك، عبد القادر الصطوف، سوى الصبر وهو يراقب طفلاته الأربع اللواتي يعانين نقصاً حاداً في السمع. طرق جميع الأبواب المتاحة وعيادات الأطباء، وفي كل مرّة كانت الإجابات تنتهي عند ضرورة زراعة الحلزون بشكل عاجل قبل أن تفقدن قدرتهن على السمع والنطق بشكل كامل.
لم يحالف الحظ الصطوف، المقيم في ريف إدلب الشمالي، بإدخال بناته إلى تركيا للعلاج غير المتوفر في مستشفيات المنطقة، يقول “حتى لو سمح لي بالدخول فمن أين لي بمبلغ عملية زراعة الحلزون الذي يتجاوز 12 ألف دولار”.
تجاوز عمر طفلتي الصطوف الكبيرتين ست سنوات، وهو العمر الأكثر نجاحاً لمثل هذه العمليات، بينما يمرّ الوقت بسرعة على طفلتيه الصغيرتين قبل دخولها في السن الأكثر صعوبة لإجراء العمليات، والاكتفاء بسماعات أذن يصفها بـ “الرديئة” سترافقهن مدى الحياة.
لا تقتصر ضرورة زراعة الحلزون على طفلات عبد القادر، تظهر أرقام يمكن الاستدلال بها على زيادة عدد الأطفال المصابين بمشاكل في السمع وتفاقم هذه المشكلات وحاجتها لزراعة الحلزون في مدينة إدلب.
فمن أصل 937 حالة راجعت مستشفى الحكمة في معرتمصرين، المشفى الوحيد الذي يجري تخطيط جذع دماغ مجاني في شمال غرب سوريا منذ بداية العام الحالي وحتى أيلول الماضي، أظهرت الفحوصات حاجة 324 طفلاً منهم لزراعة الحلزون و 366 لسماعات أذنية وسلامة 247 آخرين.
لا تعبر هذه الإحصائيات عن عموم الشمال السوري، فهناك من لم يراجع المستشفى، إضافة لمرضى راجعوا مركزين آخرين (مأجورين) مختصين بتخطيط جذع الدماغ في مدينتي الدانا وإعزاز.
تغيب زراعة الحلزون عن مستشفيات الشمال السوري، وتوقف الدعم الأممي لعلاج هذه الحالات في تركيا منذ نحو عام ونصف العام، كما عجز الدعم المتوفر عن سماعات من نوعية جيدة بشكل مجاني، وهو ما يترك أهالي المرضى عاجزين في سبيل تأمين تكلفة الأجهزة والتداوي.
يتوقّع طبيب الأذنية شريف حلاق، وجود مئات حالات الصمم بين الأطفال في الشمال السوري، ويشير إلى أن النسبة زادت عن السابق، لافتاً إلى أن كثيرين من هؤلاء الأطفال بحاجة لعمليات زراعة الحلزون، لكن ما يمنع الأهالي التكلفة الباهظة في تركيا، إلا إن وجدت منظمات تساعدهم بالتكفّل بجزء من الأجور.
يرجع الطبيب، المختص بأمراض الأذن، نضال الحسن، حالة طفلات الصطوف الأربع والأطفال الآخرين إلى أسباب كثيرة أهمها: العامل الوراثي، بسبب زواج الأقارب، الذي يتسبب بنقص السمع الحسي العصبي عند الأطفال، إضافة للتشوه الخلقي أو بسبب اليرقان الولادي (أبو صفار) عند حديثي الولادة الذي يؤثرعلى مراكز السمع.
ويشرح الطبيب الحسن “إن للمرض درجات، فإذا كان درجته دون 80 ديسبل يمكن أن يستفيد الطفل بتركيب السماعة الطبية، والاستفادة مشروطة بأن تكون السماعة “ديجيتال” من النوع الجيد، وهذه سعرها مرتفع وقد يصل إلى 600 دولار للسماعة الواحدة، أي أن السماعتين تكلفان 1200 دولار بمعدل وسطي.
أما الحالة الثانية وتكون فيها درجة النقص تفوق الـ80 ديسبل، وهذه لا تفيد معها السماعات إلا قليلاً، وتحتاج هذه الحالة إلى عملية زراعة الحلزون المكلفة، وإن لم يعالج الطفل فسيصاب بالصمم والبكم، ولن يعود قادراً على التواصل مع المجتمع والمحيط”، وهذا ما يتخوّف من حصوله لابنتي “الصطوف” الكبيرتين، لذلك تعتبر عملية زراعة الحلزون عملية هامة وضرورية.
أكثر من 300 حالة في الانتظار
منذ أشهر، أجريت في مستشفى باب الهوى خمس عمليات لزراعة الحلزون لأول مرة، وهي خطوة يراها الطبيبان اللذان تحدثنا معهم “مهمة”، خاصة وأن العمليات “تكللت بالنجاح”.
يؤكّد إعلامي الجمعية الطبية الأميركية السورية (سامز) الداعمة لمشروع زراعة الحلزون في مدينة إدلب إلى جانب جمعية “من حقي أن أسمع” عبد الرزاق زقزوق، أن هناك مرحلة ثانية ستجرى خلالها خمس عمليات أخرى، وأن المشروع سيستمر غالباً لمحاولة تغطية أكبر عدد ممكن من الأطفال المرضى بنقص السمع.
وعن طبيعة العملية التي فقدت الأمل منها اثنتان من طفلات عبد القادر الصطوف، يقول مدير المشروع وأحد الأطباء الذين أجروا العمليات الخمس، حمزة السيد حسن، إن زراعة الحلزون هي معالجة معوضة للسمع، عندما تكون المشكلة بحلزون الأذن الباطني، ويكون العصب السمعي أو الدماغ سليماً، وتكمن أهميتها في كونها تعيد سمع الطفل المصاب بالنقص.
ويضيف “مراحل ما قبل الجراحة مهمة جداً، ففيها يتم تخطيط وتقييم السمع عند الطفل، حيث يجري له أكثر من تخطيط، ويجب أن يكون الطفل مؤهلاً بمركز تأهيل للسمع، وموضوعاً على تجربة سماعات طبية ثنائية الجانب لمدة ستة أشهر، لإبقاء التنبيه ولو بالحد الأدنى لقشرة الدماغ حتى لا تضمر، وللوقوف على مدى تقبل الطفل لوضع السماعة، لأن جهاز الحلزون يشبه السماعة، فإن لم يتقبل الطفل السماعة لن يتقبل الحلزون”.
ويكمل الطبيب السيد حسن “أثناء الجراحي نزرع الجهاز الداخلي، وبعد ذلك بثلاثة أسابيع إلى الشهر نضع الجهاز الخارجي، لتتم بعد ذلك عملية البرمجة، بحيث نضبط الجهاز على المستوى الذي يجعل الطفل يسمع دون أن ينزعج، لأنه إذا تألم أو أزعجه وجود الجهاز فلن يتقبل الحلزون”.
لزراعة الحلزون عمر مناسب أيضاً
يؤكّد الطبيب “السيد حسن” أن أفضل الأعمار لإجراء زراعة الحلزون هي مادون الثلاث سنوات، وهذا عمر واحدة من طفلات “الصطوف” الأربع، ويشير إلى أنه قد تجرى بين ثلاث إلى ست سنوات إذا كان الأهل قد وضعوا سماعة للطفل، وأجروا جلسات تأهيل للنطق والسمع، أما بعد تجاوز الطفل ست سنوات فيصبح العمل الجراحي غير مستحب، وبالنسبة للكبار يمكن زرع حلزون شريطة أن يكون المريض قادراً على الكلام وفقد سمعه نتيجة حادث ما.
يربط الطبيب مصطفى الفرج، وهو أحد الذين أجروا العمليات الجراحية، الكشف والجراحة المبكرة بالحصول على نتائج أفضل، كذلك تقل الفائدة كلما زاد عمر المريض.
ويحث، الطبيب الفرج، في الوقت نفسه، الأهل على الانتباه للطفل، وعدم تجاوبه مع الأصوات المحيطة به، ومراجعة الطبيب المختص في حال الشك، خشية أن يكون مصاباً بـ “نقص السمع الحسي العصبي الجديد”، ما يفرض عليه الخضوع لجراحة زراعة الحلزون بعد التأكد من أن ما يعانيه ليس “ضموراً دماغياً”.
لا توجد أولوية لاختيار حالات زراعة الحلزون في إدلب، بحسب الطبيب الفرج والذي أرجع عملية الاختيار لدراسة ملف المريض (صور الطبقي المحوري والرنين المغناطيسي) وعمر الطفل، إضافة لتعاون ذوي المريض، فالعلاج لا ينتهي مع الجراحة بل يحتاج إلى وقت طويل يبقى فيه الأهالي طيلة الحياة واعين للحلزون وللقطعة الخارجية من أجل حمايتهما.
سعد كابي أحد الأطفال الخمسة الذين حالفهم الحظ بإجراء عملية زراعة الحلزون في إدلب، على عكس طفلات “الصطوف” الأربع، يقول والده: إن “نتائج العملية ممتازة، لقد عاد السمع لطفلي، كان عُسر حالي يمنعني من إجراء عمل جراحي له في المستشفيات التركية الخاصة”.
ويضيف “اكتشفنا حالة سعد، عندما كان يبلغ من العمر عاماً واحداً، وأجرينا له تخطيطاً ليتبين أن لديه نقصاً عميقاً، ثم وضعنا له سماعة، وألحقناه بمركز نطق مجاني بمدينة ترمانين بعمر السنة ونصف السنة للتدرب على النطق، وبدأ بالاستفادة ثم ركبنا له بعد ذلك سماعة أخرى”.
رُشِح سعد للعمليات الخمسة من بين الأطفال المؤهلين، وبقي لمدة ثلاثة أشهر يتابع إجراءات العملية، ومنذ أيام رُكِبَ له الجهاز الخارجي وسيتابع بعدها تهيئة النطق بمركز “سامز” في ترمانين، بحسب والده.
تأهيل النطق جزء من نجاح زراعة الحلزون
في إدلب العديد من مراكز تأهيل النطق، قسم منها مجاني مدعوم من قبل منظمات، وقسم آخر مأجور دون دعم تتراوح أجوره ما بين 150 إلى 500 ليرة تركية شهرياً، حسب من التقيناهم من ذوي المرضى.
أم يمان سيدة مهجرة من مدينة حماة لإدلب، لديها طفل مريض بنقص السمع بسبب تعرضه لارتفاع حرارة، تعينه على السمع سماعة طبية، تقول:
“عانيت كثيراً مع طفلي، زرت العديد من الأطباء، توقع بعضهم أمراضاً عدة، قبل التخطيط ومعرفة مرضه، أوضاعنا المادية لا تسمح بمتابعة علاجه كما يلزم. بعد تركيب السماعات، ومنذ ستة أشهر، أبحث عن مركز تأهيل مجاني يملك شاغراً لطفلي، دون جدوى”.
تختم السيدة حديثها بأنه “كل ماتأخرت عن إيجاد مركز تأهيل لطفلي كلما أصبحت استجابته أبطأ للعلاج، هكذا أخبرني الأطباء، لكن ليس باليد حيلة”.
الآنسة نهى، الإدارية في مركز الصم والبكم والمكفوفين الذي تأسس عام 2007 في مدينة إدلب، شرحت لفوكس حلب آلية العمل في مراكز التأهيل، تقول “تبدأ الجلسات بتعريف الطفل بمسميات كل ما يحيط به، ابتداء من أجزاء الوجه والجسم وانتهاء بالمهن، ببطء شديد و تكرار مستمر، تكون المرحلة الأولى بكلمات بسيطة مرفقة بصور، المراحل الأخرى تتضمن أيام الأسبوع، الألوان كل لون على حدة وهكذا، وبعد الانتهاء من المراحل الأربعة ينتقل المصابون إلى المدارس عادية”.
لا تتوفر في المركز الوسائل التعليمية الخاصة بطلاب لغة الإشارة وصعوبة النطق، ولم يتلق أي دعم من قبل أي منظمة أو جهة أخرى رغم كونه أحد أقدم المراكز في المدينة.
أخصائي النطق بعيادة تأهيل السمع والنطق في ترمانين عبد الكريم محمد، يقول عن أهمية تأهيل النطق قبل عمليات الزراعة:
“يجب أن نستفيد من البقايا السمعية، ولو بسماع الأصوات العالية، نعمل على تعديل السلوك، يكون للأطفال سلوكيات كالحركات الزائدة مثلاً، أو عدم التجاوب،ثم نقوم بتعويد الطفل على وجود شيء اسمه صوت، ومحاولة تحديد اتجاهه”.
بعد عملية زراعة الحلزون يخضع الطفل للتأهيل السمعي، حيث يصبح جاهزاً لإدراك وتمييز الصوت وإنتاج الكلام، ويبدأ العمل معه على مراجعة إدراك الصوت، ثم تمييز الصوت، والتعرف على نوعه، وجهته، وقوته (صوت عالي صوت منخفض)، على حد تعبير المحمد.
ويضيف محمد “نبدأ بعدها بتشكيل مخزون لغوي للطفل (استيعاب وإنتاج)، قبل أن ننتقل إلى تكوين الجمل، والطلب بجمل قول وليس اشارة، هذا التدريب يحتاج لنحو عام أو أكثر، ثم ننتقل لاستخدام اللغة في الحياة، أي يتواصل مع الناس، ليصبح العمر اللغوي مناسباً لعمره، وهنا يصبح الطفل قادراً على الاكتساب لوحده وتطوير لغته”.
يحتاج المريض لنحو عامين بين تأهيله لزراعة الحلزون وإجراء الجراحة و تأهيل ما بعد الجراحة، إن توفر الوقت للمرضى المنتظرين دورهم، فمنذ أشهر لم تجرى سوى العمليات الخمس التي تحدثنا عنها، وهو ما يحبط مئات الأهالي الخائفين على مصير أطفالهم، في الوقت الذي لا يملكون فيه تكلفة العلاج الباهظة ورفاهية الانتظار لإنقاذ أطفالهم.