ما تزال مساحة سوق الهال الجديد في حلب على حالها، خمسة هكتارات، ما عدا ذلك كل شيء تغير، المكان الذي نقل من وسط المدينة إلى أطرافها، عدد المحلات الذي تضاعف، أصحابها الأصليون الذين هجروها مقابل متنفذين سيطروا على المكان، لافتات الفلكس المطبوعة الجديدة بدلاً من أسماء كتبها خطاطون رافقوا السوق منذ بداية تأسيسه، الأعراف التي حكمت السوق لما يزيد عن ستين عاماً وغابت اليوم، البائعون الجوالون الذين حرموا الدخول إلى المكان، والسلاح عوضاً عن الدفتر وقلم البيك وصدرية المحاسبة الخضراء، والأهم من ذلك وجوه القادمين والخارجين من السوق، الكومسيون جيه، الحمّالون، بائعو المفرق، أصحاب السوزوكيات…
أواخر العام 2018 نقل مجلس مدينة حلب سوق الهال المؤقت الذي أنشأه في حي الحمدانية إلى مساكن هنانو في الجزء الشرقي من المدينة، بسبب الشكاوى المتكررة من قبل الأهالي وإشغال الأرصفة والشوارع، لكنه عاد عن قراره ونقل السوق إلى أطراف حي العامرية بعد أن انتهى من إنجازه في أواخر 2020.
لأجل ذلك، بحسب رياض اللافي (مدير الأملاك في مجلس مدينة حلب) أنجزت البنى التحتية للسوق، أوصلت المياه، وأمنت مولدتان ما تحتاجه المحلات من كهرباء.
سبق ذلك نقل سوق الهال القديم من حي المشارقة إلى باب جنين في عام 1962، وشغل المكان لأكثر من نصف قرن من الزمن، يملكه تجار توارثوا هذا المكان. المحلات كانت تشبه بعضها البعض، الألوان ذاتها، الخط الذي كتب اللافتات ذاته، الفواتير والدفاتر والأقلام وصدريات الباعة، الضجيج وأصوات الباعة، المزادات وقوانينها..
لم يكن سوق الهال القديم مثالياً، الفوضى والازدحام والخدمات السيئة والبنى التحتية المتهالكة كانت حاضرة دوماً، لكن في سوق الهال الجديد تفاقمت هذه المشكلات وتحول السوق الذي كان يحوي آلاف العمال والسائقين وأصحاب المحلات و “المتعيشين” إلى مكان يستغله أشخاص محددين من الشبيحة والمرتبطين بهم.
تستقبلك الروائح الكريهة والقمامة قبل وصولك إلى السور الخارجي، أكوام من بقايا الخضار والفواكه التالفة والقمامة، أشخاص “يبولون” على زوايا السور الخارجي أمام الجميع و بـ “أريحية مطلقة”.
أمام الباب الرئيسي لسوق الهال الجديد شاب يرتدي بزة عسكرية وقبعة قماشية، ومئات سيارات النقل الصغيرة والكبيرة تنتظر السماح لها بالدخول وتدفع لقاء لذلك لصاحب القبعة 200 ليرة سورية.
حتى لحظة دخولنا إلى السوق، نحو ربع ساعة، دخل المكان 30 سيارة، كان الرجل ذو القبعة، والذي اكتشفنا أنه شرطي يتبع لقسم السكري مهمته تنظيم حركة السيارات في السوق، يتنقل بين السيارات لأخذ “المعلوم” دون إيصال، هو رسم مرور يفرضه بنفسه ويركض من أجله ليلاحق السيارات التي ترفض الدفع أو تتغاضى عنه لتحصيله أو إخراج السيارة من الدور الطويل.
لسوق الهال رجاله العقلاء وحكامه سابقاً، تستقى منهم المعلومات و يراجعهم الجميع لحل مشكلاتهم، هذا ما بحثنا عنه تحت غطاء رغبتنا بشراء محل داخل السوق ليشار إلينا بالذهاب إلى مكتب “حسن بازار” أحد حكام السوق الجدد ومتنفذيه.
يملك “بازار” أكثر من عشر محلات داخل السوق وفي مواقع حيوية منه بحسب ما أخبرنا به من تحدثنا معهم، ثلاثة منها في مدخل السوق، إحداها مكتب فاره علقت على واجهته آية قرآنية “وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً”، إلى جانبه محل حوّله بازار إلى مغسلة وموقف لسيارته الخاصة، وبقربه محل ثالث رفع عليه لافتة (تجارة خضار وفواكه -كومسيون).
بين دخان الأرجيلة التي غطت المكتب بالدخان تحدث “بازار” لنا بلهجة “الحاكم للسوق”، روى لنا تفاصيل المحلات وأسعارها في السوق، بحسب الموقع والاتجاه. يقول بازار إن “أسعار المحلات تتراوح بين 100 إلى 150 مليون ليرة، يحدد ذلك مكان المحل وواجهته، قربه وبعده، مساحة كل محل 20 متراً مربعاً إضافة لوجيبة أمامية بمساحة 50 متراً مربعاً”.
تحدث بازار عن أشخاص يملكون محلات كثيرة داخل السوق، و أن العقد بين البائع والمشتري يسجل في البلدية، ويترتب على كل محل ضرائب للبلدية بقيمة 285 ألف ليرة شهرياً، إضافة لضريبة نظافة تصل إلى 150 ألف ليرة ومالية تتعدى نصف مليون ليرة سنوياً.
يحتوي سوق الهال الجديد على 306 محلاً، توزعت على 5 هكتارات، بلغت نسبة الإشغال فيها نحو 70%، يملك القسم الأكبر منها أشخاص محددين حصلوا عليها في المزاد العلني الذي أقامه المجلس البلدي بعد تنفيذ السوق، يقول من تحدثنا معهم إن الملاك الجدد هم من الأشخاص التابعين للميليشيات والشبيحة وأفرع الأمن، وهم ذاتهم من تملكوا المحلات في سوق الهال المؤقت سابقاً في الحمدانية، وأنهم تقاسموا هذه المحلات فيما بينهم وبسعر تراوح بين 200 إلى 300 ألف ليرة سورية في ذلك الوقت.
يبيع الملاك الجدد المحلات داخل السوق وفقاً لشروطهم، أو عن طريق دلالين في السوق، يقول وليد أحد السماسرة داخل السوق ويعمل في بيع الحشائش (نعناع -بقدونس -جرجير..) إن العقود، تجبر المشترين على إخلاء المكان حين الطلب، من دون ضمانات في استعادة الأموال، وإن المدة النهائية للتعاقد تصل فقط حتى نهاية 2025.
عرض وليد علينا أحد المحلات التجارية داخل السوق للبيع بمبلغ 125 مليون ليرة، دون كهرباء أو ماء أو صرف صحي، وبحسب الأسعار الحالية فإن المستثمر الجديد في السوق سيدفع سنوياً نحو خمسين مليون ليرة كاستثمار حتى نهاية العقد بعد ثلاث سنوات، إضافة للتكاليف التشغيلية وهو ما منع تجار قدامى من الدخول إلى السوق، كذلك كثر من الذين فكروا بالعودة إلى سوق الهال.
عمر أحد التجار الذي عايشوا ثلاثة أسواق هال في حلب قال إن العمل “جيد”، لكن المدة القصيرة للعقود و الإتاوات العالية التي تفرضها البلدية والمالية، إضافة لمبالغ الترفيق وما يدفع على الحواجز الكثيرة تسهم في رفع أسعار الخضار والفاكهة، ما يقلل ربح (الكومسيون، أصحاب المحلات)، هذا إن استثنيا المنافسة غير الشريفة من قبل التجار الجدد.
في السوق مسجد قيد الإنشاء وكافتيريا غير مستثمرة، إضافة لمكتب تحويلات مالية (الهرم) ودورات مياه من المفترض أنها موجودة لكننا وجميع من سألناهم داخل السوق لا يعرفون طريقها، يفسر ذلك العمال الذي يقضون حاجاتهم على أسوار المكان وبين المحلات.
المكان الطرفي لسوق الهال الجديد جعله بعيداً عن مناطق كثيرة في حلب، وساهم في رفع أسعار الخضار والفاكهة التي ينقلها سائقو السيارات الصغيرة إلى المحلات في المدينة.
يقول أبو محمد، صاحب محل لبيع الخضار في حي الشعار، إنه لم يعد يتسوق بضاعته من سوق الهال، وبات وكثر غيره من أصحاب المحلات في الأحياء الشرقية من حلب يعتمدون على أسواق، نصف جملة، كما أطلق عليها، مثل سوق “قرلق”، بسبب ارتفاع أجور النقل من جهة وقلة البيع من جهة ثانية.
أبو علي الحمدو، سائق سوزوكي، يعمل على نقل الخضار من سوق الهال إلى المحلات، قال إن تكلفة النقل تصل إلى نحو 30 ألف ليرة إلى مناطق حلب الشرقية، يشرح ذلك بأن معظم السائقين يضطرون لشراء البنزين الحر، يصل سعره اليوم لنحو 8 آلاف ليرة للتر الواحد، وذلك بعد تقنين المحروقات والحصول عليها عبر البطاقات الذكية التي لا تكفي كمياتها لعمل يومين في الاسبوع، ويحصل عليها كل سائق في مدة تتراوح بين 15 إلى 20 يوماً، يضاف إليها ساعات الانتظار الطويلة داخل السوق، و الإتاوات المدفوعة للشرطة، والتفريغ والتحميل مع المشتري.
لا تقتصر التكاليف العالية للنقل على البضائع، إذ يدفع عمال الحمولة في سوق الهال، بحسب من تحدثنا معهم، نصف أجرهم اليومي للوصول إلى السوق الطرفي عن المدينة، فالمواصلات العامة “سيئة أو معدومة”، بحسب ما وصفوه لنا، خلاف ادعاء المسؤولين في دائرة النقل ومجلس المحافظة عن وجود باصات نقل داخلي على مدار الساعة تخدّم كراج الراموسة للبولمانات وسوق الهال في آن معاً.
يقول أحد العمال الذي تحدثنا معهم إن ذلك “مخالف للحقيقة، غالباً ما نضطر لاستئجار سيارة نقل، خاصة أن عملنا في الغالب يبدأ في ساعات الفجر، في المساء أحياناً نجد مكاناً في سيارات الحمولة أو السيارات العائدة من السوق مجاناً أو بأسعار مخفضة لتوصلنا إلى أقرب نقطة من منازلنا”
عند خروجنا من السوق ودعتنا الروائح ذاتها، ولكنها، هذه المرة، اختلطت برائحة ( الفشافيش) المشوية، والعجة والفلافل والكبة عند الباعة الجوالين الذي منعوا بشكل كامل من تخطي سور سوق الهال، لتنزع البلدية في مدينة حلب طعماً آخر من سوق الهال، ذكريات باعته الجوالين في باب جنين مثل البوادقحي والكردي وفلاحة وبساطة وفجلة وسقار وحمامي وغيرهم ممن ترك المكان.
على باب سوق الهال الجديد أشارت لنا امرأة كبيرة بالسن لنقلّها إلى منطقة صلاح الدين المتاخمة لحي العامرية، كانت، أم جلال، كما أخبرتنا باسمها، تحمل كيسًا أسود يحوي بعض الخضار المنوعة باذنجان وكوسا وبندورة مجرّحة، وقثاء ذابلة، تقول:
” آتي كل يوم إلى سوق الهال لألملم ما يسقط من السيارات من خضار وفاكهة، أو ما يرميه العمال من خضار تالفة أو فاسدة، أقوم بجمعها وتنظيفها، حتى أسد رمق أحفادي”. ننظر في المرآة الخلفية للسيارة تاركين خلفنا سوق الهال الجديد برائحتة العفنة وذكرياته العطرة التي سرقها أمراء الحرب الجدد الذين يستعينون بآيات من سورة ياسين لرد الحسد والبلاء.