تحتوي حبة الغاز الواحدة على جرعة مميتة من فوسفيد الألمنيوم، ولا تتجاوز نسبة نجاة من يتناولها 5 بالمائة، وإن نجا سيصاب بإعاقات دائمة.
توفّيت “أمل” (19 عاماً) النازحة من بلدة كفرسجنة جنوبي إدلب إلى أحد مخيمات دير حسان شمالي إدلب، الشهر الفائت، نتيجة تمزّق أحشائها بعد تناولها حبة غاز بنية الانتحار، إثر خلاف مع زوجها ووالدته تسبّب بطلاقها. تقول والدة أمل: غسل الأطباء والممرضون معدتها لمنع انتشار المادة السامة في جسمها، وأعطوها العديد من الأدوية، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل، خرج أحد الأطباء من العناية المركزة وقال “البقية بحياتكم”.
كانت الوالدة توضّب ثياب أمل التي أرسلها أهل زوجها، عندما بكت وقالت “لا أعرف كيف وصلت إليها حبة الغاز، كنت لا أفارقها لخوفي الشديد من إقدامها على إيذاء نفسها، بسبب ما نالها من الحزن، نتيجة طلاقها بعد تسعة أشهر فقط من الزواج”.
ما هي حبة الغاز؟
حبة الغلة أو حبة التعقيم الزراعية تصنع من خلال مزج كربونات الأمونيوم و فوسفين الألمنيوم، وتتحول إلى مركب عند تعريضها لغاز الفوسفين شديد السميّة. استخدامها الرئيسي إبادة الحشرات والقوارض، وتعقيم المحاصيل والحبوب في المستودعات أثناء تخزينها، كما تستخدم أيضاً لتعقيم حبوب المؤونة في المنزل.
تحتوي حبة الغاز الواحدة على جرعة مميتة من فوسفيد الألمنيوم تتراوح بين ربع الغرام إلى غرام واحد.
يقول الطبيب البيطري محمد الأسعد “تنقسم حبوب الغاز إلى قسمين، الأول حجمه صغير ونوعيته صينية ويأتي بعيار 56، ويكون غير مغلف وتحوي العلبة الواحدة 1666 حبة، ووزن العلبة كيلوغرام واحد، ويعرف باسم “بيستوكسين”، أما القسم الثاني المعروف تجارياً باسم “فيستوكسين” فيعبأ ضمن مواسير، كل ماسورة تحوي 20 حبة وكل حبة تزن 3 غرامات، ويكون حجمها كبيراً وتأتي بعيار 57 لكن تركيزها أعلى وأقوى.
يضيف “الأسعد” أن مصدر هذه الأنواع إما صيني أو هندي، والصيني تكون أسعاره أغلى من الهندي ومرغوبة من قبل الزبائن بسبب جودته، وتدخل هذه الحبوب إلى الشمال السوري عن طريق شركات محلية مستوردة عن طريق باب الهوى.
يقول الطبيب وأخصائي الأمراض الهضمية خالد السويد، إن مادة فوسفيد الألمنيوم شديدة السمية، وعند تعرضها للهواء أو العصارة المعدية تتحول إلى غاز الفوسفين القاتل الذي يسبب تلفاً شديداً للخلايا، ويؤثر بصورة مباشرة على الأوعية الدموية وعضلة القلب، ويحدث التسمم بهذه المادة إما عن طريق البلع أو عن طريق الاستنشاق وهذا الغاز يؤثر بصورة مباشرة على العصيات المسؤولة عن إنتاج الطاقة ما يؤدي إلى توقف عمل العديد من الإنزيمات، كما يؤثر على عملية الفسفرة التأكسدية ويؤثر أيضاً على الأوعية الدموية وعضلة القلب والرئتين محدثاً انخفاضاً شديداً بضغط الدم، وصدمة وعائية وحموضة بالدم واضطرابات في توصيل ضربات القلب، إضافة إلى التهاب بعضلة القلب ووذمة مائية بالرئة، تزامناً مع متلازمة ضيق التنفس للبالغين.
تبدأ الأعراض بعد التعرض للمادة السامة بقليل، وهذا ما حدث مع أمل تماماً، بحسب والدتها، وهي أعراض غير مميزة في البداية مثل الغثيان والإقياء والإسهال والصداع والمغص. وتتطور بعد ذلك لتشمل أعراضاً تنفسية وقلبية وعصبية مثل ضيق التنفس والشعور بثقل على الصدر وسعال وشعور بالإرهاق العام، وضعف بالعضلات مع حدوث اضطراب في التركيز دون فقدان للوعي في البداية، مع إمكانية حدوث تشنجات عصبية، بحسب الطبيب السويد.
تشخيص الأعراض
لم تخبر أمل أحداً بتناولها حبة غاز، لكن والدتها قالت: إن الأطباء أكدوا ذلك بعد معاينتها وتحليل دمها. يقول علي غزال، طبيب الأمراض الداخلية في مدينة إدلب، “يصعب الكشف سريرياً عن حالة المريض وتشخيصه إلا في حال إقراره بتناول الحبة، أو عند إخبار أحد أفراد أسرته للطبيب بتناولها، أو من خلال انتشار رائحة تشبه رائحة الثوم من فمه. نتعامل مع المريض بحسب الأعراض الظاهرة عليه، ونقدّم له الأوكسجين من أجل تحسين الحالة العامة وهبوط الضغط وتصحيح الحماض الاستقلابي الذي يحدث في الجسم، حيث يقلل استخدام كبريتات المغنيزيوم من الوفيات.
يجري الأطباء والممرضون تحاليل مثل تحليل الغازات في الدم لاكتشاف نوع الغاز الذي دخل جسم المصاب، بحسب “غزال” وغالباً يجرون تحليلاً كاملاً للدم، كما يلجؤون إلى غسل المعدة في بعض الحالات، إذا كان الوقت الذي تم تناول حبة الغاز فيه قريباً، ولم تنحل الحبة في المعدة بشكل كامل لتخفيف المادة السامة.
يؤكّد الطبيب أن عامل التوقيت مهم جداً في التعامل مع حالات التسمم بفوسفيد الألومنيوم، حيث أنه كلما كان التدخل سريعاً بعد التعرض للمادة السامة كلما كانت النتيجة ونسبة النجاة أفضل، ويلفت إلى أنه لا يوجد مضاد معين لفوسفيد الألومنيوم ومعظم الإجراءات المتخذة في التعامل مع مثل هذه الحالات هي إجراءات داعمة إسعافية.
ويشير إلى أن العديد من الدراسات الحديثة أثبتت أن استعمال “سلفات المغنيزيوم” عن طريق الوريد قد يقلل من معدل الوفاة لنسبة قد تصل إلى 50 بالمائة من الحالات، وبخاصة إذا ما كان هناك اضطراب في توصيل ضربات القلب، وبالرغم من جميع الإجراءات يقول “إن معدل الوفيات لحالات التسمم بفوسفيد الألمنيوم في الشمال السوري عالية جداً، وقد تصل إلى ما بين 85 إلى 100 بالمائة”.
ماهي النسبة القاتلة وكم نسبة النجاة
تعتقد والدة أمل أن ابنتها تناولت حبة واحدة على الأقل، وهي كمية كافية لقتل الإنسان، بحسب الطبيب “غزال” الذي يشير إلى أن نصف أو ربع الحبة يكون ضرره أقل، وربع الحبة تكون نسبة النجاة فيه أفضل وأقوى، أي أنّه كلما زادت الجرعة زادت نسبة الوفاة وقلت نسبة النجاة، مع مراعاة سرعة إسعاف المريض لأن عامل الزمن هو الأهم في هذه الحال.
يؤكد الطبيب على أنه في حال تعرض الحبة الكاملة للرطوبة أثناء وضعها في المؤونة أو في المستودعات من الممكن أن تخسر قسماً من غازاتها، وعندها يقل خطر الموت. ويلفت إلى أن من يحاول الانتحار بحبة الغاز قد ينجو من الموت في حالات نادرة جداً، ولكن قد تصيبه إعاقات دائمة مثل التهاب الدماغ، والقصور الكلوي الحاد، وما يتبعه من آثار جانبية سلبية، آثار تجعل الحياة صعبة جداً، إذ يؤكد الأطباء أن معدل نسبة النجاة بهذه الحبوب لا تتجاوز 5 بالمائة في حال تم إسعاف المريض للمستشفى فوراً، وتم تقديم جميع الإجراءات له، قبل أن تأخذ الحبة مفعولها، وإذا كانت الحبة منتهية الصلاحية.
على عكس أمل، نجا أحمد (22 عاماً) من ريف معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي، النازح إلى بلدة أرمناز غرب إدلب، من محاولة انتحار بكسرة من حبة غاز، حيث تم إسعافه فوراً إلى مستشفى أرمناز الجراحي، وقام الكادر الطبي بتقديم جميع الإجراءات والإسعافات، من غسيل للمعدة بالزيت وإجراء تحاليل وصور ومراقبة لوضعه السريري. ما زال أحمد يعاني من التهاب دماغي أدى لشلل الجزء اليساري من جسده، وفقدانه النطق، كما أصيب في الوقت ذاته بقصور كلوي، وتعطل عمل جزء من كبده، إنه يصارع الأمراض وتبعات محاولته الانتحار منذ ثلاثة أشهر حتى اليوم.
لا ضوابط حقيقية على بيع حبة الغاز
تظّن والدة أمل أن ابنتها حصلت على حبة الغاز من أحد محلات الجملة المنتشرة في المنطقة، حيث تباع هذه المادة القاتلة في الصيدليات ومحلات بيع المواد الغذائية، وهي رخيصة الثمن، يقول محمد المحمد النازح من ريف حلب الغربي إلى أحد مخيّمات دير حسان “تباع حبة الغاز في محال بيع المواد الغذائية في بعض القرى والمخيمات، وتتم عملية البيع دون أي سؤال عن دراية المشتري بمخاطر استخدامها، “اشتريت الأسبوع الفائت حبات الغاز من أجل حفظ المؤونة، من محل لبيع المواد الغذائية بالجملة، لم يتحدث معي البائع إلا حول الثمن”.
يؤكّد المهندس الزراعي خالد الموسى، العامل في إحدى صيدليات مدينة سرمدا الزراعية على ضرورة فرض السلطات المحلية مراقبة شديدة على بيع هذه الحبوب وخاصة في غير الصيدليات، وتقييدها بالمزارعين، بعد تدوين أسمائهم وأرقامهم، بموجب فاتورة بيع معتمدة، ويلفت إلى أن ما قد يجعلها سهلة التداول رخص أسعارها، حيث يبلغ سعر العبوة التي تزن 1 كيلوغرام والتي تحوي 350 حبة نحو 10 دولارات.
أعداد المنتحرين في ازدياد
أمل لم تكن وحيدة، فقد أعلن فريق “منسقو استجابة سوريا” أن أعداد حالات الانتحار المسجلة خلال العام الجاري تخطت ما تم توثيقه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث لم يحدد حالات الانتحار بحبة الغاز فقط.
وأوضح الفريق أن عدد الحالات وصل في مناطق شمال غربي سوريا إلى 53 حالة، توزّعت إلى 40 حالة انتحار انتهت بالموت، وكان المنتحرون 13 طفلاً و16 امرأة و11 رجلاً، إضافة إلى 13 حالة انتحار فاشلة، بينما وثّق 19 حالة في عام 2021.
أثناء إعداد المادة وبحثنا عن اجراءات الجهات المسؤولة لمكافحة هذه الظاهرة تحدثنا مع المدير العام للتجارة والتموين في حكومة الإنقاذ محمد السليمان، فأخبرنا أن وزارة الاقتصاد والموارد والمديرية العامة للتجارة والتموين، منعت تداول حب الغاز في المحلات التجارية ومحلات المواد الغذائية، وعمّمت قراراً على كافة الفعاليات، وحصرت بيعها بالصيدليات فقط.
وأضاف أنهم يسيّرون دوريات الرقابة التموينية بجولات مكثفة على محلات المواد الغذائية، حيث ضبطوا عدة مخالفات وتمت إحالة مرتكبيها إلى لجنة مختصة. ويقول في سياق حديثه “أصدرنا قراراً بمنع تداول حبوب الغاز حتى لا تستخدم في غير مكانها، ووضعنا خطة لهذا الأمر، ونقوم الآن بتنفيذها بشكل جيد ووصلنا لنتائج جيدة”.