“لماذا تحرمون ابنتي من الدراسة؟”
هكذا تساءلت أم أحمد في اجتماع لأولياء الأمور بإحدى مدارس ريف حلب الغربي، مُسلطةً الضوء على مشكلة ابنتها، البالغة من العمر 14 عاماً، بعدما رفضت مدرستها استقبالها في الصف الثالث الإعدادي.
لم تكن الإجابة مقنعة لأم أحمد، فقد أبلغتها المدرسة بقرار مديرية التربية في المنطقة، بمنع استقبال الطالبات المتزوجات في المدارس، لكن أم أحمد تمسكت بحقّ ابنتها في مواصلة التحصيل العلمي في المدارس الحكومية، طالما أنها محققة لشروط العمر والتسلسل الدراسي والالتزام بالدوام، حتى إن تزوجت.
زوجت أم أحمد ابنتها مبكراً، لضيق الأحوال المادية وسوء الظروف المعيشية للعائلة وأجبرت على قبول الزواج من منطلق: “اجا نصيبها”، واشترطت على زوج ابنتها أن تكمل تعليمها، خصوصاً أن الفتاة متفوقة وأحرزت أعلى الدرجات في اختبارات العام السابق، ومن حسن الحظ أن الزوج وعائلته كانوا داعمين لها في مسيرتها الدراسية، غير أن قرار المنع صدمهم جميعاً، خصوصاً أن العائلة لا تستطيع تحمل تكاليف التعليم في مدرسة خاصة.
لم تكن ابنة أم أحمد الضحية الوحيدة لهذا الأمر الشفهي من مديريات التربية في المنطقة، والذي وُجه لمدارس الفتيات في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي، فعشرات غيرها يخضن صراعاً حقيقياً لينتزعن حقهن في مواصلة الدراسة التي يكفلها لهن القانون.
الطالبة إسلام، 15 عاماً، والمنقطعة عن الصف الثالث الإعدادي بسبب الزواج، كانت إحدى ضحايا المنع، وأبدت استغرابها منه، بعدما أبلغها به أحد أقاربها العاملين في القطاع التربوي، لكنه لم يقرأه مطبوعاً بشكلٍ رسمي، لذلك طلب منها التريث حتى يتأكد.
تقول إسلام إنها كانت تخطط للعودة لمقاعد المدرسة في العام المقبل، متفائلة بما سمعته عن تعاون وزارة التربية مع المنظمات الإنسانية لمنع التسرب المدرسي الذي سببته الحرب، أو الحدّ منه على أقل تقدير، لكنّ ما توارد عن قرار المديريات بمنع الطالبات المتزوجات من الدراسة يُثبت عكس ذلك. وتساءلت إسلام عن السبب الذي يمنع مديرية التربية من إصدار قرار نصي لا شفهي، ويحدد بدقة الفئات المستثناة، وعلى من يُطبق بالتحديد.
التفرقة بين المتزوجة والعزباء في المدارس
بررت مديرة مدرسة في المنطقة، فضلت عدم ذكر اسمها، القرار بعدم قدرة المدرسة على استيعاب أعداد إضافية من الفتيات، خصوصاً مع إقبال أعداد كبيرة منهن على الدراسة. تقول المديرة: “الطالبة العزباء أحق من المتزوجة بهذا المقعد، فمشاهداتنا أثبتت أن المتزوجة أقل التزاماً بالدوام، لأنها تخضع لإرادة الزوج الذي قد يمنعها من الحضور، كما أن حملها وارد في أي لحظة، ما يتسبب بانقطاعها عن الدوام لفترات طويلة”. أقنعت تلك الفرضيات الكادر الإداري في المدرسة بجدوى قرار المنع وصوابه.
منذ عامين كاملين يُطبّق قرار المنع في المدارس الحكومية، وخلال هذه الفترة راجعت المدرسة طالبتان بغرض إكمال تعليمهن، بحسب المديرة، والتي أوضحت أن القرار لم يصدر بكتاب نصي، وإنما وُجه للكوادر الإدارية بشكل شفهي.
عبير، 16 عاماً، تزوجت منذ سنة، وتُحضّر حالياً لتقديم امتحان الصف التاسع من مرحلة التعليم الأساسي، تقول: “منذ العام الماضي وأنا أدرس المنهاج بجدٍ عبر الانترنت، لكن صديقتي أخبرتني أنني لن أستطيع الالتحاق بالمدرسة بعد الزواج مثل زميلاتي العزباوات… ليش شو فرقنا عنن؟”
في المدارس الثانوية.. المتزوجة ضيف غير مرغوب فيه
“القرار يُطبَّق في المدراس، ومخالفته تعني المساءلة”
هكذا أكدت مديرة إحدى المدارس الثانوية للبنات في مدينة إدلب، موضحة أن إدارة المدرسة قد تتعرض للمساءلة إذا استقبلت المتزوجات ضمن صفوفها، أو تستّرت على طالبة متزوجة، مُبدية تأييدها للقرار.
تقول المديرة: “اختلاط المتزوجة بالعازبات في المدرسة قد يعود بتأثير سلبي على الفتيات، فاهتمامات المتزوجة وأفكارها وحديثها تختلف تماماً عن العزباء، كما أن الفتيات في مرحلة المراهقة، والطالبة المتزوجة قد لا تستوعب أهمية حفظ أسرار الزوجية، وقد تتبادل الأحاديث غير المناسبة مع صديقاتها”.
تصف المديرة قرار منع استقبال المتزوجات بالمدارس بأنه “قرار مدروس”، وتضيف أنه ليس قراراً جديداً، بل يطبق في المدارس والمعاهد التابعة لوزارة التربية، مثل معهد إعداد المدرسين، منذ القدم، وطالبت بتوعية الأهالي بخطورة الزواج المبكر، خصوصاً في ظل الظروف المعيشية الصعبة الذي تدفعهم إليه.
المديرة، التي رفضت ذكر اسمها، ليست الوحيدة التي تلقت هذا القرار، يؤكد مدير سابق لإحدى المدارس الثانوية في مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، أنه تلقى أمراً شفهياً بعدم استقبال الطالبات المتزوجات في صفوف المدرسة، إبان عمله كمدير، وقد شاهد تطبيق القرار بالفعل على طالبة أرملة تبلغ من العمر 15 عاماً، في العام الدراسي السابق 2020 – 2021.
يحكي المدير أن الطالبة كانت قد تزوجت بعمر 14 عاماً بعد اجتيازها لامتحان التعليم الأساسي، ثم توفي زوجها بعد شهور فقررت العودة للمدرسة وإكمال دراستها، خصوصاً أنها تسرّبت من التعليم لعامٍ واحدٍ فقط، لكنها فوجئت بالرفض بحجة أنها تزوجت وهي قاصر.
تعرضت فتاة أخرى في إحدى مدارس مدينة عفرين، وهي أرملة وأمّ لطفل، لنفس الموقف، بعدما تزوجت بعمر 15 عاماً، وعندما عادت للالتحاق بالمدرسة كان عمرها 17 عاماً، بحسب شهادات لطالبات سابقات في صفها، يعملن حاليّاً كموظفات في إحدى الفرق الإنسانية بالمنطقة.
على جانبٍ آخر، صرّح يوسف حاجولة، مدير المكتب التعليمي في المجلس المحلي لمدينة إعزاز: “لا توجد أي قرارات بفصل أي طالب أو طالبة في المدارس كافة، مهما كانت الأسباب”.
يقول يوسف حاجولة إنه بحسب قانون الأحوال الشخصية لسوريا، والمستمد من الشريعة الإسلامية، فالحد الأدنى للزواج هو 17 عاماً، ودون ذلك تعتبر الفتاة قاصراً، والنظام الداخلي يجب ألا يتعارض مع قانون الأحوال الشخصية.
يضيف حاجولة: “يعتبر التعليم إلزامياً حتى الصف التاسع، بينما التعليم الثانوي غير إلزامي، لذلك تستطيع مديرية التربية أن تضع شروطاً عليه، ورغم ذلك فلا يوجد قرار يمنع المرأة المتزوجة من استكمال تعليمها الثانوي، لكن هناك قرار بعدم منح إجازة أمومة لطالبة متزوجة بهذه المرحلة، لأن إجازة الأمومة للطالبة تتعارض مع قوانين التربية التي تنص على أن غياب الطالبة أكثر من شهر يجعلها متسربة من المدرسة”.
الدستور والقانون يصطدمان بـ”أوامر شفهية”
تواصلنا مع المكتب الإعلامي في مديريتي التربية بإدلب وريف حلب الغربي، للحصول على إجابات حول صِحة القرار من عدمه، ومن يشمله القرار، وإن كانت له استثناءات، وطلبنا الحصول على نص القرار إن صدر رسمياً، أو تبرير له إن كان قد أُصدر شفهياً كما صرّح الإداريون الذين قابلناهم.
لم نحصل على رد إلا في المحاولة الأخيرة، وكان الجواب هو نفي وجود قرار أو إجراء كهذا، ليبقى السؤال معلقاً: هل تصرف مدراء المدارس التي اتخذت هذا الإجراء بحق الطالبات اللواتي التقيناهن، باجتهاد شخصي؟! وهل ما أكدوه لنا حول تلقيهم للقرار بشكل شفهي ومن ثمَّ تطبيقه كان مجرد ادّعاء في كل المناطق المذكورة (إدلب، ريف حلب الغربي، إعزاز، عفرين)!؟
بعد جواب المكتب الإعلامي، عدنا للتواصل مع مديري المدارس الذين التقيناهم سابقاً، لنخطرهم بنفي مديريات التربية، ونطلب منهم التعليق عليه، لكنهم امتنعوا عن الرد، ليبقى السؤال معلقاً: من المسؤول عن منع الطالبات المتزوجات من التحصيل العلمي ومخالفة الدستور والقانون؟!
مع حق التعلم وضد زواج القاصر
يعتبر الزواج المبكر أحد أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي GBV، وهو مصطلح يشير إلى جميع أشكال العنف أو الأذى الموجه إلى شخص على أساس جنسه، مثل التفرقة ضد المرأة بسبب زيادة المهام المنزلية والحياة الزوجية و الحمل.
لا تشجع المنظمات الإنسانية الزواج المبكر، لما له من أضرار اجتماعية ونفسية وصحية، ولما يتركه من أثر على الزوج وتربية الأبناء، بسبب عدم قدرة الفتاة تحت سن الثامنة عشر على تربية الأبناء، لكن حرمانها من التعليم أيضاً يعتبر نوعاً من أنواع العنف، بحسب غيث الأحمد، مسؤول حماية الطفل في إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في شمالي سوريا.
يقول المحامي عبد الناصر حوشان: “القانون السوري يقرّ بأن التعليم حق للجميع، وإلزامي في مرحلة التعليم الأساسي، ولا يوجد أي نصّ قانوني يمنع التعليم عن المتزوجات والمتزوجين”.
يؤكد حوشان أن قضية زواج الفتيات في مرحلة التعليم الأساسي تدخل ضمن مخالفة قانونية هي “زواج القاصر”، إذ يعتبر القانون السوري أن الطفل هو كل من لم يبلغ من العمر 18 عاماً، سواء كان ذكراً أو أنثى، والسن القانونية للزواج في سوريا للشاب أو الفتاة هو الثامنة عشر، وهو سن الرشد واكتمال الأهلية القانونية.
يقول حوشان: “منع المتزوجات من الدراسة يعتبر أيضاً مخالفة قانونية، بسبب عدم صدور أي قرار قانوني ينص على ذلك”.
يؤكد الأمر نفسه المحامي غسان عاكوب، والذي شرح قائلاً: “لا يوجد أي نص في القانون السوري يمنع الطالبات المتزوجات من إكمال دراستهن، سواء في الدستور أو قانون الأحوال الشخصية، بل على العكس، فقد ظهر مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة جلياً ومسايراً للقانون الدولي والمواثيق الدولية، والتساوي بالحقوق يكون بالجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية وتولي المناصب والعمل خارج المنزل، وهناك مادتان في الدستور السوري تؤكدان ذلك، هما المادة (23) والمادة (33)”.
يضيف عاكوب أنه بالنسبة لمناطق الحكومة المؤقتة أيضاً فلا يوجد ما يمنع النساء المتزوجات من إكمال دراستهن، ولا يوجد ما ينص على أن الزواج مانع لمتابعة الدراسة، فهو أمر اختياري يتعلق بإرادة المرأة المتزوجة، وبالاتفاق والتفاهم بين الزوجين.
“يكفل الدستور السوري حق التعلم لكل مواطن، وهو إلزامي ومجاني في مرحلة التعليم الأساسي، ومجاني لكن غير إلزامي في المرحلة الثانوية وبرسوم رمزية في التعليم الجامعي”.
سمّى القانون رقم 35 للعام 1986 حق التعليم “بالتعليم الإلزامي”، وبمقتضى هذا الحق فإن الأطفال السوريين ملزمون بالذهاب إلى المدرسة حتى نهاية المرحلة الابتدائية، وعليه فقد كانت وزارة التربية ملزمة بتعليم الأطفال الملتحقين بها، ممن هم في سن التعليم الإلزامي، حتى إنهاء المرحلة الابتدائية، إن تجاوزوا سن الثانية عشرة.
وفي عام 2002 صدر القانون رقم 32 والذي تضمن ما سمي بـ «قانون التعليم الأساسي» وبموجب هذا القانون فإن حق التعليم الإلزامي للطفل قد مُدّد حتى نهاية المرحلة الإعدادية، أي أن مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي أصبحتا تشكلان مرحلة واحدة وتسمى مرحلة التعليم الأساسي وهي مجانية وإلزامية، ومدة الدراسة في هذه المرحلة تسع سنوات، وتنتهي بامتحان عام يُمنَح الناجحون فيه شهادة التعليم الأساسي، وعلى هذا فإن التعليم في سورية قد أصبح إلزامياً حتى نهاية المرحلة الإعدادية، وقد أغفل هذا القانون تحديد سن التعليم، وهو ما استدركه القانون رقم 7 للعام 2012، والذي نص على إلزام جميع أولياء الأطفال العرب السوريين ومن في حكمهم ذكوراً وإناثاً، بإلحاق أطفالهم الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 سنة بمدارس التعليم الأساسي.
وقد ارتفع عدد الإناث الملتحقات بالتعليم العالي بشكل كبير في سورية في السنوات الماضية، فبينما لم تتجاوز نسبة التحاقهن 42% عام 1981 من مجمل أعداد الذكور الملتحقين، تجاوزت هذه النسبة 101% عام 2013 متخطية بذلك أعداد الذكور، وهو ما يعكس ازدياد وعي المجتمع السوري بضرورة تعليم المرأة، لأنه الضمان الحقيقي لمستقبلها، وهو ما أدى إلى ارتفاع سن الزواج لدى الإناث بسبب إكمالهن لتعليمهن الجامعي، وعلى جانبٍ آخر انخفض معدل خصوبة الأمهات المراهقات (عدد الولادات لكل ألف امرأة في سن 15-19 عاماً)، من 104 ولادات عام 1981 إلى 40 ولادة عام 2014.
تغيب الإحصائيات التي تحدد نسبة زواج القاصرات من النسبة العامة لحالات الزواج شمالي سوريا، لكن إحصائية وزارة الشؤون المدنية في حكومة الإنقاذ في إدلب تشير إلى أن عدد حالات الزواج لشهر أيار كانت (3243) حالة، و (2309) حالة خلال شهر نيسان، من العام الحالي.
وهكذا، رغم الوضع القائم الذي يتعارض مع ما يكفله القانون لهن من حقوق، تتمسك النساء السوريات في مناطق سيطرة المعارضة بحقهن في التعلم، ويقاومن الظروف القاهرة التي خلقتها الحرب، كالفَقد وغياب الأمن وعدم الاستقرار، والأوضاع المعيشية والاقتصادية القاسية، التي تجبر كثيرات منهن على الزواج المبكر، ليسقطن في هوة عميقة، حتى لو ساعدتهن العائلة والزوج على تخطيها، تعيدهن إليها قرارات شفهية لا يعرف أحد مصدرها، لكنها قد تشكّل مستقبلهن كلّه.