تسبب إغلاق المعابر، في أرياف حلب الشمالية والشرقية، بنقص زمر دوائية كانت توردها معامل الأدوية السورية في مناطق النظام، ويزداد هذا النقص يومياً مع نقص الكميات المخزنة في المستودعات وعدم القدرة على تعويضها، في الوقت الذي لا تحقق فيه البدائل المهربة أو تلك القادمة من تركيا بطرق رسمية، جميع الزمر المفقودة، وما توفره منها يكون بأسعار لا تتناسب مع قدرة المواطن الشرائية.
منعت قوات سوريا الديمقراطية وقوات النظام السوري دخول الأدوية إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المؤقتة منذ نحو ثلاثة أشهر، وبشكل نهائي، بحسب أصحاب مستودعات للأدوية التقيناهم، ومنهم محمد خضر مدير مستودع الخضر للأدوية الذي حمّل قسد مسؤولية حرمان سكان المنطقة من الأدوية السورية، بعد أن رفعت رسوم دخولها من خمسمائة دولار للمتر المكعب من الأدوية إلى ثلاثة آلاف دولار نهاية العام الماضي، قبل أن توقف دخولها نهائياً.
لم تصدر قسد بياناً بشأن منع دخول الدواء، إلا أن المستودعات الفارغة ونقص الزمر الدوائية في الصيدليات يؤكد ذلك، كذلك أصحاب المستودعات الذين ربطوا بين نقص الأدوية والحصار المتبادل بين قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية، والذي تمثل بمنع دخول الدواء والطحين، إذ تحاصر قوات من الفرقة الرابعة التابعة للنظام السوري حيين في حلب مقابل حصار قسد لمناطق في الحسكة تسيطر عليها قوات النظام، وعلى ما يبدو أن ذلك الحصار المتبادل ألقى ظلاله على منع دخول الأدوية إلى مناطق قسد ومنها إلى الشمال السوري.
بنظرة سريعة على رفوف صيدلية جنديرس المركزية تمكن علي المصطفى من ذكر أسماء 18 صنفاً دوائياً فقدت من صيدليته، يقول إن هناك بدائل لثلاثة منها فقط، بينما يتعذر إيجاد بديل للأصناف الأخرى.
ويضيف المصطفى أن مشكلة فقد الدواء تتفاقم بشكل كبير مع اقتراب نفاد كمية الأدوية الموجودة في المستودعات، بينما لا تغطي البدائل التركية والهندية سوى عدد محدود من النقص.
ثلاث صيدليات أخرى سألنا العاملين فيها عن الأدوية الـ18 ولم نجدها، لكن وجدنا بعض البدائل التركية أو الهندية.
بعيداً عن الأدوية النوعية وغياب للمنافسة
يوجد في شمال غربي سوريا معملان للصناعات الدوائية، ريفا فارما في إدلب وينتج 129 صنفاً دوائياً وسكاي فارما في شران بريف عفرين وينتج 21 صنفاً دوائياً، ويوجد معمل ثالث بمسمى أنس فارما إلا أن كل أدويته من صناعة معمل ريفا فارما.
تتشابه جل الأدوية المنتجة من حيث التراكيب العلمية في المعملين، وتختلفان بالأسماء التجارية، ويمكن تصنيف إنتاجهما ضمن ما لا يزيد عن 20 زمرة دوائية من أصل 11800 زمرة دوائية تنتجها معامل الأدوية السورية.
يقول حيدر محمد موزع أدوية في عفرين: إن المعملين يغطيان نحو 50 بالمئة من متطلبات السوق من الأصناف المصنوعة فيهما، وأصناف معمل ريفا فارما تعد أكثر من أصناف سكاي فارما.
تغطي هذه الأصناف احتياجات السكان من الأدوية المتداولة، مثل مسكنات الألم والمضادات الحيوية والفطرية وأدوية الرشح والسعال، وهي الأكثر مبيعاً، لكنها تفتقر في قوائمها للأدوية النوعية وأدوية الأمراض المزمنة والسرطانية وأدوية الكبد والغدة الدرقية، كذلك تفتقر للتنوع في الزمر الدوائية ذاتها، يقول الصيدلاني عارف المحمود، إن هناك عشرات الزمر الدوائية التي تندرج ضمن كل بند من المنتجات، مثل المضادات الحيوية على سبيل المثال، ولكل جرثومة مضاداً يكون الأفضل لعلاجها، لا يمكن أن تعالج جميع الأمراض بـ “الأموكسيسللين” على سبيل المثال.
تختلف أيضاً طبيعة الأجسام، هناك بعض المرضى الذين يعانون حساسية من أحد الزمر الدوائية، هناك أجساد لا تتقبل أنواعاً معينة من التراكيب الدوائية، و يعمد الطبيب إلى تبديلها للتخفيف من الآثار الجانبية، كذلك تحقيقا للاستجابة الأفضل للعلاج.
يتضح هذا الأمر بصورة أكبر عند مرضى الضغط والسكري على سبيل المثال، معظم المرضى يواظبون على أدوية بحد ذاتها ولفترات طويلة دون تغييرها، أحياناً يكون الأثر الجانبي خطيراً لتبديل التركيب الدوائي، وهو ما يضطر المرضى لتجريب أنواع عديدة مع أطبائهم قبل الاستجابة إلى تركيب دوائي بحد ذاته، وهو ما لم يعد متوفراً اليوم بعد اقتصار الموجود على أدوية محددة ما ضيق قدرة الطبيب على الانتقاء بين الأدوية واختيار أفضلها.
ويضيف الصيدلاني عارف، إن هناك أطباء لا يقبلون بتبديل الدواء، حتى وإن كان متطابقاً مع التركيب العلمي، لثقتهم بالمنتج وصناعته ومعايرته، كذلك “عقامة المعمل” وجودة التصنيع، ومع توقف دخول الأدوية يبدأ المريض رحلة البحث بين الصيدليات للحصول على علبة الدواء المطلوبة، دون جدوى.
لا يقلل الصيدلاني، عارف، من جودة أدوية المعملين في الشمال السوري، ولكنه يطرح سؤالاً عن تراخيص هذه المعامل، الرقابة الدوائية عليها، المادة الفعالة ومصدرها، إلى آخر المتطلبات التي يجب أن تكون موفرة في صناعة الأدوية والتي يجهل عارف أي معلومات عنها.
إضافة لذلك، يقول الصيدلاني إن تنوع الزمر الدوائية، كذلك المعامل، يدخل في باب المنافسة سواء من خلال السعر أو الجودة، سابقاً كانت معامل الأدوية السورية تحصل على تراخيص عالمية لصناعة أصناف دوائية، تفرض عليها هذه التراخيص استيراد مواد أولية معينة، ومراقبة من قبل الشركة المرخصة، ما جعل الدواء السوري يحقق حالة من كفاية جميع الأمراض، باستثناء أدوية قليلة كانت تستورد عبر شركة “فارمكس” أو مستودعات مرخصة، ولا تزيد عن 2% من حاجة المرضى.
من جهته يقول حيدر إن السكان يبحثون عن الأدوية السورية ولا يقبلون بالبدائل الأخرى لاعتيادهم عليها خاصة في أدوية الأمراض المزمنة. فيما شكك بعض الصيادلة الذي سألناهم بفعالية الأدوية المصنعة في المناطق المحررة وبعض الأصناف الأجنبية، مع عدم وجود مخبر تحليل دوائي في مناطق سيطرة الجيش الوطني، فيما يوجد مخبر في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ وحاولنا التواصل مع وزارة الصحة للاستفسار عن الأمر عبر معرفاتهم الرسمية ولم يصلنا رد.
أثناء تواجدنا في إحدى صيدليات جنديرس دخل أبو خالد مهجر من ريف حماة يسأل عن دواء “زوميتان”، دواء شقيقة لابنته، وشدّد أن يكون صناعة سورية وليس بديل عنه، يقول أبو خالد: لم نجرب الدواء البديل لكنني لا اثق ببدائل الأدوية وإلا كان الطبيب وصفها لي، بحثت عن الدواء في ثلاث صيدليات سابقة ولم أجده.
ويقول حيدر :” إن حكومة الإنقاذ تمنع دخول الأصناف الدوائية المماثلة لمنتجات معمل ريفا فارما إلى محافظة إدلب، وتأخذ نسبة 5% على الدواء المسموح بإدخاله إلى إدلب، وأسعار أدوية معمل ريفا فارما أرخص نسبيا من أسعار الأدوية القادمة من مناطق النظام”.
بدائل الأدوية السورية القادمة من مناطق النظام، تتمثل بإنتاج المعامل المتواجدة في المناطق المحررة، ومنها قسم أجنبي ذو منشأ هندي غالباً وأصنافه محدودة، وقسم آخر صناعة تركية لم تدخل كمية كافية منه لتغطية النقص ويعود ذلك إلى ارتفاع سعره بمقدار الضعف أو أزيد، بحسب أبو أحمد العامل في صيدلية جنديرس. علماً أن أسعار الدواء في تركيا قد ارتفعت مطلع العام الحالي بنسبة 37.4% .
وأوضح أحمد عيسى مسؤول الصيادلة في مديرية صحة عفرين أن هنالك توجهاً إلى تغطية النقص في الدواء عبر الأدوية الأجنبية في حال استمرار الوضع على حاله، وعن فعاليته تلك الأدوية يقول العيسى: “لا يوجد مخبر لفحص الأدوية إلى الآن، إلا أنني لا أوافق على اعتبار الأدوية قليلة الفعالية لأن الأدوية التي لدى مديرية الصحة علم بدخولها مضمونة الفعالية والجودة”.
استغلال من قبل المستودعات
يتبع أصحاب المستودعات سياسة تحميل الصيدليات بعض أصناف الأدوية قليلة المبيع إلى طلباتهم، وهو ما يعتبره الصيادلة أحد أسباب ارتفاع أسعار الأدوية وتفاوتها من صيدلية لأخرى، يقول أبو أحمد : “مع ازدياد فقدان الأدوية زادت نسبة التحميل التي أدت إلى ارتفاع سعر الأدوية، إذ لا يوجد حلّ أمام الصيدلي إلا إضافة سعر الأدوية المحملة والتي يضطر لإتلافها إلى الأدوية المطلوبة”.
أرجع بعض أصحاب مستودعات الأدوية نقص الدواء في السوق إلى قيام جهات أمنية في مدينة الباب أواخر العام الفائت باحتجاز سيارة أدوية قادمة من معبر أبو الزندين واحتجاز سيارة أدوية ثانية مطلع العام الحالي ، وقال أحدهم رافضًا التصريح عن اسمه “: اعتادت مستودعات الأدوية على تخزين كميات كبيرة من الأدوية تحسباً لإغلاق طريق دخول الدواء، إلا أن حجز شحنات الأدوية أضر بمخزون أكثر من 20 مستودع أدوية، وقدرت قيمتها بمئات آلاف الدولارات”.
وأضاف صاحب أحد الشحن الدوائية المحتجزة أن الحجة التي اعتمدت عليها الجهات الأمنية كون هذه الأدوية “مهربة”، علماً أنها قادمة من مناطق النظام، و بموجب فواتير رسمية، وكانت سابقاً تدخل دون تدخل من أحد، فما الذي تغير؟
وتساءل أيضاً عن مصير هذه الأدوية، كذلك عن الحلّ الذي تقترحه الجهات الأمنية لإيجاد أدوية بديلة وتغطية احتياجات المرضى قبل أن تتخذ القرار الذي وصفه بـ “الجريمة”.
وأكد أصحاب مستودعات الأدوية أن تلك الحادثة تسببت بخسائر مادية كبيرة لهم ما منع بعضهم من إعادة محاولة إدخال الأدوية مرة أخرى.
وبقي مصير شحنات الدواء تلك مجهولاً رغم تظاهر أصحاب مستودعات الأدوية مطلع هذا العام للمطالبة بتلك الأدوية، وقال مدير صحة الباب فادي حاج علي” : إن سبب حجز الشحنة هو أمني وقد حولت إلى القضاء في أعزاز”، ولم نستطع في فوكس حلب معرفة ما حل بالشحنة.
“خلال شهر من الآن لن تجد علبة دواء سورية في المستودعات حال استمرار الوضع على حاله”، ذلك ما بدأ به الصيدلي فرهاد محمد صاحب صيدلية سيما في جنديرس حديثه معنا، ويرى المحمد أن هنالك أدوية يصعب الحصول على بدائل لها مثل الأدوية النفسية وأدوية الاختلاجات والأدوية العصبية، وقال المحمد: “تلك الأدوية عليها رقابة شديدة في تركيا ولا تخرج إلا عبر نظام معين، كونها مصنفة ضمن الأدوية المخدرة التي تتسبب بالإدمان”.
وذكر المحمد أن هنالك أدوية نفسية مثل أدوية الفصام سعرها في تركيا لا يتجاوز 20 ليرة تركية و حال تأمينها في الشمال السوري يتجاوز سعرها 400 ليرة تركية لصعوبة الحصول عليها إلا من خلال “الأدوية المقصوصة: أدوية يحصل عليها الصيادلة والمستودعات بطرق غير شرعية”.
لا تتناسب أسعار الأدوية التركية مع دخل المواطن السوري، خاصة الأدوية النوعية المزمنة، يقول العلي، صاحب مستودع أدوية، وهو ما سيتسبب برأيه إلى اعتماد المستودعات الصيدليات على الأدوية المهربة سواء من مناطق النظام أو من دول أخرى.
ويضرب مثالاً عن دواء التهاب الكبد c، إذ يباع المنتج منه في مناطق النظام بنحو 50 دولاراً، بينما يصل سعر المصري المهرب منه إلى 100 دولار، أما في تركيا فيصل سعره إلى 93 ألف ليرة تركي، أي ما يزيد عن 5300 دولاراً!
لا يقتصر الأمر على الأدوية النوعية، ولكنه واضح بشكل أكبر فيها، وبمقارنة أسعار أدوية متداولة مثل مسكنات الألم وأدوية المضادات الحيوية والسعال السورية والتركية، وجدنا أن نسبة الزيادة تتراوح بين 25 إلى 300%، وإن أخذنا في الاعتبار غلاء الأدوية، حتى السورية منها، مقارنة بدخل المواطن الذي لا يزيد عن ثلاثة دولارات يومياً، نجد أن عدم السماح بدخول الأدوية يشكل العبء الأكبر ويزيد من حجم المعاناة لمرضى الشمال السوري.
تقول السيدة أم محمد، وهي مريضة سكري تعيش في عفرين، إنها تحتاج لسبعة أصناف شهرياَ من الأدوية، بينها خافض للسكر وفيتامين ومنظم سكر، إضافة لدواء التحلية ومميع للدم وخافض للضغط، كانت منذ أشهر، تحصل عليها سورية المنشأ، وتدفع مقابل ذلك مبلغ 380 ليرة تركية، أما اليوم فتخبرنا إنها حصلت على بدائل لأربعة أصناف من دوائها واستطاعت تأمين ثلاث علب من التراكيب القديمة لكنها دفعت نحو 800 ليرة تركية، إضافة لأجور الطرق خلال عملية البحث عن الدواء.
تنقص زمرة دوائية مع كل يوم تغلق فيه المعابر أبوابها أمام الأدوية ما يفاقم مشكلة المرضى الصحية والمادية، تاركين المرضى في رحلة بحث بين الصيدليات ومستودعات الأدوية وأوامر الطبيب وسلطات الأمر الواقع