“قد لا نتفق اليوم على أن ما يجري من تغيير في ساحات إدلب، يعدّ قطباً تجميلية، لأنّ أجمل ما في هذه الساحات أنها حملت أقدامنا حين ثرنا مجتمعين، وشهدت على حواراتنا ونقاشاتنا إلى يومنا هذا”، يقول محمد الأمير أحد أبناء مدينة إدلب، الذي بقي يسكن المدينة إلى الآن.
تزامناً مع ذكرى انطلاقة الثورة الحادية عشرة، نصبت سقالات حديدية، واجتمع رسامون أمام جدار إسمنتي عالٍ، كان قد بني سابقاً في دوار المحراب شرقي إدلب. بعد ساعات تحول هذا الجدار إلى لوحة حملت الرقم 11 في إشارة لعمر الثورة السوريّة، مع عبارة ثورة حتى النصر ورسومات للزيتون وشقائق النعمان إضافة إلى علم الثورة.
لا يظهر الجدار في الصور القديمة لساحة المحراب قبل 2011، لأنّه وجد نتيجة تغييرات طرأت على الساحة لم يخف أهالي المدينة انزعاجهم منها، بدأت بإزالة تمثال إبراهيم هنانو الذي كان من أعمال النحات السوري غياث عياشي، في عهد المحافظ عاطف نداف الذي تسلّم منصب المحافظ بين عام 2005 و2009، ومن ثمّ خَلَفه المحافظ خالد الأحمد الذي أزال الأعمدة الحجرية وتيجانها في 2010 وبنى الجدار.
يقول سامر (اسم مستعار) عضو اتحاد الفنانين التشكيليين (فرع إدلب) سابقاً “بقي الجدار داخل الساحة وحيداً لا معنى له، فلا هو يسر الناظرين، ولا يمنحهم رؤية جيدة للشوارع المحيطة بالساحة، لعل النظام أراد منه أن يكون لوحة فسيفسائية لحافظ الأسد أو لابنه كتلك الموجودة في مدخل دمشق” ويشير إلى أن سكان المدينة لم يكونوا يتصورون أن الجدار سيغدو لوحة أو نصباً تذكارياً، ومدعاة للمفاخرة خلال سنوات الثورة، بصراحة كنت أتابع ما يفعله عزيز الأسمر (رسّام بنش) ورفاقه، وأنتظر النهاية كطفل ينتظر تكبيرات العيد ليخرج بثيابه الجديدة. أتمنى أن تنتقل هذه العدوى لكل ساحات إدلب، أن تشبهنا أو تشبه تاريخنا وثورتنا”.
فعلت الحرب فعلتها في أغلب ساحات إدلب التي يبلغ عددها أربعاً و17 دوّاراً، جميعها استقبلت القذائف مثل بيوت المدينة، التي تضرّرت وشوهت معالمها وغابت الإنارة والعشب الأخضر والمياه عن الكبيرة منها، لصالح القمامة والركام والخردة.
أثمر اتفاق خفض التصعيد ( أستانة) في أيار 2017 عن هدوء نسبي، مهّد الأجواء لإطلاق مشروع ربيع إدلب بالتعاون بين المجلس البلدي وعدد من المنظمات الإغاثية والتنموية، الهادف لتأهيل بنى تحتية في المدينة، مثل الساحات العامة والشوارع والأرصفة والطرقات والحدائق والمدارس والمستشفيات.
تولّت منظمة بنفسج بالتعاون مع مجلس المدينة تأهيل وتحسين ساحة الساعة في إدلب، وإصلاح برج الساعة ودوار معرة مصرين، الأمر ذاته فعلته منظمة ركين في ساحة المحراب، ومنظمة الدفاع المدني في ساحة المحافظة، إضافة إلى تحسينات طفيفة في دوار مفتاح إدلب، انتهى العمل فيها خلال آذار من العام الماضي، حيث دشّنها مجلس المدينة، هي ودوّار السبع بحرات ودوار شعيب.
هذه التحسينات التي طرأت على دوارات إدلب خلت من أي نصب تذكارية أو مجسمات ترمز لشيء محدّد، باستثناء محاولات مؤقتة، قام بها الدفاع المدني من خلال إضافة مجسم لهاشتاغ #TRUTH، وأسماء ضحايا مجزرة الكيماوي في ساحة السبع بحرات، لكنّها أزيلت بانتهاء فعالية إحياء هذه الذكرى.
محمد الأمير أحد أبناء المدينة وصف هذه التحسينات بـ “قطب تجميلة” أعطت المدينة جرعة جمالية، وحسّنت حركة المرور، خاصة بعد إزالة البراكيّات التي كانت تتموضع في الساحات والدوّارات”، يضيف الأمير “قد لا نتفق اليوم على أن ما جرى وما زال يجري من تغيير في ساحات إدلب، قطب تجميلية أم قد يكون العكس، إلا أن أجمل ما في هذه الساحات أنها حملت أقدامنا حين ثرنا مجتمعين، وشهدت حواراتنا ونقاشاتنا حتى يومنا هذا”.
نوع آخر من التغييرات شهدته ساحات المدينة، بدأ بعد منتصف العام الفائت، إذ توجّهت شركات خاصة ومستثمرون وعائلات على تأهيل دوارات بالتعاون والتنسيق مع مجلس المدينة، وذلك بعد أن ينشر الأخير إعلاناً عن مسابقة تقديم دراسة فنية لتأهيل دوار معين، أو أن يتقدم شخص أو شركة بطلب تأهيل، وهذه الفرصة جاءت بعد أن لمس المجلس رغبة ملحة لدى الأهالي بتجميل الساحات، ما دفعه لقبول أغلب طلبات التأهيل، خاصة أنها تدخل في نطاق العمل الشعبي، بالتزامن مع عزوف المنظمات عن متابعة تأهيل تلك الساحات، بحسب المسؤول الإعلامي في مجلس مدينة إدلب فراس علوش.
أغلب الساحات تغير شكلها كليّاً، أخرى تغيرت أسماؤها، كما وضعت مجسّمات تماهت مع طلبات المموّلين، فعلى سبيل المثال قامت شركة “زمرّدة للمجوهرات” بتغيير اسم دوار معرة مصرين شمالي إدلب إلى “زمرّد” ليتوافق مع اسمها، وأضافت مجسّماً لزمرّدة داخل الدوّار، أما دوار البريد فأصبح اسمه اليمامة تبعاً لشركة اليمامة للدواجن، التي وضعت مجّسماً لجناحي يمامة داخله.
وعن طريقة تصميم شكل الدوار وتنفيذه الآن، يخبرنا مهند اليماني مدير التسويق في شركة “وايت روم”، وهي شركة تطوير هندسية نفّذت مشاريع تأهيل لخمسة دوارات، هي معرة مصرين، الكرة الأرضية، البريد، الفلاحين، الجرّة، “بعد موافقة المجلس على اسم المستثمر، نعد إضبارة فنية تشمل الشكل النهائي، والتكلفة والتصميم الهندسي وهو عبارة عن نموذج ثلاثي الأبعاد إضافة إلى مخططات ثنائية البعد، ثم تعرض على الممول، ولاحقاً على مجلس المدينة، ليتم اعتمادها بعد تعديلها حسب ملاحظات ومتطلبات المجلس إن وجدت، وبعد ذلك ننتقل إلى مرحلة التنفيذ بإشراف المجلس حتى نهاية المشروع، ويحق للمموّل أن يغير اسم الدوار بعد موافقة المجلس على طلب تقدمه شركتنا أو أي شركة منفّذة”.
لاقت هذه التغييرات إعجاباً واستحساناً ممن رحبوا بتجميل المدينة وعكس صورة حضارية على الأقل ليراها الآخرون، وفي الوقت ذاته قابلتها انتقادات لاذعة وسخط من آخرين تفرّعت غالباً في اتجاهين، الأول أن هذه الأموال أولى أن توجّه نحو النازحين الذين أنهكهم برد الشتاء وحرّ الصيف في خيامهم، والثاني أن رموز الفضاءات العامة اليوم في إدلب لا معنى لها، ولا تعكس صورة مدينة أسهمت بصنع ثورة وقدمت تضحيات، فضلاً عن أهميتها الأثرية والتاريخية التي لم يلق لها النظام بالاً ونسيها حتى أصبحت منسية.
التقطت عدسة المصور الصحفي حسان الأحمد المقيم في مدينة إدلب عدة صور لدوّارات جديدة، ويقول متسائلاً، ما المانع إن كان ذلك على نفقة جهات خاصة؟ ثم إنه من غير المنطقي أن تطلب من الممول الالتفات للنازحين وخيامهم، هذه مسؤولية الحكومة، حتى المنظمات يقع على عاتقها تأهيل بنىُ تحتية”.
يوافقه الرأي عبد السلام حمو، الموظف في مركز آثار إدلب، فيقول “إن أناساً كثر باتوا يلاحظون الفرق، فهنا ساحات نظيفة وأعمدة إنارة ليلية، ومجسمات فنية” ويستشهد بدوار إيبلا عند مدخل إدلب الغربي، أو الفلاحين سابقاً، الذي أهلته إدارة مستشفى إيبلا ووضعت مجسماً حجرياً ضخماً ورقماً مسمارية تحاكي القيمة الأثرية للمدينة.
يشير الحمو إلى أن الناس اعتادت سابقاً على تسمية الدوارات والساحات بأسماء المباني أو المرافق التي تجاورها، مثل دوار الفلاحين تبعاً لرابطة الفلاحين التي كانت تجاوره، ودوار البريد تبعا لمبنى البريد، ودوار السياسية تبعاً لفرع الأمن السياسي، كما أن غالبية أبناء المدينة يجهلون الأسماء الحقيقية لساحاتهم على المخطط التنظيمي.
تظهر خلفية صورة لدوار إيبلا عدة خيم يقيم فيها نازحون، فيرى علي الجعفر من أبناء المدينة، أن ذلك يدفع إلى سؤال”أيهما أولى اليوم، تجميل دوّار أم تبديل خيمة نازح بمنزل وإصلاح الطرقات السيئة التي تتسبب بحوادث كثيرة في المدينة”، ويقول “نحن في حالة حرب، فلنعد ترتيب سلم أولويّاتنا، وعند الاستقرار فلنصنع ما نشاء”.
هناك فئة لا تعترض على حركة تجديد الدوّارات والساحات، بل على طريقة التصميم، يقول الباحث السوري فايز قوصرة عبر منشور في فيسبوك “إن عمليات التحسين تحصل بدون فهم الخلفية التاريخية لكل دوار، ويتم ذلك بشكل تجميلي فقط والدافع حب الظهور من قبل الداعم، مع أن كل المجتمعات تضع الرمز المكاني تاريخيّاً ليظل الجمهور على صلة بتاريخه” ويتحدّث قوصرة عن دوار الكرة مثالاً كيف صُمم في إدلب قبل الثورة دون معنى تاريخي، تقليداً لدوار الكرة في حلب، علماً أنه أعيد تأهيله مطلع 2022 بشكل حلزوني حول مجسم الكرة الأرضية ولاقى انتقادات كثيرة.
وقبل أيام أبدى قوصرة عدم رضاه من تأهيل دوار الشهداء غربي إدلب من قبل منظمة الدفاع المدني السوري، التي وضعت مجسّماً لخوذة بيضاء، ووسم الدفاع المدني السوري واسم الخوذ البيضاء باللغة العربية والإنكليزيّة، واقترح أن يسمى الدوار بـ”ساحة المجاهدين أو دوار المجاهدين” تمجيداً لتضحيات المناضل السوري نجيب عويد ورفاقه، في مكان الدوار اليوم، حيث قاوموا المستعمر الفرنسي إبان احتلال إدلب عام 1920.
توالت التعليقات بين مؤيّد لوجهة نظر قوصرة التاريخية، وبين مختلف معها، ومن كانت له وجهة نظر أخرى يقول فيها “إن الدفاع المدني يستحق، فقد قدم متطوعوه تضحيات كثيرة وما زالوا والجميع يشهد، ويحق لهم أن يخلّدوا ذكراهم بأيديهم، إذ سيأتي يوم يتذكر فيه الناس ما فعلوه في سبيل إنقاذهم ومساعدتهم”.
بدوره يعلّق سامر أيضاً على كلام قوصرة، بقوله: إن تصميم الساحات ووضع النصب التذكارية أو المجسّمات هو مشكلة قديمة تتجدّد”، ويشير إلى أن الأمر ترافقه خلافات دائمة مع مجلس المحافظة حتى قبل الثورة، لعدم تعاون والتزام الأخير مع اتحاد الفنانين التشكيلين حين تخطيط وتصميم أي مرفق عام، علماً أن قانون تشكيل اتحاد الفنانين التشكيليين رقم 55 لعام 2004 يلزمهم التعاون مع قسم الديكور، إضافة لوجوب تسجيل تراخيص الديكور للأعمال النصبية والتذكارية وتصديقها من الاتحاد أو أصوله في المحافظات.
ويؤكّد في حديثه لفوكس حلب، أن النظام كان يسمح سابقاً للقطاع الخاص والعائلات ببناء الدوارات، واختيار رموز وتصاميم وأسماء تضعها العائلات ويوافق عليها مجلس المدينة، ويشير إلى أنه “حتى حينها كان التساؤل الشعبي ما معنى هذه المجسّمات وإلى ماذا ترمز”، ويضيف “تعود تسمية دوار البطل أو الشمعات بالقرب من جامع أبي ذر لعائلة البطل، ودوّار بركات أو الجرّة للمهندس نجيب بركات، ودوار المطلق عند مدخل إدلب الجنوبي لعائلة المطلق، وهي ذات العائلات التي أعادت تأهيل هذه الساحات خلال السنة الماضية وهذه السنة.
ويرى الفنان التشكيلي، أن “الساحات العامة من العناصر الأساسية المكونة لتراث المدينة وذاكرتها، فهي مكان الالتقاء والتفاعل الأهم بالنسبة للقاطنين فيها، وعزّزت ذلك الثورة السورية، وثورات الربيع العربي، وكثيراً ما تجد ساحات تحكي قصة نشأة المدينة وتطوّرها، حسب ما تتضمنه من نصب رمزية وتذكارية تنقل هوية المجتمع وتاريخه، وبالتالي كلما كان تصميم الساحة مدروساً بشكل صحيح، كلما كانت المدينة أجمل وأكثر حيوية”.