فوجئ أحمد، اللاجئ السوري في لبنان، حين أخبره موظف مكتب الحوالات بأنه لا يستطيع استلام المبلغ الذي أرسله أخوه من الدانمارك، لأنه لا يملك سوى بطاقة كرتونية خضراء، منحه إياها الأمن العام اللبناني بعد أن حجز على أوراقه منذ سنتين ونصف السنة بسبب انتهاء إقامته، ومنذ ذلك الوقت حاول أحمد بالتنسيق مع مفوضيّة اللاجئين استرجاع أوراقه، لكن دون جدوى.
سجن الأوراق
يقول أحمد وسوريّون تحدّثنا إليهم عن حالات حرمانهم من مستنداتهم “مثل السجن، حين تدخل يأخذون أوراقك، وحين تخرج يعطونها لك”، ويضيفون أن وضعهم يزداد وضعهم هشاشة بسحبها، يحرمون التنقل، وتنقص فرصهم في الحصول على عمل أو مقعد في مدرسة أو جامعة، أو تسجيل واقعة أحوال مدنية (زواج، طلاق)، ويصبحون عاجزين عن استلام أو إرسال الحوالات المالية أو شراء شريحة خط خليوي، ويمتنعون عن الحديث إلى الصحافة كيلا يفقدوها دائماً، ومن تحدّث منهم يطلب بإلحاح عدم الزج باسمه في التقرير.
انتهت إقامة أحمد بعد أن رفض صاحب المطعم الذي كان يعمل فيه كفالته، لاحقاً، سرّح مع عدد من زملائه بسبب الأزمة المالية نهاية 2019، بعدها بأيام اتصل به موظف من الأمن العام يطلب منه تجديد إقامته، فأخبره أنه أصبح بلا كفيل وبلا عمل، ليطلب منه أن يحضر إلى مبنى الأمن العام في مدينة صور جنوبي لبنان، إذ صادروا هويته وجواز سفره وقسيمة الدخول السورية واللبنانية، ويضيف “طلبوا مني إحضار كفيل جديد لأستعيد أوراقي”.
حصل أحمد على بطاقتين باللون الأخضر من الأمن العام، الأولى كانت قد اهترأت وأصبحت أربع قطع نتيجة طيّها في محفظته، ما تسبب باعتقاله مدة يومين، إضافة إلى مضايقات على الحواجز لمرّات عديدة، لذلك توجه للأمن العام بطلب إعادة أوراقه، إلا أنهم أعطوه بطاقة ثانية بعد توبيخه ومطالبته بالمحافظة عليها، يخبرنا وهو يخرجها من محفظته أنه “جلّدها” وباللاصق الحراري كيلا تهترئ.
في آذار 2021 أعلن الأمن العام عن تسوية لأوضاع الرعايا السوريين في لبنان، مدتها ستة أشهر، فاستغل أحمد إلغاء شرط مغادرة لبنان في معاملة نقل الكفيل، وتوجه بصحبة كفيله الجديد ليجدد إقامته ويستعيد أوراقه. بعد شهرين أعادوا له الأموال التي دفعها وهي (300 ألف ليرة لبنانية رسوم تجديد) بذريعة دراسة الملف، استمر ذلك حتى انتهت التسوية، وبات عاجزاً عن تجديد أوراقه.
في المحكمة السنيّة في مدينة صور جنوبي لبنان رفض القاضي تثبيت زواج أحمد مطلع 2022، لعدم امتلاكه بطاقة شخصية، يشير إلى أنه سيرزق بطفل ويخاف ألا يستطيع تسجيله، إلا أن مفوضية اللاجئين قدمت له تطمينات في عدة مكالمات هاتفية، أنها ستساعده في تثبيت زواجه وتسجيل ابنه فيما بعد.
تخوّف اجتماعي من فاقدي الثبوتيات
ما حدث مع أحمد يشبه قصة سمير (اسم مستعار) مع اختلاف في النتائج، يقول: إنه طلب حضورياً منذ سنتين لأحد الأفرع الأمنية في بيروت، وبعد تحقيق دام ست ساعات تبيّن أن السبب هو تشابه أسماء، يضيف سمير “كانت إقامتي صالحة لكنها على وشك الانتهاء، حولوني إلى مبنى الأمن العام في بيروت، هناك، صودرت أوراقي كضمانة لتجديد إقامتي، التي بدأت بإجراءاتها على الفور، إلا أنني لم أستلمها حتى الآن”.
فشل مشروع زواج سمير بفتاة فلسطينية التقى بها منذ سنوات، إذ إن الرواية التي قدمها لم تفلح في إقناع والد خطيبته، وبدأت حملة التهامس والشكوك حوله من قبل معارفه وأقارب خطيبته التي أجبرت على تركه، ونقلت إليه وجهة نظر أهلها، جميع التساؤلات كانت “ماذا فعل حتى حجزوا على أوراقه، لماذا لم يعطوه إياها، لن نرميَ بابنتنا إلى المجهول”، لكنّ سمير بقي رافضاً وصمه بالمخطئ أو المشبوه بخروجه عن القانون، يستدرك بصوت عال “لو كنت كذلك لاحتجزوني أنا لا أوراقي، أتمنى أن تنتهي رحلة البحث عنها في أقرب وقت”.
غادر لتستلم أوراقك
وثّق مركز وصول لحقوق الإنسان 41 حالة احتجاز أوراق شخصية، 15 حالة في عام 2019، و26 حالة منذ مطلع 2020 حتى تشرين الأول من العام نفسه، وسجّل في تقرير سنوي خاص بأبرز انتهاكات حقوق الإنسان بحق اللاجئين السوريين وجود 11 حالة في عام 2021.
لا توجد إحصائية دقيقة لعدد حالات حجز الأوراق على مدى أعوام النزوح التي بدأت في 2011، لعلّ ما يفسر ذلك إعادتها بعد فترات مختلفة إلى أصحابها، وعودة قسم منهم إلى سوريا أو سفرهم خارج لبنان، بالإضافة لحالة الكتمان التي يصر عليها من حجزت أوراقهم، خوفاً من التعرض لهم وأملاً في استعادتها. تحدّثنا إلى ثمانية لاجئين واجهوا مشكلات في الوثائق، واحد منهم يعرف مركز وصول، لكنّه لم يرغب بتوثيق حالته، وأخبرنا أربعة آخرون أنهم أعلموا المفوضية، في حين تكتم ثلاثة ممن التقيناهم على قصصهم.
يقول محمد حسن المدير التنفيذي لمركز وصول، إن المركز يعمل كوحدة توثيق لا كمرصد، ويضيف “نحن نوثق الحالات التي تصلنا عبر إيميل الموقع أو عبر استمارة التوثيق الموجودة على الموقع الإلكتروني للمركز أو وسائل الاتصال الأخرى، والأرقام التي نعلنها لا تشمل كل حالات الانتهاك، إذ توجد حالات حجز لم يقبل أصحابها توثيقها لاعتبارات تخصّهم”.
وذكر تقرير المركز في منهجية التوثيق، أن عملية الرصد والتوثيق تواجه تحديات عديدة في السياق اللبناني، ونبّه إلى أن جميع جهود التوثيق تعكس القيم الإحصائية لما استطاعوا الوصول إليه، وهي تظل قاصرة عن تقييم جميع الانتهاكات الواقعة.
ليست حالات انتهاء الإقامة -وإن كانت النسبة الأكبر -ما تستدعي احتجاز الأوراق، هناك حالات أخرى تبدو أسبابها غير منطقية، وفقاً لمفيد ( اسم مستعار) اللاجئ السوري في مدينة صيدا، يقول مفيد إنّه أضاع الكرت الذي منحه إياه الجانب السوري عام 2019، فتوجه لإخبار الأمن العام بما جرى معه كي يبقى في وضع قانوني، يقول “الأمر مضحك، تم تنظيم ضبط بفقدان (القسيمة السورية)، ولاحقاً استدعوني وطلبوا مني وثائقي بذريعة التأكد من أني قد دخلت لبنان بطريقة شرعية، علماً أنني أملك بطاقة دخول لبنانية وإقامتي صالحة، وما يثبت ذلك مكتوب في محضر الضبط”.
تكررت زيارة مفيد لمبنى الأمن العام في المدينة التي يسكنها أملاً بإعطائه أوراقه. وفي آخر زيارة طلبوا منه إجراء معاملة استرداد أوراقه الثبوتية، حيث يتقدم اللاجئ بكامل إرادته بطلب استرداد أوراقه بداعي التسجيل في العودة الطوعية إلى سوريا، أو السفر لأي دولة أخرى، عندها يكتب على إقامته الورقية أو البيومتريّة كلمة “للسفر” خلال مدة تتراوح بين أسبوع وشهرين، يتوجب خلالها أن يخرج من لبنان.
لحسن حظّ مفيد أن أحد أصدقائه نبّهه بأن معاملة الاسترداد هذه تضع اللاجئ بين استلام أوراقه ومغادرة لبنان أو البقاء فيه لحين أن تقرر السلطات إعادتها له، يشير إلى أنه قرر شراء خط خليوي ليكلم خطيبته السابقة، يبتسم وهو يقول “لم تفلح مخططاتنا، هذه الكرتونة لا تخولك شراء خط “.
آخرون شعروا بسعادة غامرة حين استعادوا أوراقهم، إلا أنهم لم يكونوا على دراية بما ينتظرهم، كما حدث مع نعيم العلي (اسم مستعار) نهاية 2021، يخبرنا أنّ موظفي الأمن العام استغلوا ضعفه في القراءة ليوقع على تعهد بمغادرة لبنان مقابل استرداد أوراقه، أعقب ذلك مقابلات هاتفية وشخصية أجراها نعيم في المفوضيّة، ومتابعة قانونية لقصته مع أحد المحامين المتعاملين مع المفوضيّة، كيلا يتعرض لخطر الترحيل أو يضغط عليه بذلك.
يقول نعيم “خسرت فرصتي في العمل في ثلاث شركات أعجب مسؤولوها بخبرتي في مجال الديكور والجبس، فبمجرد أن يقرأ موظف الموارد البشرية كلمة “للسفر” يمتنع عن توظيفي، لعدم ضمان استمراري مستقبلاً في الشركة، واحتمال تركي العمل في أي لحظة”، بينما يبذل هو جهداً بإقناع الموظف ويدعم حديثه بتطمينات المفوضيّة دون جدوى، يقول بحسرة “مللت البحث عن عمل، وبتّ أعمل في الورش الصغيرة عندما يطلبونني فقط وبأجور أدنى مما تمنحه الشركات”.
وبحسب نعيم فإن موظفاً في المفوضية أخبره في مكالمة هاتفيّة، أن “قضية استعادة أوراقه شأن يخص السلطات اللبنانية، وليس لدى المفوضية حق التدخّل في شؤونها، لذا عليه أن يتأقلم مع الواقع الجديد، وأن يحد من تحرّكاته تجنّباً للحواجز ومضايقاتها مع تأكيدهم على عدم ترحيله تحت أي ظرف”.
من يطلب استرداد أوراقه هم الخارجون من لبنان، ومع ذلك، تجد منهم من يتعثر في الحصول عليها، ما يجبره على تأجيل سفره أو الحرمان منه، وتنشر بين الحين والآخر منشورات على صفحة مجموعة “أنا سوري في لبنان” في فيسبوك وهي صفحة مختصة بشؤون اللاجئين السوريين، لأشخاص يطلبون الاستشارة والمساعدة لأنهم قرروا السفر لكنهم لم يحصلوا بعد على أوراقهم.
تواصلت فوكس حلب عبر الإيميل مع المفوضية التي أبدى موظف التواصل استعداده للتعاون، وتقديم المعلومات، فطرحنا أسئلة تتعلق بكل حالة حجز قد ذكرناها في التقرير، ومدى اهتمام المفوضية وسعيها بإعادة الأوراق، وتقديم الحماية القانونية والدعم والتوعية للاجئين، ومتابعة تسجيل واقعات الأحوال المدنية، وما زلنا في انتظار الرد على أسئلتنا منذ نهاية نيسان الماضي.
نحو مليون ونصف المليون لاجئ سوري يعيشون في لبنان بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يعاني هؤلاء اللاجئين ظروفاً إنسانية صعبة في ظل غلاء الأسعار وانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وندرة فرص العمل وعجز الأمم المتحدة عن تقديم المساعدات، حيث دفعت الأزمة الاقتصادية اللبنانية وجائحة كورونا 90 بالمئة من اللاجئين السوريين المقيمين في البلاد إلى حالة من الفقر المدقع.