بعد سنوات من التضييق على نشاطه الديني، كأحد أعيان الطرق الصوفية بريف إدلب، تلقى سليمان (اسم مستعار)، بلاغاً من أحد العاملين بالمحاكم الشرعية في هيئة تحرير الشام، يمنعه من ممارسة أي نشاط خارج منزله، حتى حلقات التلاوة أو الذكر.
لم يكن ذلك القرار هو الأول من نوعه، فقد سبقته كثير من التقييدات على نشاط سليمان، من موالد وحضرات ودروس فقهية، لعب فيها دور الموجه لمريديه، حتى اقتصر نشاطه على حلقات الذكر وبعض دروس تلاوة القرآن بين صلاة الفجر وشروق الشمس. يقول سليمان: “ممارساتنا الدينية تندرج تحت غطاء الشرع وليس فيها أي خطأ”.
سليمان واحد من عشرات المشايخ الصوفيين، الذين تجمد نشاطهم الديني مع سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب، بسبب الخلاف العقائدي والفكري بين التيارين الصوفي والسلفي، بجانب الاختلافات السياسية بينهما، ما دفع بعض مريدي الطرق الصوفية لممارسة نشاطهم في الخفاء، أو الرضوخ لبعض القيود عليه، أو اللجوء إلى مناطق يستطيعون فيها ممارسة طقوسهم بحرية.
بعد البلاغ الأخير، بدأ سليمان بالتواصل مع مريديه عبر مجموعة سرية على تطبيق واتساب، يراسلهم عبرها بتوجيهاته، ويتداولون مقاطع صوتية، وبين فترة وأخرى يقيمون اجتماعاً في منزل أحدهم، أو يحضّرون مناسبة تتيح لهم اللقاء المباشر.
يقول سليمان: “سبب تواصلنا بسرية، وعقد اجتماعتنا في الخفاء هو أن أحاديثنا تتضمن مناقشة بعض القضايا الفقهية والعقائدية، التي تشكل لبّ الخلاف بيننا وبين التيارات السلفية المسيطرة على المنطقة، ويتجلى فيها اختلافنا فيما يخص تناول النصوص الدينية وشرحها”.
يعتبر سليمان شيخاً فرعياً يتبع أحد مشايخ الطريقة في دمشق، وقبل الثورة السورية اعتاد زيارة شيخه الروحي مرتين شهرياً، رفقة العديد من أعيان الصوفية، لتلقي توجيهات الشيخ، وحضور محاضراته، وزيارة قبور الصالحين والمقامات، إلا أن تلك الزيارات توقفت مع انطلاق الثورة.
خلافات عقائدية وسياسية ترسم مصاير الصوفيين
في سوريا عشرات الطرق الصوفية، من أبرزها الطريقة النقشبندية، ومن أبرز شيوخها أحمد كفتارو ومحمد أديب حسون، والطريقة الشاذلية لشيخها عبد الرحمن الشاغوري، وتنتشر هاتان الطريقتان في مدينتي دمشق وحلب. أما الطريقة الرفاعية، فتتركز في محافظتي حمص وحلب، ومن أبرز شيوخها سعد الدين الجباوي ومحمد وائل الراوي، والطريقة القادرية، من أشهر شيوخها عبيد الله القادري، وتنتشر في عامودا، وتنتشر الطريقة السعدية في مدينة حمص والطريقة الخزنوية والذي أسسها الشيخ أحمد الخزنوي في مدينة القاشلي.
الخلافات بين التيار الصوفي والتيارات الإسلامية الأخرى، تبدأ من المسائل العقائدية والفقهية التي تتناول شرح آيات القرآن والأحاديث النبوية، بالإضافة إلى مسألة الكرامات وتقديس المريد لشيخه، بحسب أبو عبد الله، أحد القضاة الشرعيين في هيئة تحرير الشام، ما جعل أتباع الصوفية يعقدون اجتماعاتهم ويتبادلون آراءهم بسريّة لتفادي الخطر الذي قد يصل إلى القتل.
إلى جانب الخلاف العقائدي، هناك أيضاً خلاف سياسي بين التيار السلفي وبعض التيارات الصوفية، تجلّى بوقوف عدد من الفرق الصوفية ضد الثورة السورية، واتخاذ بعض الشخصيات الفاعلة موقفاً مؤيّداً للنظام، ودعمهم له منذ حربه ضد جماعة الإخوان المسلمين بداية ثمانينيات القرن الماضي، واستغلال مشايخ الصوفية “الفراغ الديني” الناجم عن هجرة واعتقال العلماء والشيوخ المحسوبين على الجماعة، للانتشار أكثر.
يعد الشيخ أحمد كفتارو من أبرز العلماء الصوفيين المؤيدين للنظام السوري، إبان شغله لمنصب مفتي الجمهوريّة السوريّة السابق في عهد الأسد الأب، وساهم في بناء “مجمع أبو النور” في دمشق، الذي استقبل آلاف التلاميذ في التعليم الأساسي والجامعي، وعدداً كبيراً من العلماء والدعاة والفقهاء التابعين له، منهم الأمين العام لمجمّع الشيخ أحمد كفتاور، رجب ديب، الذي أبدى تأييده لنظام الأسد في حربه على مناصري الثورة السورية، ومعه أتباعه الذين التزموا بخطّ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة.
لم يقتصر موقف هؤلاء المشايخ على تأييد النظام فحسب، فبعد عامين من انطلاقة الثورة السورية، أصدر أحمد حسون، مفتي الجمهوريّة، فتوى رسميّة بوجوب الجهاد دفاعاً عن النظام السوري.
تكرر الموقف مع الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي عرف بتأييده الصريح للنظام، ووقوفه مع قوات الجيش في حربها ضد المدنيين، ودفع موقفه كثيراً من أتباع الطرق الصوفية إلى الانسلاخ عن مشايخهم خلال السنوات العشر الماضية، لمواقفهم من الثورة السورية التي يعتبرونها فوضى، ومناصرتهم للنظام بدعوة مريديهم لالتزام بيوتهم، وعدم الخروج على الحاكم.
على النقيض من مشايخ الصوفية المؤيدين للنظام، وقف شيوخ وعلماء دين بارزين ضده، مثل المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد وشيخ قراء الشام كريم الراجحي ومحمد راتب النابلسي، وأسامة الرفاعي والشيخ الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني من حلب وأنس بن عبد الرحمن عيروط من بانياس.
منشدون ومؤذنون تحت الرقابة
طه ياسين، هو أحد أعمدة الإنشاد والحفلات الدينية، التي كانت تقام سابقاً في الأماكن العامة ومنازل المريدين وداخل المساجد، وأخيراً صارت تعقد على شكل فعاليات تسمى “المولد” أو “الحضرة”، وهي حلقات ذكر جماعي تقام ليلتي الإثنين والخميس في الزوايا أو المساجد، يرافقها إنشاد ديني، ويدير الفعالية شيخ الحضرة الذي يسارع المريدون بتقبيل يديه والتبرك به، وغالباً ما يتخلل المولد حالات إغماء لبعض المريدين، فيبدأ شيخهم بضربهم صائحاً: “اخرج من المؤمن يا كافر”.
يقول طه ياسين: “الموالد والحضرات، وما يرافقها من تمايل وانسجام مع أناشيد مدح الرسول وصحابته، تعد تنفيساً للمشاعر الدينية، كما تعزز العلاقة بين المريد وشيخه”.
فُرضت على طه عدة شروط مقابل الاستمرار بعمله، منها التخلي عن الطقوس السابقة، من رقص وتمايل، وعلاقة المريدين بشيخ الحضرة، بوصفها بدعة، وكذلك الآلات الموسيقية، مع الموافقة على نوع واحد من الدبكة العربية.
اختار طه مكاناً طرفياً لإقامة الموالد بعيداً عن الأنظار، لوقت محدود وبإنشاد خافت، يخلو من أي نسق موسيقي، لأن أي تجاوز أو شكوى إزعاج من الأهالي قد يلغي الحفل. يقول: “كثير من الحفلات الإنشادية ألغيت بعد شكاوى الأهالي، ما دفعنا لاستئجار مزرعة بعيدة عن الأنظار لإقامة فعالياتنا”.
أما رافع حميدي، الذي عمل مؤذناً لخمسة عشر عاماً في أحد مساجد معرة النعمان بريف إدلب، فقد صدر قرار بتوقيفه عن الأذان عام ٢٠١٧ من قبل هيئة تحرير الشام المسيطرة على المنطقة، لينضم إلى مئات المؤذنين والخطباء الذين أقالتهم الهيئة، أو قيدت أنشطتهم، لاعتبارات تتعلق بانتمائهم إلى التيار الصوفي.
ارتبط أذان الحميدي بطقوس ذات صبغة صوفية كانت شائعة في الشمال السوري، مثل “التشويق” قبل أذان الفجر، وهي أبيات مدح للرسول، تُنشد على الملأ، وكذلك “وداع رمضان”، وهي عادة جرى أتباعها سابقاً من مؤذني المساجد قبل خمسة أيام من انتهاء شهر رمضان، يودعون فيها الشهر بأبيات من الشعر، بالإضافة إلى عيد المولد النبوي، والذي تُحيى ليلته بحضور عدد كبير من المشايخ والمريدين، والاستمتاع بالطرب الديني والحضرات.
يقول الحميدي: “بعد توقيفي عن العمل كمؤذن، اضطررت للسفر إلى مدينة إعزاز، للعمل مؤذناً في أحد مساجدها وفق الطقوس التي اعتدنا عليها”.
أحكام شرعية وعقوبات تلاحق المتصوفين
تصنف الجماعات المتصوفة وما يتبعها من فرق كجماعات مسلمة، في المناطق التابعة لهيئة تحرير الشام، إلا أن بعض ممارساتها، مثل شد الرحال إلى القبور، وزيارة المقامات للتبرك بأهلها، أو الطواف حولها، أو الذبح عندها، وتقديس بعض المريدين لمشايخهم، ورفعهم إلى مراتب خاصة بالخالق، ودعائهم وطلب المدد والعون منهم، كلها تعتبر تصرفات شركية، وفقاً للقاضي الشرعي بهيئة تحرير الشام، أبو عبدالله.
يقول أبو عبد الله: “بناء على أحكام الشرع، يمنع ممارسة تلك الطقوس بشكل كامل، تحت طائلة العقاب، والذي يبدأ باستتابة من يمارسها، وحال إصراره عليها فإنه يُعامل معاملة المرتد ويُقتل، خصوصاً أعيان الطرق، لتأثيرهم على مريديهم وأتباعهم، وسيطرتهم على عقولهم بجمل وعبارات باطلة، مثل “المريد بين يدي شيخه مثل الميت بين يدي مغسله”، أو “أطفئ سراج عقلك واتبعني”.
ويرى أبو عبد الله أن السريّة التي تتبعها تلك الجماعات في نشر مفاهيمها بين أتباعها هي أكبر دليل على خطورة مسلكهم وخطئه، فلو كانوا على حق لما أخفوا اجتماعاتهم وأسمائهم ودروسهم.
بعد أكثر من عقد على المضايقات التي لاحقت سليمان، وآخرها قرار توقيفه عن ممارسة أي نشاط ديني خارج منزله، قرر الاعتكاف في بيته والتواصل مع مريديه عبر الواتساب بسرية تامة، خوفاً من بطش هيئة تحرير الشام، فيما فضل الحميدي السفر إلى مناطق ريف عفرين شمالي حلب، التي تشرف على إدارتها تركيا المعروفة بتأييدها للصوفية، مثل كثيرين فروا إلى تلك المناطق أو إلى مناطق النظام، لممارسة طقوسهم بحرية مطلقة.