أمام مرآة مكسورة معلّقة على سور مطعم السبيل العائلي في مدينة حلب يفرش أبو أحمد عدّة الحلاقة، مقص ومشط وفرشاة وموس حلاقة، ويضع كرسيه لاستقبال الزبائن “الطيارين” كما يطلق عليهم، بعد أن أصبح شراء أو استئجار محل في المنطقة أمراً مستحيلاً لغلاء الأسعار وكساد الحلاقة.
لا يحمل الحلاق أبو أحمد أي معدّات كهربائية تعينه في الحلاقة، مثل السشوار، ولا يملك معدّات تنقية البشرة أو إزالة الزيوان وحب الشباب، ويكتفي بمعدّات الحلاقة القديمة، يقول إنّ ذلك “أريح لرأسه”، فهو حلّاق تقليدي قديم، كما يصف نفسه، رأسماله المقص والمشط، ذلك من جهة، ومن جهة ثانية تلك المعدات تحتاج إلى الكهرباء الغائبة منذ سنوات والمحلات التي لا يمكن طرق باب أصحاب المكاتب العقارية لاستئجارها إلا بكيس كامل من النقود.
يحمل أبو أحمد عدّته على دراجته النارية، عصر كل يوم، إلى الرصيف حيث مكانه المؤقت، بعد أن ينهي وظيفته الرسمية في أحد المشافي، يتأكد من شحن “ماكينة حلاقة قديمة” في منزله، ويبدأ باستقبال زبائنه الذين اعتادوا حضوره وألف ما يطلبونه من “قص شعرهم”، بعيداً عن “الموضة وقصات الشعر الجديدة” التي وصفها بـ “قصة الحداثويين”، يضحك وهو يعيد اللفظ مراراً ليتأكد من إيصال كلماته التي قلبها في رأسه مراراً وأعادها على مسمع كل من يمرّ على كرسي الحلاقة في رصيفه.
في الجانب الآخر من حلب، الشرقية كما بات اسمها الجديد، وبين طريق الباب وحي الحلوانية أكثر من خمسين حلاقاً اليوم، معظم محلاتهم فارغة إلا من زبون عابر، بعد أن كانت تضيق مثل هذه الأيام محلات الحلاقة، قبيل عيد الفطر، وينتظر الشخص لساعات قبل أن يجد راحة عموده الفقري على الكرسي، تاركاً ألم الفقرات والدوالي للحلاقين الذين كانوا يتناوبون على الكراسي لساعات طويلة دون راحة.
أبو محمود، حلّاق في طريق الباب، قال إن الكساد يرافق مهنة الحلاقة طيلة أيام السنة، يتحسن الأمر أيام الخميس من كل أسبوع، وفي بداية كل شهر. حين مررنا بقربه اليوم، كان مشغولاً بقراءة القرآن، وحيداً في دكانه.
يقول أبو محمود إنه كساد عام، لكنه جهز نفسه لاستقبال موسم العيد عسى يعوض قسماً من خسارته، سنّ المقصات، نظف الأمشاط، اشترى لوازم جديدة من الكولونيا وشفرات الحلاقة والبودرة ومصففات الشعر ومعاجين الحلاقة والشبة، إضافة للملح ودواء البنادول!
الأخيرتان ليستا للزبائن، يقول، هي استعداداً لألم قدمي ومفاصلي بعد أن أتعبهما الجلوس الطويل، والأمل في موسم العيد وزبائنه.
يزيد سعر معجون الحلاقة، من النوع المتوسط عن أربعة آلاف ليرة، وعلبة شفرات الحلاقة ماركة “تمساح” عن ألف، ومثبت الشعر عن سبعة آلاف، وعلبة الكولونيا عن عشرة.
يتقاضى حلاقو المناطق الشرقية بين ثلاثة إلى خمسة آلاف ليرة عن كل حلّاقة، بينما يزيد ذلك المبلغ في الغربية عن عشرة آلاف، يضاف إليها مبلغ آخر عن كل إضافة، مثل غسيل الشعر، تجفيف البشرة، إزالة الدهون..
“الأجرة ليست عادلة”، يقول أبو محمود، هذا إن كان هناك زبائن وفرص عمل، لكن أغلب سكان المنطقة يعيشون تحت خط الفقر، وباتت الحلاقة آخر أولياتهم، في الشارع كل صاحب مهنة يلفت انتباهه ما يدخل في صلب مهنته، في حالتي أرى الذقون الفوضوية والشعر الأشعث، لم يعد هناك سوى قلة ممن يهتمون بمظهرهم الخارجي.
يتأفف، سعيد، أربعيني ترك لذقنه حرية اختيار شكلها، يقول إنه كان، في شبابه، يمرّ بالحلاق مرة أسبوعياً على الأقل، تلك الزيارات اليوم تحتاج لربع دخله الشهري، لذلك اقتصر على زيارة ربع سنوية، أحياناً نصف سنوية، بعد جدال ونقاش وقتال مع زوجته التي بات شغلها الشاغل إرساله إلى “الحلاق”.
يرى زبائن تحدثنا معهم إن الأجرة أيضاً ليست عادلة، الحلاقة مثل رغيف الخبز لا يمكن الاستغناء عنها، ولذلك يجب أن تكون الأسعار متهاودة، رأس مال القصة مشط ومقص وشفرة حلاقة، فلماذا كل هذا الغلاء!
يتحدث أبو أحمد عن تكلفة لا يقدرها الزبائن، يقول إن إيجار أقل محل في المناطق الشرقية، (يختار رؤوس الزبائن كعملة يجيد حسابها باعتبار الحد الأعلى الذي يتقاضاه خمسة آلاف ليرة)، إيجار أقل محل يتراوح بين ثلاثين إلى خمسين رأساً محلوقة، في مناطق مثل الشعر يحتاج إلى مئة رأس، ويحتاج إلى أمبيرات للكهرباء (أقل المحلات تحتاج إلى أمبيرين والكبرى إلى أربعة)، يتراوح سعرها بين (ثمانين إلى مئة وستين رأساً محلوقة)، إضافة للمعدات التي تحتاج بين (ثلاثين إلى خمسين رأساً) على الأقل.
بحساب أبو أحمد، تكون أجرة أول عشرة زبائن يومياً مخصصة لدفع التكلفة، ويعيش الحلاق على الزيادة عن هذا العدد وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي تعيشها المدينة.
لا يوجد حلّاق، إلا ما ندر، يكتفي بمهنته، يقول من حدثناهم من حلّاقين، قسم منهم اتجه إلى مهنة الأجداد في الحجامة، آخرون وضعوا أمام محلّاتهم مشاريب رمضانية للبيع مثل السوس والتمر الهندي أو مأكولات مثل المعروك، كذلك بسطات للألبسة، عطورات ومصففات شعر ومثبت شعر وغيرها من المواد للبيع، دلالون عقاريون..
على الرصيف، لا يحدّد أبو أحمد حلاق السبيل أجرة لما يقوم به، يقول إنه يكتفي بما يقدمه الزبائن من نقود دون النظر إليها، وهو ما يجعل زبائن كثر ينتظرون دورهم على رصيفه، يقول إنه سينظم دوراً بمواعيد لحل مشكلة التجمع أمام رصيفه، مع مراعاة ضوء الشمس قبل أن تغيب ووظيفته الحكومية وملاحقة الأطفال الذين يريدون اللعب في المكان.
في المنزل، كانت أم مصطفى تحمل مقص الحلّاقة لتزيين شعر أطفالها، تقول إنها لن ترسلهم إلى الحلاق، تعلّمت في رؤوسهم خلال هذه السنوات وتشعر أن قصاتها تضاهي بل أفضل من الحلّاق في حي مساكن هنانو، حيث تسكن، أما زوجها الذي احتج على تسليمها رأسه فقد ترك لماكينة الحلاقة أن تجزّ ما تبقى من شعره بالكامل، أنهى ما بدأ، غسل رأسه، وأخبرنا أن “رأسه بدأ يتنفس من جديد”.