على الرصيف تكتب الحكايات، أبطالها أشخاص لا ينظرون إلى الأعلى، يقتاتون من عملهم في مسح الأحذية ويكتسبون سياستهم ومعرفتهم الاقتصادية من أحذية المارة.
للأحذية وماسحيها في حلب قصة كاملة، تمرّ بين من امتهن مسح الأحذية في مهمة أمنية وبين من وجد فيها سبيلاً وحيداً للرزق، الأطفال أكبر هذه الشريحة ممن وضعتهم حياة المدينة وقوانينها أمام خيار واحد، ووفق سلسلة لا تبدو منطقية.
بين نزق المارّة وعطفهم وتواضعهم ليرات قليلة تسدّ رمق العاملين في الأرصفة، يطارد رزقهم عناصر الشرطة والبلدية، في الأزقة والحواري والساحات العامة، يحرمونهم من الوقوف في أماكن معينة ويطلبون منهم الابتعاد، أيضاً يمسحون أحذيتهم مجاناً وهم ينفثون سجائرهم بتيه وغرور.
على الرصيف قوانين ليست مكتوبة، كأن يجتمع ماسحو الأحذية في جماعات، من النادر أن تجدهم فرادى، كذلك تقسيم المناطق بحسب أهميتها ومن يسيطر عليها وفق اتفاق الأقوى، ومن خلاله يحدد سعر مسح الحذاء أيضاً بعد خضوعه لعملية المفاصلة.
الأرصفة هنا، ليست من سيحكي الحكاية، أنا من سينقلها لكم بعد أحاديث عابرة مع رجالها على ثلاث أرصفة مرقمة.
رصيف رقم ١: أحذية بلا أقدام
تغص ساحة المنشية القديمة في مركز مدينة حلب بالأحذية المنهكة بالغبار، مثلث يفصل بين ساحة العبارة حيث تنتشر عشرات محلات الأحذية الجديدة، والطريق إلى ساحة باب الفرج وموقف “باصات” النقل الداخلي.
على زاوية المنشية القديمة بسطات ومحلات لبيع الفاكهة، مرتفعة الثمن، محل لبيع القهوة، فرن خبز بالقرب منها، وكثير من ماسحي الأحذية.
كان “نعسان” يجلس على كرسيه الخشبي، أمامه صندوق مملوء بعلب الألوان والطلاء والتي يغلب عليها اللون الأسود، رتبها بحيث يعرف مكان كل منها، وفرشاتين واحدة منها كبيرة، وقماشة لتلميع الأحذية.
يمرر فرشاته على أحذية الزبائن وهو ينادي: بويا…بويا
للأحذية رمزية عالية، وأثر كبير في المخيال الثقافي والمجتمعي وحتى السياسي، إذ تتجلى الحالة الاجتماعية
بحذاء الطنبوري الذي أبى أن يتخلى عنه، مروراً بالحالة النفسية والسياسية التي حركت الأحذية والقباقيب لإنهاء حياة (شجرة الدر)، أما حذاء خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي الذي وضعه على طاولة الأمم المتحدة في نيويورك معلناً حرباً من نوع آخر بين القطبين فقد كان قراراً سياسياً، ولا انتهاء بحذاء الزيدي الذي قذف به جورج بوش الابن معلناً الرفض الكامل للألاعيب السياسية الأمريكية في المنطقة.
لكل حذاء نرتديه قصة كانت أو ستكون، ربما سيأتي حذاء ما ليصنع تاريخاً، ويغير مجرى الأحداث التي تتفجر في كل يوم إن أتت الفرصة المناسبة، وإن لم تأت فإنه سيكون قد أدى ما عليه قبل خروجه إلى التقاعد القسري من أقدامنا.
زبائن نعسان ليسوا كائنات بشرية من لحم ودم وإنما مخلوقات مصنوعة من جلد رخيص ومواد مطاطية مهمتها إصدار الروائح الكريهة بعد كل رحلة.
أخبرنا نعسان بأنه يميز البشر من أحذيتهم التي تكشف أوضاعهم المعاشية، حالتهم النفسية، ميولهم الثقافية والسياسية، طبيعة علاقة الرجال بزوجاتهم من خلال شكل أحذيتهم ومدى نظافتها ونسبة لمعانها.
رحلة الصباح والمساء هي رحلته اليومية لجمع ثمن بضع لقيمات يقمن صلبه ولا تسد بوابات الجوع والفاقة التي يشرعها الغلاء على بيته الحزين.
يخرج كل صباح محملاً بصندوقه وكرسيه الصغير من منطقة الشيخ مقصود في الجزء الشرقي الشمالي من مدينة حلب متجهاً نحو وسط المدينة، حيث البشر والأحذية والحياة.
يقول نعسان:
عدت إلى المدينة بعد خمسة أعوام من العمل في مقاصف ومطاعم اللاذقية، بعد الاستقرار النسبي في مدينة حلب، وقد كنت أيمم شطر المقاهي الشعبية، وأدور بين طاولات المثقفين والمتقاعدين، لعل أحدهم يكون لديه فائض من راتبه الهزيل، فيغدقه على حذائه، كان الدخل قليلاً ولكنه جيد قياساً على أسعار السلع والمواد الغذائية، كنت أتقاضى مبلغ ٣٠٠ ليرة عن كل حذاء أقوم بتحسين مظهره.
لكن الأمر أصبح مختلفاً هذه الأيام، فقد أصبحت المقاهي شبه خاويةٍ من الزبائن بسبب الغلاء، حتى وصلت إلى مرحلة ظننت فيها أن الناس الذين يرتادون المقاهي بلا أقدام.
بين خمسمائة إلى ألف ليرة، هي التسعيرة الجديدة لمسح الحذاء هذه الأيام. لموظف يريد مسح حذائه يومياً عليه أن يدفع ثلث راتبه، لعامل مياومة عليه أن يدفع خمس ما يتقاضاه يومياً، ثم لماذا عليه أن يفعل، خاصة وأن معظم الأحذية التي يشتريها الناس اليوم، هي من النوع الرديء.
يتذكر نعسان، العبارة المجاورة للمكان الذي أمضى فيه سنوات طويلة من حياته، يقول إن هذه المحلات كانت تبيع أنواعاً من الأحذية مختلفة وبأسعار متوسطة، لا تزيد عن ألف ليرة سورية، كان ذلك قبل عام 2011.
يخبرنا نعسان أن الأنواع المتوافرة اليوم هي من الأنواع الرديئة، يغيب الجلد الطبيعي عنها، فسعر أي حذاء من نوع متوسط يزيد عن مئة ألف ليرة، وهو مبلغ لا يملكه معظم سكان المدينة الذين يعيشون تحت خط الفقر.
الأحذية العسكرية هي الأكثر مروراً أمامه، هذه المدينة تحولت إلى ثكنة عسكرية، أصحابها لا يدفعون ثمن تنظيف أحذيتهم، أما المارة فلا يكاد يظهر لون حذائهم من الغبار وتغيب ملامحها لكثرة مرورها على الإسكافي.
يغلب على الأحذية، بحسب “أبو محيو” رفيق درب نعسان، الأحذية الصينية التي يغلب عليها الطابع الشعبي أو الرباضي، وهو ما أدخل ماسحو الأحذية في حالة من الكساد، لاسيما أنها ليست بحاجة إلى طلاء ومكياج وإنما لاستحمامٍ في الغسالة المنزلية لتعود سيرتها الأولى.
أنظر إلى نعسان، ابتسم له، يبتسم وهو ينظر إلى حذائي، ربما تراءيتُ له حذاء عسكرياً، بعد أن أمضينا معاً عامين في القطعة العسكرية ذاتها قبل الحرب بأمد، كنا نضحك، أما اليوم فقد كان صديقي يبكي من أجلي.. من أجل ذكرياتنا ومن أجل حذائي المنهك.
رصيف رقم ٢: الأحذية المريضة
على رصيفٍ غير بعيدٍ إلى جانب المحكمة العسكرية بحلب، يوجد مستشفى لغير البشر .. (مشفى للأحذية)
تبدو الدردشة والحديث مع أي حرفي أو مهني بدون سابق إنذار أمراً مثيراً للحساسية وللمشاعر السلبية، لاسيما في ظل زمن أمني مخابراتي بامتياز، إذ لابد من مبرراتٍ للدخول في تلك المحادثات، وما أكثر الأسباب عندما يكون الحديث مع إسكافي في زمن الأحذية المنكوبة والمثقوبة.
أبو محمود المصري صاحب مشفى الأحذية والذي لا تتجاوز مساحته، مساحةَ قبر بشري لا يكاد يتسع لأدواته البسيطة، صندوقٍ خشبي يعلوه سندان معدني مثبت بإحكام، مطرقةٌ معدنية خفيفة، مخرزٌ، ومجموعة من المسامير (القندرجية) يدورها في فمه ويلاعبها بلسانه، وعن ذات اليمين والشمال آلتان كبيرتان يخيط بهما الأحذية، إحداهما يدوية والأخرى كهربائية، يخرجها من ذلك القبر إلى الرصيف صباحاً ليكون مكانها مُستقراً له إلى حين، وأنا الآن أقف أمامه.
أباغته بسؤال مفخخ: “لدي مريضٌ بحاجة لمعاينةٍ إسعافية”.
وما إن فتح عينيه بدهشة، كان حذائي المريض على طاولة الفحص الطبي. ابتسامته كانت مُدخلاً للاسترسال والحوار.
يتحدث بحيويةٍ عن العمل وظروفه بعد أن استأنس بي وبحذائي:
كلُّ صاحب حرفةٍ دكتور في مهنته وحرفته، ليس الأمر حكراً على أصحاب الشهادات العليا والمثقفين، وماهي إلا عملية معالجةٍ للحالة التي تعرض علينا، ننجح ببعض التداخلات الجراحية، ونخفق أحياناً عندما يكون الحذاء قد دخل مرحلة اللاعودة، ومن ثَم الموت المحتم.
ورثت هذه المهنة عن والدي، والذي ورثها عن والده، كان محله في (باب انطاكيه) في المدينة القديمة، يبدو العمل جيداً هذه الأيام بعد ارتفاع أسعار الأحذية المصنعة محلياً وصعوبة تأمين المواد الأساسية من جلد وحواشٍ للأحذية، والتي باتت باهظة الثمن قياساً على معدل الدخل الشهري.
يتجاوز سعر الحذاء المصنع من الجلد الصُنعي ٢٥ألف ليرة، والمصنّع من الجلد البقري ٧٥ ألف ليرة سورية، وهذا بدوره اضطر أغلب الناس إلى عملية الإصلاح والترقيع والخياطة لأحذية جميع أفراد العائلة من الكبير إلى الصغير، ذلك أن هذه التداخلات الجراحية الإسكافية للأحذية، تكلف دراهمَ معدودةً قياساً بفجور أسعارها.
لا تكلف عملية الترقيع والخياطة أكثر من ألف ليرة سورية لزوج الأحذية، وتغيير سِفل الحذاء ٥٠٠٠آلاف ليرة سورية، زوج العوازل السفلية (الضبان) يتراوح بين ١٠٠٠-١٥٠٠ليرة سورية، تلك نشرة الأسعار التي قدمها لي أبو محمود دون أن أسأله.
“الدخل الشهري أكثر بكثير من الأيام الماضية، ولكنه ليس بقادر على ردم الهوة الشرائية بعد أن فقدت الليرة قيمتها وكعبها العالي في البلاد”، يضيف أبو محمود وهو يراقب ابنه الذي يتكئ إلى جانب حصته اليومية من الخبز: قمت مؤخراً بتوسعة أعمال مشفاي بعد أن بدأت باستقبال الحقائب النسائية والرجالية وحقائب السفر، هي الأخرى تعاني أيضاً مشاكل شتى مثل الفتوق والتمزقات، وانفلات زماماتها وسحاباتها وأبازيمها الصينية رديئة الصنع.
تمر غيمةٌ داكنةٌ على وجه أبي محمود، يناولني الحذاء، بعد أن عالجه ببضعة مساميرَ نافذةً، فعاجلته ببعض النقود وانصرفت بحذائي المُعافى.
رصيف رقم ٣: لا أحذية في أحيائنا الشرقية
ليس ذلك جديداً، خلال سنوات عمري التي تجاوزت الخمسين لم أشاهد ماسح أحذية في الطريق إلى شارع بيتي في حي طريق الباب، أيضاً خلال مروري في أحياء هنانو والحيدرية إلى آخر قائمة الأحياء التي صنفت منذ بداية الثورة تحت اسم “حلب الشرقية”.
تقسم مهنة ماسح الأحذية، مثل كل شيء، حلب إلى شرقية وغربية، هناك حيث في كل وقت يصبح الوقوف عند ماسح حذاء رفاهية لم تكن في متناول السكان، من عاملين وموظفين وفقراء، ومع تحوّل المدينة اليوم بمجملها إلى إحياء فقيرة بقي التقسيم على حاله.
بين صديقي ماسح الأحذية نعسان والإسكافي أبي محمود، تمر حشود من الأحذية الحزينة، والأقدام المحشوة بالدمامل ومسامير اللحم والألم، تبحث مثلنا تماماً عن حلّ للاستمرار بعد أن غدا البقاء على قيد الحياة معجزة.