“عيد الفصح مناسبة دينية، كنا نستعد لها بصنع الخبز أو كعك التنور المالح، والمعمول المحشي بالجوز أو العجوة، والكبب والعصائر الطبيعية، وفي سبت النور كنا نُحضّر الأرز بالحليب الشهي، وتستمر الأجواء الاحتفالية إلى أحد الفصح وفيه نُعد البيض الملون، رمزاً للحياة والتجدد”.
هكذا تتذكر جانيت (اسم مستعار)، وهي سيدة أربعينية من جسر الشغور بريف إدلب، طقوس الاستعداد لعيد الفصح، قبل أن تسوء الأحوال المعيشية والاقتصادية في المنطقة، وتضيف: “الآن اختلف الوضع، وأصبحنا نخبز كعك التنور المالح فقط”.
يوافق اليوم 17 نيسان (أبريل) الاحتفال بعيد الفصح، أحد أهم الأعياد الدينية لدى المسيحيين، والذي يُحيي ذكرى قيامة السيد المسيح، في ختام الاحتفال بأسبوع الآلام، وهو الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وفقاً للديانة المسيحية.
يبدأ الاحتفال بأسبوع الآلام يوم أحد الشعانين، يليه عدد من الأيام المقدسة، خميس الأسرار، الجمعة العظيمة، سبت النور، وينتهي بأحد عيد الفصح، وفيه يُنهي المسيحيون صيامهم الكبير ويحتفلون بالعيد الذي يليه اثنين الباعوث.
طالما ارتبط الاحتفال بأحد الشعانين في سوريا بطقوس مبهجة، تبدأ في الكنيسة حيث يوزع رجال الدين أغصان النخيل والزيتون على الناس، وخصوصاً الأطفال، ليلوحوا بها في المواكب ويسيرون أمام الخوري والرجال والنساء من خلفه.
اختلفت مظاهر الاحتفال اليوم لدى المسيحيين في الشمال السوري، وانحصرت داخل حدود الكنيسة، ولم يعد المسيحيون قادرون على إعلان مظاهر العيد خارج منازلهم، نزولاً عند قرارات الحكومة في إدلب، كما أزالوا جميع الصلبان خارج الكنيسة، وتوقفوا عن قرع الأجراس، لتفادي أن يتعرّض لهم أحد.
عيد تنقصه لمّة العائلة
يقول يعقوب (اسم مستعار)، وهو رجل خمسيني يعيش في ريف إدلب، بعد هجرة عائلته: “أحرص على الاستيقاظ باكراً يوم أحد الشعانين، للذهاب إلى الكنيسة للصلاة والاحتفال، لكن مظاهر العيد لم تعد كما عهدتها طوال عمري. حتى العام الماضي كنت أقضي العيد مع عائلتي وأصدقائي، لكني اليوم أقضيه وحيداً، بعد أن غادر أغلبهم البلد”.
يعقوب هو واحد من نحو مائتي مسيحي قرروا البقاء في ريف إدلب ورفضوا الهجرة، بعدما كان عدد المسيحيين يتجاوز 10 آلاف مواطن، يتوزعون في مدينة إدلب وجسر الشغور، وقرى القنية واليعقوبية والجديدة والغسانية وحلوز، وينتمي معظمهم إلى طائفة الروم الأرثوذوكس، وفقاً لإحصائيات غير رسمية. هذه الهجرة الكبيرة غيّرت خارطة الاحتفال بعيد الفصح في المنطقة، فمن جانبها تقول جانيت: “العيد هو لمة الأهل واجتماع العائلة، حين يجتمع الأجداد والأبناء والأحفاد في بيت واحد، وهذا ما نفتقده اليوم”.
تُعقد الاحتفالات حاليّاً في كنيسة القديس مار يوسف، في بلدة القنية، والتي تستقبل مسيحيي البلدة، ومسيحيي الجديدة واليعقوبية، كما تقام فيها المراسم الدينية وقداس الأحد الأسبوعي. يصف حنا خوري، راعي الكنيسة، الوضع الحالي قائلاً: “لم يعد لدينا عيد، نحن حزينون للغاية، وعيدنا يقتصر على الصلاة في الكنيسة”.
متاعب اقتصادية رغم أجواء العيد
يواجه مسيحيو الشمال السوري تحديات اقتصادية عديدة، أغلب جهات الإغاثة تعتبرهم سكاناً أصليين غير نازحين، وبالتالي لا تنطبق عليهم شروط المساعدات الإنسانية، رغم صعوبات الحياة.
يشرح يعقوب المصاعب الاقتصادية: “لا نملك موارد تُحسّن وضعنا المالي إلا قطعة أرض صغيرة، نزرعها ونعيش على محصولها، بعد أن أعادت حكومة الإنقاذ في إدلب، في السنوات الأخيرة، أراضي وبيوت من يمتلكون أوراقاً تثبت ملكيتهم”.
يأتي هذا بعدما كانت جميع أملاك المسيحيين مُصادرة من قبل “مكتب أملاك النصارى”، وهو مكتب تابع لهيئة تحرير الشام، متخصص بأمور ممتلكات المسيحيين في إدلب وريفها، إذ صادرت الحكومة في إدلب أملاك المسيحيين النازحين إلى خارج المنطقة، وكذلك الممتلكات العامة، واستثمرتها كلها. أمّا المسيحيون القاطنون في إدلب ممن يمتلكون أوراقاً رسمية تثبت ملكيتهم للعقارات والأراضي، فيمكنهم استردادها بشكل شخصي، إذ لا تقبل وكالة شخص آخر.
وقد وثقت منظمة “سوريون من أجل تحقيق الحقيقة والعدالة” مصادرة 550 منزلاً ومحلاً تجارياً في مدينة إدلب، من قبل هيئة تحرير الشام، إضافة إلى 750 منزلاً تعود ملكيتها لعائلات مسيحية في قرى ريف جسر الشغور، في 2018.
وانخفض عدد المواطنين المسيحيين في العام 2021، إلى 677 ألفاً، بعد أن بلغ عددهم في العام 2011 نحو 2,2 مليون نسمة، بحسب إحصائيات نشرتها المنظمة غير الحكومية “أوبن دورز”.
عيد الفصح وشهر رمضان يلتقيان
يتزامن صيام المسيحيين هذا العام مع صيام شهر رمضان عند المسلمين، ويختلف الصيام المسيحي عن الإسلامي في أن المسيحيين ينقطعون عن الطعام والشراب من منتصف الليل حتى الظهيرة (12 ساعة)، ثم يمتنعون عن تناول اللحوم والدهون والبيض والحليب والألبان ومشتقاتها لباقي اليوم، ولمدة خمسين يوماً متواصلين.
يؤكد يعقوب: “لا توجد أي مشاكل بيننا وبين جيراننا المسلمين، بل تربطنا صداقات قوية مع كثير منهم، على الرغم من وجود بعض المتشددين الذين يُكفّروننا”.
يحرص يعقوب على تصوير أجواء الاحتفال بالعيد في قريته، وإرسال الصور والفيديوهات إلى عائلته وأصدقائه في الخارج، بعدما أصبحت هذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لمشاركتهم العيد، وبعد أن أُغلقت الطرقات والمعابر بينهم منذ أكثر من عامين.
في نهاية حديثه يقول: “أمنيتي الوحيدة التي أصلي لأجلها، وأرجوها من الله كل عام، هي أن يلتئم شملنا مع أهلنا وأصدقائنا ونحتفل بالعيد معاً من جديد”.