أصبحت أم عثمان، المُهجَّرة من ريف حماة، بطلةً في أعين جاراتها، بعدما أبهرتهن برائحة طبق القشّة الذي أعدته لإفطار يوم أمس، حيث تقيم في مخيم على أطراف بلدة باتبو بريف حلب الغربي.
تناقلت سيدات في المخيم قصة صحن الفتّة المشغول بعناية، طبقة من الأرز المطبوخ بمرقة رأس الخروف المسلوق، ثم طبقة من الخبز المقلي، تعلوه طبقة من لحم الرأس، أضافت له أم عثمان خليط اللبن الممزوج بالطحينة والفوم والمزيّن بالبقدونس والمكسرات. أرسلت أم عثمان طبقها الشهي لجارتها صفاء في ريف إدلب الجنوبي، فخطفت قلوب الصائمين المترقبين أذان المغرب، وأصبحت حديث العائلة.
فتح طبق القشّة شهيّة جيران أم عثمان في المخيم، زارتها أم علي لتتعرف عليها وتبادلها حديثاً حول الطبق الذي غاب عن مائدتها لسنوات، وأخبرتها: “لو كنت أعلم لطلبت منك طبقاً”.
وهي تضحك، وعدت أم عثمان جارتها بإعداد الفتة مرةً أخرى قريباً، ودعوتها إليها، وسط حديثٍ تخلله ذكريات شيقة عن وجبة القشّة.
طبق أحبَّه الملوك والفقراء
حمل السوريون من مناطق عدة، مثل دمشق وحمص وحماة وحلب، عاداتهم وذكرياتهم ومأكولاتهم إلى أماكن استقرارهم الجديدة في شمالي سوريا، ليعيدوا إحيائها في المنطقة. القشة واحدة من هذه المأكولات الشعبية ذائعة الصيت بين المُهجَّرين، والتي وجدت لنفسها مكاناً بين محبيها من أبناء المنطقة، خاصة في رمضان حيث تكثر الدعوات العائلية.
يختلف اسم الأكلة من منطقةٍ لأخرى في سوريا، فيطلق عليها أبناء مدينتي حماة وحمص “السختورة”، بينما يسميها أبناء دمشق وحلب القشّة، أما في إدلب فتدعى بـ “الغمة”، وهي طبق يحضَّر من الغنم أو البقر، لكن قشة الغنم أكثر شعبية لرخص ثمنها.
تتكون القشًة من الكرشة وهي المعدة، والمقادم أو الكراعين وهي قدم الغنم، والرأس، والسندوانات أو المصران أو القشات، أو القبوات أو السجقات، وهي أمعاء الغنم، واللسانات والمخ، والنخاعات وهي النخاع الشوكي.
ويعود أصل أكلة القشّة إلى المطبخ العثماني، ومنه انتقلت إلى بلاد الشام ومصر والعراق، وعُرِفَت في الدولة العثمانية بأنها الطبق الرئيسي للملوك والسلاطين، ثم صارت تعرف بـ “وجبة الفقراء”، لرخص ثمنها مقارنة باللحوم.
يستعيد أبو أحمد، 54 عاماً، من جسر الشغور، ذكرياته مع طبق القشة، يقول: القشّة أكلة عائلية بامتياز، قلّما يُدعى شخص من خارج العائلة لتناولها، إذ يصعب التنبؤ بمحبيها، أمَّا في العائلة فنحن نعرف من يأكلها. كان والدي يفضّل تناولها في رمضان، ويطلب من أمي تحضيرها، وكنّا ندعو أقرباءنا على الإفطار وتمتد جلستنا حتى وقت متأخر من الليل، تعلو فيها أصوات الضحكات والأحاديث، وتُعاد الكرّة عند أعمامي وعماتي عدة مرات.
لم تعد هذه الاجتماعات العائلية تُعقد كما في السابق، ولم نعد نأكل القشّة أكثر من مرتين في العام، بسبب التهجير وارتفاع الأسعار، واختلاف الظروف.
لكل بيتٍ وصفة.. طقوس تحضير القشة
تحتاج القشة لدرجة عالية من النظافة، وتختلف طريقة إعدادها بين شخصٍ و آخر، فأم عثمان تنظف رأس الخروف بمياه ساخنة دون درجة الغليان، تغطّس الرأس فيها مراراً ثم تُقشّره بسكين حادة حتى يزول الشعر كلّه، ثم تُشعِل النار وتُقلِّب الرأس عليها حتى يحترق الوبر الناعم، وتعود لتقشره من جديد، ثم تكوي بسيخ حديدي ساخن العينين والأذنين وداخل الأنف بعد ضربه على الأرض مراراً، بعدها تغسله وتنقعه بالملح قليلاً، ثم تعيد غسله جيداً قبل أن تضعه في قدر على النار.
أما أم عبد القادر، 40 عاماً، من حلب، فتسلخ الجلد أولاً، وهو ما لا يفضله البعض كي لا يخف دسمه، ثم تنظّفه. وفي جميع الأحوال يُستعمل الملح وحمض الليمون في غسل المصران والكرشة، وبعض السيدات ينقعنه باللبن أو الخل ثم يغسلنه جيداً.
تحشو أم عثمان الكرشة بالأرز وحبِّ الحمّص المسلوق واللحمة الناعمة، وتكون قطع الكرشة بحجم الكف، ثم تخيط القطع لتصبح على شكل كرات محشوة، تسمى “الحفاتي أو الدراكيل”، تُسلق بعدها على النار حتى تنضج، أمَّا حشو المصران “القبوات” فيتبَّل بالملح والفلفل فقط.
تقدّم القشة في مناسف كبيرة فيها القبوات والدراكيل، إلى جانب منسف الفتة المُزين بالبقدونس والمكسرات، وأهم ما يرافقها “المرقة” التي يضاف لها الثوم والليمون، ويوضع الرأس كاملاً فوق أرز الكبسة، أو يُقطَّع لحمه قطعاً كبيرة توزَّعُ فوق صحن الفتة.
القشّة الجاهزة.. “من الغلوة للكلوة”
لزمنٍ طويل عُرفت القشة بأنها أكلة الفقراء، يوزعها القصابون مجاناً لمن يريدها عند ذبح الأغنام، كما كانت رخيصة الثمن إن بيعت من قبل بعضهم، لكنها اليوم طبق مرتفع الثمن، إذ يبلغ سعرها في محلات اللحوم بإدلب نحو 40 ليرة تركية للرأس والكرشة، بينما يباع المصران بـ ١٥ ليرة تركية للكيلو الواحد، ويتفاوت السعر بحسب حجمها والطلب عليها، فيرتفع سعرها في محلات اللحوم القريبة من المطاعم.
ويلعب ارتفاع سعر الغاز دوراً في الإقبال على طهي القشّة، إذ تحتاج لوقت طويل لنضجها، خاصة الرأس، وكانت تستخدم كمثل شعبي كناية عن التأخر في طهي أي طبق “إي شو قشّة، كنت طبخت قشّة..”
ومع ارتفاع أسعارها وصعوبة تحضيرها لجأ محبو القشّة إلى تناولها في مطاعم فتحت أبوابها حديثاً في إدلب، قادمة مع أصحابها من مناطق مختلفة، إذ تجذبك لافتة مطعم “عبّارة” بفرعيه في مدينتي الدانا للدخول إلى المطعم الذي يقدم القشة جاهزة.
يغص المطعم بمحبي القشّة في رمضان، ويتوافد الشباب والعائلات لتناولها. يقول أنور البكري، 28 عاماً، من قرية التمانعة في ريف إدلب الشرقي، وهو أحد زبائن المطعم: “كنت سعيداً عندما أخبرني صديقي بتقديم القشة هنا، ورغم أن البعض يفضلها باردة فإنني آكلها ساخنة، وأكثر ما أحبه هو المخ”.
يقصد البكري المطعم بصحبة أصدقائه كل فترة، ويستمع إلى أحاديث الشبان الذين يتذوقون القشة للمرة الأولى، يشهد ترددهم في أكلها، ومراهنتهم على مذاقها، وتهديدات البعض بالمغادرة إذا لم تُعجبهم. لكن غالباً ما تكون النتيجة سارّة. يقول ضاحكاً: “تكرر هذا المشهد أمامي مراراً”.
يقول صابر عبّارة، صاحب المطعم: “القشة هي أكلة الفقراء في فصل الصيف فقط، إذ ينخفض سعرها ويقلّ الطلب عليها بسبب ارتفاع درجات الحرارة، أما في فصل الشتاء فيكثر الطلب عليها، ويلعب سعر الغنم دوراً في ثمنها”.
ورث عبّارة المهنة أبًّا عن جد منذ نحو 70 عاماً، وقد نقلها معه من حمص إلى إدلب بعد إعادة افتتاح المطعم عام 2017. يعمل في المطعم صابر وأولاده، ويقول إنه نال إعجاب زبائنه بسبب اهتمامه بالنظافة وجودة الوجبات، فما يقدمه يضاهي ما تطهوه ربات المنازل. يعد الرجال والشبان أكثر رواد المطعم، مع قليل من السيدات اللواتي يفضلن تناولها جاهزة.
تتذكر سلوى الشامي من حي الميدان في دمشق، والمقيمة في كفرلوسين بريف إدلب، وجبات القشة الشامية الرمضانية، وكيف كان والدها يشتريها جاهزة من مطعم المحبة في منطقة الجزماتية بدمشق. تقول: “كان المطعم مقصداً للناس، ليس من أهل الشام فحسب، إنما للسياح من خارج سوريا أيضاً، بسبب شهرته في تقديم القشّة الشامية بأصنافها حسب طلب المشتري، فمن الزبائن من يشتري المقادم فقط، ومنهم من يشتري الدراكيل، ومنهم من يطلب فتة الرأس، وآخرون يفضلون السجقات، وآخرون يطلبونها كاملة.
تبتسم سلوى وتنتقل إلى وصف أجواء رمضانية أخرى في حي الميدان، وتحكي الكثير عن الازدحام المبهج، والقشّة الشهية التي تجمع الناس دائماً مهما اختلف المكان.
للقشّة محبون وكارهون، بعضهم لم يتذوقها مرّة في حياته، لكن محبوها يتغنون بها دائماً ويفتقدونها على موائدهم بعد أن تجاوزت أسعارها قدرتهم على الشراء، إذ عادت مجدداً لتأخذ حظها في قائمة طعام الميسورين فقط، وذاكرة من لا يمتلك القدرة على شرائها وتحضيرها.