“لا هم إلا هم العرس ولا وجع إلا وجع الضرس” مقولةٌ شعبية يُعبّر من خلالها فواز شعيب، من سكان مدينة ادلب، عن شدة الألم الذي يكابده من لديه مشكلة في أسنانه، لهذا يضطر كثيرٌ من سكان الشمال السوري للتوجه الى عيادات الأسنان الخاصة رغم تكلفة العلاج الباهظة فيها، حتى يحين دورهم في المراكز المجانية، بينما يلجأ البعض الآخر لحلولٍ بديلة لتسكين أوجاعهم مؤقتاً.
يعيش سكان شمال غربي سوريا في معظمهم تحت خط الفقر، بالكاد يستطيعون تأمين قوت يومهم، وزيارة الطبيب هم كبير يجعل أغلبهم يكابر على وجعه، فأجور العلاج أصبحت بالدولار، وبالتالي تزيد التكلفة أكثر فأكثر مع تراجع قيمة الليرة التركية.
فوكس حلب زار عيادة طبيب الأسنان ثابت وتي في سلقين بريف إدلب، للتعرّف على تكاليف علاج الأسنان اليوم في العيادات الخاصة بمناطق الشمال السوري.
تكاليف بالدولار ترهق المرضى
تبلغ تكلفة تقويم الأسنان 450 دولاراً، زراعة السن الواحد 300 دولاراً، قلع ضرس العقل 12 دولاراً، تنظيف الأسنان 10 دولارات، الحشوة الضوئية 8 دولارات، تلبيس السن بين 20-50 دولاراً، حسب نوعية التاج، كما أن تركيب الجسر يختلف سعره حسب الجودة وعدد القطع.
يقول الدكتور ثابت وتي: “هذه الأسعار بشكلٍ وسطي، وتختلف حسب الطبيب وموقع العيادة وتجهيزاتها ونوعية المواد المستخدمة وحالة المريض”، مشيراً إلى أن “سبب تقاضي أطباء الأسنان تكلفة العلاج بالدولار عوضاً عن الليرة التركية، يعود الى أن جميع المواد المستعملة يشتريها الأطباء من التجار بالدولار، في ظل تذبذب سعر صرف الليرة التركية”.
ويرى سكان في الشمال السوري أن أجور العلاج في عيادات الأسنان الخاصة باهظة جداً، ولا تتناسب مع مستوى دخلهم، يقول فواز شعيب: “كان لديّ ضرس يؤلمني ويتآكل يوماً بعد يوم، فذهبت للطبيب ليخبرني أن الضرس بحاجة لسحب عصب وحشوة ضوئية دائمة بتكلفة تبلغ 15 دولار (235 ليرة تركية)”.
وأضاف شعيب: “علمت من الطبيب أن الحشوة الضوئية ليس مضمونة، وقد تدوم فعاليتها لعامين فقط، لذا يجب تلبيس الضرس بتاج يتراوح سعره بين 20-50 دولار، شعرت بالصدمة وفكرت كيف يمكن تأمين هذا المبلغ، فيومية العامل اليوم لا تتجاوز 30 ليرة تركية (1.92 دولار)، ما يعني أني بحاجة للعمل 15 يوماً متواصلاً لتأمين تكلفة تلبيس ضرس من النوع المتوسط، لذلك قررت الاكتفاء بالحشوة الضوئية، وحتى تتلف الحشوة بعد سنتين يخلق الله ما لا تعلمون”.
وحول سبب غلاء تكاليف العلاج في العيادات الخاصة، يقول الطبيب ثابت وتي: “المشكلة ليست عند الأطباء بل عند التجار والمسؤولين الذين يقومون بإدخال المواد السنية لمناطقنا، فمعظم المستلزمات تأتي من مناطق النظام، ومع استمرار انقطاع الطريق بين الشمال السوري ومناطق سيطرة الأسد منذ ثلاث سنوات، يضطر التاجر لدفع أتاوات للحواجز لجلب تلك المواد عبر طرق التهريب، الأمر الذي يتطلب تكاليف إضافية”.
وتابع وتي: “المستلزمات التي تأتي من تركيا تعتبر باهظة أيضاً، بسبب الضرائب المفروضة على الاستيراد، وتراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار، إضافةً إلى غلاء تجهيزات عيادة الأسنان، ما يضطر الأطباء لرفع الأجور، لتعويض النفقات التي يدفعونها لشراء الأجهزة والمعدات والصيانة”.
ويبلغ سعر كرسي الأسنان بين 1000 إلى3500 دولار، المعقمة 350 دولار، خلّاط الحشوات المعدنية 300 دولار، جهاز قياس الذروة 500 دولار، المصلب الضوئي 200 دولار، إضافةً للأدوات والمعدات التي تُستخدم لمرة واحدة ويختلف سعرها بحسب نوعها، ما يعني أن تكلفة إنشاء عيادة سنية تتراوح نحو ١٠ آلاف دولار وسطياً، حسب الماركات التي يجلبها الطبيب، عدا أجرة العيادة وتكاليف باقي الأثاث.
يقول نقيب أطباء الأسنان في محافظة إدلب، الدكتور إبراهيم اليعقوب: إن “النقابة لا تستطيع تحديد أجور الأطباء بشكلٍ مباشر، لأن آليات العلاج تختلف، بحسب كفاءة الطبيب وخبرته، وجودة المواد المستخدمة ومكان العيادة، كما أن المواد السنية تستورد من الصين وأوروبا عبر تركيا، أو من مناطق النظام، لذلك أسعارها باهظة بسبب أجور النقل والأتاوات”.
وأضاف اليعقوب أن “النقابة تشكّلت منذ عام ونصف العام، وتعمل على رفع سوية المهنة وتنظيمها، وضمان توظيف الأطباء بناءً على الخبرة والأهلية، والوقوف بوجه المخالفات من قبل المتعدّين على المهنة، حيث تم ضبط الكثير من المخالفين بعضهم طلاب لم يكملوا دراستهم”، لافتاً الى أن “العيادات السنية المجانية غير كافية لتغطية حاجة السكان، لذا نطالب بشكلٍ دائم الجهات المعنية بضرورة زيادة العيادات التي تقدم الخدمات مجاناً”.
“القرباط” يتعدّون على المهنة
غلاء تكاليف العلاج في العيادات السنية الخاصة، جعل البعض ولاسيما النازحين، يقصدون أشخاصاً يمتهنون هذا المجال بلا أي دراسة أكاديمية، وإنما بحكم الخبرة.
يقول هشام بكور من قاطني مخيم أطمة شمال إدلب “تجاوزت الستين من عمري، لهذا أعاني من مشاكل مستمرة في أسناني، ولاسيما أني أهمل تنظيفها، وحين قررت زيارة الطبيب في الدانا، صُدمت بالسعر وعَزفت عن الموضوع، إلا أني لم أعد احتمل الألم، لكن قبل فترة جاء إلى مخيمنا شخصٌ يحمل معه حقيبة، وأخبرنا أنه يعمل في مجال طب الأسنان”.
يضيف بكور “تجمعنا حول ذلك الشخص، وسألناه اذا ما كان طبيباً، فأخبرنا أنه من القرباط (الغجر) المنحدرين من شرقي سراقب، وأتقن المهنة عن أبيه وجده وأن أسعاره رمزية، تحمّس البعض ومنهم أنا، لشدّة الوجع وعدم امتلاكنا تكاليف العلاج في عيادةٍ خاصة، بينما لم يجرؤ آخرون على الجلوس تحت أدواته. رغم أن مستلزماته كانت بدائية وشعرت ببعض الألم، لكن حسب المثل القائل (وجع ساعة ولا كل ساعة)”.
كذلك افتتح بعض الأشخاص عياداتٍ خاصة، رغم عدم دراستهم لهذا المجال، أو عدم إكمال الدراسة، ويتقاضون أجوراً باهظة من المرضى، حتى أكثر من الأجور التي يتقاضاها الأطباء الأكاديميون، فضلاً عن الألم الشديد الذي يشعر به المرضى، بسبب عدم اتقان أؤلئك الأشخاص لعملهم، وارتكابهم لكثيرٍ من الأخطاء.
يقول أكرم شعبان من سكان مدينة أريحا “ذهبت لأحد الأطباء بعدما اشتكيت من ألمٍ في أحد أضراسي، فقال لي أن هذا الضرس بحاجة لقلع فوراً، وافقت على ذلك، لكن الغريب أنه بعد أيامٍ من العلاج زاد الوجع أكثر، فقررت زيارة طبيبٍ آخر، ليُخبرني أن الضرس المنخور مازال موجوداً، وبأن الطبيب السابق قلع لي الضرس السليم”.
يضيف شعبان “انزعجت كثيراً بعد أن جعلني ذلك الشخص الذي يدّعي أنه طبيب، أخسر ضرسي الذي لا يُعوّض، والمزعج أكثر بحسب ما أخبرني الطبيب، أنه حتى الضرس المنخور لا يحتاج إلى قلع، ويتطلب علاجاً بسيطاً”، مشيراً إلى أن “ابن عمه زار ذات الطبيب المحتال، إلا أن الأخير أخطأ في تثبيت الحشوة بشكلٍ جيد، ما أدى إلى تعفن الجذر والتهاب اللثة، وشعور المريض بآلامٍ شديدة”.
من جهته عبّر طبيب الأسنان يوسف المحمود، المقيم في مدينة اعزاز، عن استيائه من عمل أشخاصٍ بلا اختصاص في مجال طب الأسنان، لافتاً إلى أن القرباط الذين يتجولون في الأرياف والمخيمات، تعلّموا المهنة بالوراثة، وأغلبهم يقتصر عمله على تركيب البدلات والتلبيسات الرديئة الصنع”.
وتابع المحمود قائلاً “95% من علاجات من يتعدّون على المهنة مصيرها الفشل، وتؤدي إلى تفاقم الحالة وانتشار الخرّاجات والأوبئة، خاصةً أنهم لا يهتمون بتعقيم أدواتهم، ولا يجيدون استئصال العصب وإزالة النخر قبل وضع التيجان، ويستخدمون ذات الأدوات من فمٍ إلى آخر، ما يؤدي إلى ظهور بؤر انتانية”.
المراكز المجانية ليس حلاً مجدياً
توجد في الشمال السوري عيادات مجانية في بعض المستشفيات والمراكز الصحية التي تدعمها المنظمات حسب برامجها المعتمدة، إلا أن الكثير من تلك العيادات توقفت عن العمل بسبب غياب الدعم، وبالتالي أصبح هناك ضغط كبير على المراكز المتبقية.
كما أن تلك المراكز تقدّم خدماتٍ أساسية بسيطة، مثل القلع والمعالجات الترميمية واللبّية للأسنان، وتفتقر إلى التجهيزات الجيدة، وقد يضطر المريض إلى الانتظار نحو شهر كامل لتلقي العلاج، إذ تستقبل العيادات أعداداً كبيرة من المرضى يومياً، ما يقلل من جودة الخدمة الطبية التي تقدمها.
يقول الحاج أبو ياسر (70 سنة) من قاطني مخيم عائدون بريف إدلب: “المراكز السنية المجانية ليست حلاً مجدياً، والسبب يعود إلى أن مراجعة الطبيب فيها، يحتاج لحجز دور قبل شهرين أو أكثر، إضافةً إلى أن بعض المشاكل الصحية التي يعاني منها الشخص، قد يصبر عليها عدة أسابيع، لكن مشكلة الأسنان بالذات لا تُحتمل، لهذا فمن يعاني من ألمٍ شديد يضطر لمراجعة العيادات الخاصة، بدلاً من الانتظار على الدور تحت وطأة الوجع”.
كذلك توفر كليات طب الأسنان المتواجدة في الشمال السوري، معالجة مجانية لعشرات المرضى، إلا أنها لا تشهد إقبالاً جيداً، وتنحصر المعالجة للحالات المطلوبة ضمن المنهاج الدراسي في كل عام، كما يتطلب من المريض الحضور في أوقاتٍ محددة، تتلاءم مع دوام الطالب المعالج وأستاذه المشرف.
تقول فاطمة من أهالي مدينة ادلب “خلال تجوالي في سوق الصاغة بمدينة ادلب، أوقفتني إحدى الفتيات، وقالت لي إنها طالبة سنة رابعة في كلية طب الأسنان بجامعة إدلب الحرة، وإنها لاحظت أن لديّ سن مكسور من الأمام، وستتكفل بعلاجه لي مجاناً في الجامعة، لكني رفضت عرضها، خاصةً أني أعلم أن هؤلاء الطلاب يبحثون عن أشخاصٍ لديهم مشاكل في أسنانهم ليقوموا بعلاجها كنوعٍ من التدريب، فليس لديهم أي خبرة، وقد يرتكبون بعض الأخطاء خلال علاج أسنان المرضى”.
حلول إسعافية
الغلاء الفاحش في عيادات الأسنان الخاصة، والضغط الكبير على المراكز المجانية، دفع كثيراً من الأشخاص الى استعمال المسكنات والمضادات الحيوية لتخفيف الآلام من حينٍ إلى آخر.
“منصور شيخ تلت” من قاطني مخيم الشيخ بلال في ناحية راجو بعفرين، حاله كحال أغلب النازحين، لا يملك تكاليف علاج أسنانه، لذلك يلجأ لبعض الوصفات الطبيعية للتخفيف من أوجاعه.
يقول شيخ تلت “أقوم بالمضمضة بالماء الساخن والملح بشكلٍ منتظم، فهي من الطرق التي تساهم في تهدئة ألم الأسنان واللثة، وأحياناً استخدم القرنفل أو الثوم، عبر فركها فوق المنطقة المصابة، كما قرأت مؤخراً أن الكمادات الباردة أو أكياس الشاي بنكهة النعناع، مفيدة أيضاً في تسكين أوجاع الأسنان”.
في المقابل بعض المرضى يحاولون تحمّل الوجع لحين قدوم دورهم في المراكز المجانية لعدم قدرتهم على زيارة العيادات الخاصة، وهناك من فقد كل أسنانه بسبب عدم علاجها، ولجأ إلى استخدام البدلة، والبعض الآخر يواظب على استخدام المسكنات، ولا يتوجه للعيادات السنية إلا بعد فقدان الأمل بالتسكين الدوائي.
وآخرون لم تكن لديهم القدرة حتى على شراء بدلة الأسنان، مثل حال الحاج أبو ياسر والذي قال: “فقدت كل أسناني، فلم أكن قادراً على علاجها أو استخدام البدلة، لذلك أمضع الطعام الخفيف عبر اللثة، أما الطعام الذي يحتاج أسناناً قوية، اضطررت للاستغناء عنه، لذا أغلب طعامي يعتمد على الشوربات والخضار المطبوخة”.
أمام هذا الواقع يناشد الأهالي بضرورة زيادة العيادات السنية المجانية، أو افتتاح معامل في الشمال السوري لإنتاج المواد السنية، على أمل أن يساهم ذلك في انخفاض أجور العيادات الخاصة، وممارسة رقابة شديدة على تلك العيادات لضبط الأسعار وملاحقة المتعدّين على المهنة، وإلا سيفقد الناس أسنانهم واحداً تلو الآخر، الى أن يصبحوا مثل مولودٍ جديد بلا أسنان.