“أصبحت شبه خالية من سكانها”، هكذا وصفت وكالة أسوشيتد برس الأميركية في تقريرٍ لها الشهر الماضي، الواقع الذي وصلت إليه مدينة الرقة، بسبب ما وصفته بالهجرة الجماعية نتيجة الأوضاع المعيشية والأمنية المتدهورة التي يعيشها السكان، رغم مرور خمس سنوات ونصف السنة على سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المدينة.
ذكرت أسوشيتد برس أن الرقة التي كانت ساحة حربٍ ضخمة قبل بضع سنوات، ما زالت تعيش حتى اليوم مشاكل معيشيةٍ وفقر كبير، ما جعل عشرات العائلات ترحل منها بشكل جماعي، ومن تبقى من الأهالي يحاولون بيع ممتلكاتهم لتوفير المال للهجرة إلى بلدان اللجوء، أما الفقراء فيكافحون من أجل البقاء.
خلال عام 2021، غادر الرقة نحو ثلاثة آلاف شخص إلى تركيا، وفق ما قاله رئيس مجلس الرقة المدني، لـ أسوشيتد برس، مشيرةً إلى أن الإدارة الذاتية المسيطرة على المنطقة، تلقت طلبات من حوالي 27 ألف شخصاً يبحثون عن عملٍ خلال العام الفائت، بينما دفع العجز عن تأمين فرصة عمل العديد من الشباب للانضمام إلى خلايا تنظيم داعش في المنطقة، هربًا من الفقر.
يقول الناشط الإعلامي أحمد الصالح من نازحي الرقة: “غادر الرقة عدد كبير من سكانها الأصليين، بينما تشهد المدينة زيادة في أعداد السكان، غير المحليين، القادمين من مناطق السبخة، تدمر، أو النازحين من مناطق غصن الزيتون بسبب تأييدهم للوحدات الكردية، فضلاً عن تواجد مدنيين فيها من مناطق النظام، ما يعني أن المدينة تحتضن اليوم 50% من القادمين من مناطق أخرى، و50% من قاطنيها المحليين”.
وأضاف الصالح لفوكس حلب أن “أغلب من غادر الرقة هم من الشباب، الذين اتجهوا إلى تركيا وأوروبا، أو كردستان العراق، بسبب صعوبة المعيشة وغياب فرص العمل والأمان والحريات، والهروب من التجنيد الإجباري والاعتقالات، ومتابعة الدراسة، وسوء الوضع الخدمي، إلى جانب الخوف من سيطرة الأسد على الرقة، بعد الحديث عن احتمال تسليم قسد المدينة للنظام”.
هجرة الأهالي من الرقة في الغالب، تكون عن طريق مسارات برية غير رسمية إلى شمال الرقة، ومن ثم إلى تركيا أو مناطق الشمال السوري بريفي حلب وإدلب، حيث يدفع الأشخاص مبالغ باهظة تصل لـ 1500 دولار للمهربين لإخراجهم من مناطق “قسد”، وهناك من يتجه إلى “كردستان العراق” بشكلٍ رسمي عن طريق معبر “سيمالكا”.
فوضى أمنية ترهق السكان
أفادت وكالة “أسوشيتد برس” أن الفقر ليس المشكلة الوحيدة في الرقة، بل هناك مشاكل أخطر تتمثل بتزايد عمليات الخطف مقابل فدية.
يقول أبو جاسم من سكان حي الرميلة في الرقة: “الوضع الأمني غير مستقر أبداً، لا نجرؤ على الخروج ليلاً خوفاً من الخطف والسرقة، والمثير للقلق أن بعض الحالات تحدث علناً في وضح النهار، ففي الشهر الماضي أقدم شخصان يستقلان دراجة نارية على سرقة محفظة زوجتي وقت الظهيرة، وفي نهاية العام الماضي خطف ملثمون طفلاً من عشيرتنا من أمام مدرسة، ولم يُطلقوا سراحه إلا بعد دفع ذويه 50 ألف دولار للخاطفين”.
وذكرت “شبكة الخابور المحلية“، أن مدينة الرقة تشهد تزايداً في حالات الخطف والتشليح العلني في الشوارع، وسط إهمالٍ متعمد من قبل مليشيا “ب ي د”، آخرها مقتل إمرأة في حي “ذات الصواري” بمدينة الرقة، بعد أن تعرّض منزلها لسطوٍ مسلح من قبل مجهولين وسرقة ذهبها.
في نيسان من العام الماضي، قُتل ثلاثة أشقاءٍ على يد مجهول، استدرجهم بحجة مساعدته بتحريك زورق صيد في بحيرة سد الفرات بريف الرقة الشمالي، فقام بإطلاق النار عليهم وقتلهم مباشرةً، وفي ذات الشهر قُتل رجلٌ وزوجته على يد مجهولين خلال تواجدهما بمزرعة قرب السجن المركزي القديم شمال مدينة الرقة.
بدوره أوضح الناشط الإعلامي أحمد الصالح، أن “ما يزيد الوضع تعقيداً في الرقة، هو الصراع العشائري الذي تتعمّد قسد تحييد نفسها عنه، دون أن تبذل جهداً كافياً لتطويق هذه الخلافات منذ بدايتها، ما يؤدي إلى سقوط قتلى وجرحى من المدنيين، حيث أن أي مشاجرة صغيرة بين شخصين تتأجج وتتحوّل إلى خلافٍ عشائري، فقبل أيام عادت مشكلة بين عشيرتين للاشتعال من جديد، بعد احتواء الخلاف قبل سنة، حيث قامت قسد بإعادة إشعال فتيل الفتنة بين الطرفين”.
الاعتقالات مستمرة في الرقة بغرض التجنيد الإجباري، أو لأسبابٍ أمنية بتهمٍ واهية، حيث ما تزال الوحدات الكردية تسوق الشبان بين سن 18-25 إلى الخدمة العسكرية، إذ يخضعون لتدريبٍ من ستة أشهر لسنة، ومن ثم يتم إشراكهم في معارك هم بغنى عنها.
وأشار الصالح إلى أنه “رغم اعتراض الكثير من وجهاء العشائر المطالبين بالحد من التجنيد الإجباري لكن بلا جدوى، لدرجة أن الموظفين يتم إجبارهم أيضاً على الخدمة العسكرية، تحت طائلة الفصل من الوظيفة في حال لم يلتحقوا”.
إهمال وخدمات شبه معدومة
يعيش أهالي الرقة واقعاً خدمياً مزرياً، فالكهرباء لا تعمل سوى لساعتين إلى أربع ساعات طوال اليوم، مقابل رسوم جباية تبلغ 10 آلاف ليرة كل شهرين.
انخفاض ساعات التشغيل، يضطر الأهالي للجوء الى الأمبيرات، ويبلغ سعر الأمبير 3000 -4500 ليرة سورية بحسب الأحياء، وتعمل من الساعة 12 ظهراً حتى 12 ليلاً، لكن أصحاب المولدات لا يلتزمون بساعات التشغيل المحددة.
وضع المياه في الرقة أشد سوء من الكهرباء، حيث أن ثلث أحياء مدينة الرقة لا تأتيها مياهٌ نظيفة، ولاسيما أحياء الرميلة، الدرعية، والأحياء العشوائية في أطراف المدينة بالقرب من الفرقة 17 ومعمل السكر وسوق الغنم، حيث أن سوء شبكات المياه أدى الى تسرب مياه الصرف الصحي اليها.
واقع المياه يزداد سوء في المناطق الريفية لاسيما في الريف الشرقي، ويعود ذلك إلى أن عمليات الصيانة لمحطات وشبكات المياه شبه متوقفة منذ عام 2020.
يقول حسين (45 عاماً) من أهالي حي الدرعية لفوكس حلب: “منسوب ضخ المياه يكون جيداً في الليل، بينما يصبح الضخ ضعيفاً جداً في فترات النهار، كما أن البيوت التي تقع في الطوابق المرتفعة، تحتاج مضخة لسحب المياه، وهذا الأمر يتطلب توفر الكهرباء، ما يُجبر كثيراً من الأهالي على شراء المياه من الصهاريج، وبنفس الوقت نعاني من سوء شبكات الصرف الصحي، ونضطر لدفع الأموال لتنظيف الشبكات المسدودة “.
ويعزو “مجلس الرقة المدني” التابع “لقسد” أزمة المياه، لانخفاض منسوب نهر الفرات في أماكن تركيب محطات ضخ المياه، إضافة لاتهام الأهالي بعدم ترشيد استخدام المياه، الأمر الذي يحرم بعض الأحياء منها.
كما يشتكي سكان الرقة من رداءة الخبز ونقص كمياته، يضيف حسين: “الخبز سيء جداً ولا يصلح للدواب، بسبب خلط مادة الذرة الصفراء مع الطحين، ونعاني كثيراً في الحصول على ربطة الخبز، إذ نضطر للانتظار عدة ساعات أمام الفرن، بسبب قلة مخصصات الطحين في الأفران”.
وعبّر حسين عن استيائه، من تركيز “المجلس المدني” التابع لقسد على مشاريع ثانوية، كتنظيف الحدائق العامة وترميم الأرصفة والدوّرات، وإهمال الخدمات الأساسية، مضيفاً “لم نعد نطيق هذا الواقع، ونطمح للخروج من البلد في أقرب فرصة، لكن لا نملك التكاليف اللازمة”.
ويبلغ سعر ربطة الخبز ألف ليرة سورية وزن كيلو غرام، لكن حسين يقول: إنه “في بعض الأحيان ينفد الخبز من الفرن، فنضطر لشرائها من السوق السوداء، حيث تباع الربطة بـ 1500 ليرة، وأحياناً يضطر البعض لشراء خبز سياحي يصل سعر الربطة لـ 2500 ليرة، وهي مبالغ باهظة لمن لديه عائلة كبيرة”.
واقع طبي مزر
ليس القطاع الطبي أفضل حالاً من باقي القطاعات، ويشتكي الأهالي من غلاء أسعار العمليات والأدوية، يقول يونس الموسى (اسم مستعار). طبيب في إحدى مشافي الرقة، فضّل عدم ذكر اسمه: “أسعار العمليات مرتفعة في الرقة مقارنةً مع مناطق أخرى تسيطر عليها قسد، وقد تكون أغلى بضعفين أو ثلاثة من القامشلي على سبيل المثال، ويعود السبب إلى وجود منظمات فعّالة على الأرض أكثر في القامشلي تدعم القطاع الطبي، بينما تواجدها ضئيل في الرقة، نظراً لغياب الاستقرار الأمني”.
ويشتكي سكان من الرقة ممن التقيناهم، من قلة الكوادر الطبية مقارنةً بأعداد السكان والنازحين في الرقة، إضافةً إلى إنتشار الإهمال والفساد والمحسوبيات.
وفي تشرين الأول الماضي، توفي الشاب عمار الحلبي (27 عاماً) نتيجة خطأ طبي، خلال إجراء عملية جراحية في مستشفى “الرسالة” في الرقة، واتهم بعض سكان المدينة الكادر الطبي المشرف على الشاب بالتقصير والإهمال.
وانتقد الموسى غياب الإجراءات الوقائية من كوفيد 19 المتخذة من قبل الإدارة الذاتية في الرقة، وهناك حالات وفاة كثيرة بالكورونا، بسبب غياب أجهزة التنفس والمعدات اللازمة للعلاج.
سوء القطاع الطبي في الرقة، انعكس أيضاً على واقع الأدوية والمستلزمات الطبية، التي تشهد ارتفاعاً كبيراً، بسبب رفع الضرائب الجمركية على الواردات للرقة من مناطق سيطرة النظام، ففي السابق كانت الضرائب تُفرض على السيارة بشكلٍ كامل بمبلغ مقطوع يشمل كل ما فيها، لكن حاليًا تدقق حواجز النظام عدد الصناديق والعبوات بناءً على فاتورة الشراء ويتم جمركتها.
كما تفتقر الرقة لأجهزة مخبرية مختصة بتحليل الدواء والتأكد من فاعليته أو مدى صلاحيته وقيمته الدوائية، وتقتصر إجراءات السلامة الدوائية على مراقبة مدة الصلاحية والتركيبة الموجودة على غلاف علبة الدواء.