درجة الحرارة اقتربت من تسع درجات تحت الصفر، الثلج غطّى المكان وأخفى ملامح الطريق إلى مزارع التفاح في رنكوس التي يحفظها الستيني أبو خالد من سكان البلدة في القلمون الغربي بريف دمشق، عن ظهر قلب، ويستدل عليها من قطع الجليد المتشكلة أمام منزله.
الطريق المؤدي إلى مزارع التفاح في رنكوس، ومنها مزرعة أبي خالد، سالك بصعوبة، منذ آخر “موجة برد” في كانون الثاني.
قصدها لإحضار ما تبقى من حطب أشجار التفاح اليابسة من حقله واستخدامها في المدفأة، بعد أن أوقد آخر قطع الصناديق الخشبية التي كان يجني فيها موسم التفاح في الأعوام السابقة، يقول “لم تعد هذه الصناديق الخشبية تنفع إلا للحرق مثل باقي قطع الحطب، الأشجار يبست وحطبت تدريجياً على مدى السنوات السبع الماضية من قبل عناصر النظام السوري التي سيطرت على البلدة في 2014”.
يحتاج أبو خالد نحو ربع ساعة في السيارة للوصل إلى مزرعته، تلك المسافة المقدرة بعشرة كيلومترات تفضل مزارع التفاح في رنكوس عن بيوت أصحابها.
بعد المسافة دفعهم لبناء بيوت صغيرة داخل المزارع يستغلونها خلال موسم القطاف وأشهر العناية بالأشجار خلال فصل الصيف، ويعودون إلى منازلهم شتاء في انتظار موسم جديد يبدأ في أيلول من كل عام.
حواجز الفرقة الثالثة تفرض قوانينها على سكان رنكوس
رحلتا الشتاء والصيف إلى مزارع التفاح في رنكوس باتت محصورة بأوقات محددة، منذ عام 2014، وبعد سيطرة النظام السوري بمساعدة حزب الله اللبناني على البلدة، كونها منطقة حدودية مع لبنان، ووضع عدة حواجز عسكرية على مفارق الطرق الرئيسية للبلدة.
إذ أقامت الفرقة الثالثة حاجزاً في بناء مشفى رنكوس الذي لم يكتمل بناؤه منذ نحو عشرين عاماً، وحوّلته إلى ثكنة عسكرية ومستودعاً لخزن الحطب المسروق من الأراضي المجاورة له، بحسب شهادة كثر من أهالي البلدة.
يتحكم رجال الحاجز بذهاب وعودة الأهالي إلى مزارعهم صيفاً، ويفرضون الحصول على موافقة “إذن” لذلك، مع الالتزام بساعات محددة تبدأ من السادسة صباحاً وتنتهي قبيل غروب الشمس.
ركن أبو خالد سيارته “البيك اب” بعيداً عن مزرعته، فأكوام الثلج جعلت وصولها لقرب المنزل مستحيلاً، بعد وضع بطاقته الشخصية عند عناصر الحاجز، كإجراء دائم يقوم به المزارعين حين ذهابهم لأراضيهم، مع التأكيد عليهم بالعودة قبل غياب الشمس.
ترجل من سيارته، ومشى رفقة أخيه، وبحوزتهما أكياس من الخيش لوضع قطع الحطب فيها. جرّا أقدامهما بخطوات ثقيلة، غاصا في الطين والثلج قبل أن يصلا إلى البيت الفارغ، جالا ببصرهما في المكان، يقول إن الذاكرة أعادته إلى أيام كان المنزل عامراً بصناديق التفاح الغائبة في العام الحالي بعد أن تحوّلت أشجاره إلى حطب.
نتدفأ على بقايا أشجارنا
برودة الطقس زادت من استهلاك الحطب الذي نفد من منزل أبي خالد ومزارعين في البلدة إنه “ورغم موجة الصقيع والبرد وتراكم الثلوج، كان لابد من الذهاب إلى المزرعة وإحضار الحطب، فلا قدرة لي على الشراء بعد أن تجاوز سعر الطن حاجز 800 ألف ليرة سورية، وأنا على هذه الحال منذ عدة سنوات أقطع أشجار التفاح المتيبسة من حقلي وأحرقها في المدفأة بيدي، بعد أن كانت أغلى ما أملك”.
أبو خالد واحد من عشرين ألف نسمة يعيشون في رنكوس، نصفهم يعمل بالزراعة ويملك أراض زراعية، حرم أكثرهم من استثمار أراضيهم وزراعتها منذ سيطرة النظام عليها، بينما هجرت منها أكثر من مئتي عائلة إلى الشمال السوري، من بينهم أولاد أبو خالد الستة”.
الكيلو عوضاً عن الطن
ليس بعيداً عن حقل أبي خالد، يعيش المزارع أبو ياسر، والذي أمضى أعوامه الستين في مزرعته بسهل رنكوس، أحداثاً مشابهة، غير أن الأشجار لا تعني له مصدر رزق فحسب، بل هي أرواح زرعها بيده، حسب قوله، اعتنى بها مثل أولاده، يقول “زرعت نحو مئة شجرة تفاح، وحفرت بئراً لسقايتها وسط الحقل، وبنيت غرفتين صغيرتين أمضي بهما مع عائلتي أشهر الصيف، نعتني بالمزرعة، ونأكل من طيباتها وفاكهتها التي حرمنا منها منذ سبع سنوات، اليوم أنا اشتري التفاح بالحبة بعدما كنت أبيع كل عام نحو طن ونصف الطن من التفاح”.
حال أبو ياسر لخص مشكلة مئات المزارعين في البلدة الذين كانوا يعتمدون على حقولهم كمصدر دخل، قبل أن تتحول إلى أراض جرداء قاحلة تتوزع فيها جذوع الأشجار والأشواك البرية.
يكتفي أبو ياسر بزيارة مزرعته في أوقات متقطعة، يقول إن الحسرة تملؤه كلما وصل إلى هناك واستعاد صورة الأشجار التي قطعت أمام ناظريه.
وفق تقدير الأهالي، تنتج مزارع التفاح في رنكوس، نحو خمسين ألف طن سنوياً من التفاح، انخفض في العام الحالي إلى الربع، نتيجة اققطع عدد كبير من الأشجار، ويباس القسم المروي من التفاح، إضافة لمنع الأهالي من العودة إلى حقولهم والعمل بها.
يقول الأهالي إن أراض “الجرد” البعلية، وهي أراض بعلية، هي الوحيدة التي نجت من الجفاف وتحطيب حواجز النظام لأشجارها والرعي الجائر، واستفاد أصحابها من موسم التفاح الحالي.
توضح إحصائية نشرتها وزارة الزراعة في حكومة النظام انخفاض إنتاج التفاح بين عامي 2010 و2019، وقدرته بثلث الكمية تقريباً، وكانت محافظة دمشق من أغنى المحافظات السورية بإنتاج التفاح إذ تزيد المساحة المزروعة فيها عن 13 ألف هكتاراً.
لا تتوفر إحصائية عن عدد الأشجار وكميات الإنتاج في بلدة رنكوس، لكن الإحصائية السابقة تشمل محافظة ريف دمشق والتي تحوي عدداً من المناطق التي تشتهر بزراعة التفاح، أجودها التفاح الرنكوسي الشهير في الأسواق السورية والعربية.
نعيش من بيع الأراضي لا مواسمها
عجز أبو ياسر، مثل كثير من فلاحي البلدة، عن العمل مجدداً في أرضه لعدم تمكنه من الإقامة فيها واستصلاحها، ما جعله يبيع نحو نصف أرضه لتأمين مبلغ يمكنه من زراعة القسم الآخر، يقول “تحتاج الأرض لعشرات السنين، ومبالغ مالية كبيرة، وشباب بهمة عالية لتعود إلى ما كانت عليه، أكثر من مئتي شجرة مثمرة، كانت كفيلة بإنتاج عشرة أطنان من التفاح، بشكل تقريبي، لو لم تقطع وتسرق”. بينما بقي أبو خالد متمسكاً بأرضه، يقول إنه لن يبيع شبراً منها، وإنه ينتظر عودة أبنائه لزراعتها من جديد.
تركت السنوات الماضية أثراً واضحاً على مزارع التفاح في رنكوس، خاصة المروية، وتحولت إلى أراضٍ قاحلة، فيها بقايا أشجار متكسرة، يؤكد الرجلان اللذان تحدثنا معهما، أن تلف المزارع كان تحت إشراف عناصر الفرقة الثالثة المتمركزة عند “حاجز المشفى”، هم من احتطب الأشجار، وردم الآبار الجوفية التي لا يخلو حقل منها، وسرقوا أنابيب الري، والأدوات الزراعية، وأثاث المنازل، وأصبح التفكير بالعودة إلى الأرض وتجهيزها مجدداً يحتاج مبالغ كبيرة، كما أن الذهاب اليومي من البلدة إلى السهول بات مكلفاً أيضاً.
يقول أبو خالد ، “كل شيء يمكن تعويضه وشراؤه إلا قتل الأشجار، آلاف الدونمات قطعت من البساتين، كانت خضراء مثمرة، تمثل ثروة بلد كامل، وكنا نفخر بالتفاح الرنكوسي بأنواعه المتعددة وألوانه الأحمر والأصفر، وكأنه ماركة مسجلة باسمنا”.
ما سلم من التحطيب أكلته الماشية
بجوار مزرعة أبي خالد، ثمة أشجار متفرقة في الحقل سلمت من منشار الحطب، لكنها لم تسلم من الرعي الجائر، بعد احتلال قطعان الأغنام لجميع الحقول، والقضاء على ما تبقى من شجيرات مثمرة.
يخبرنا أبو خالد أن “عدداً من مربي الماشية انتشروا في جميع المزارع دون رادع من أحد، بعد السماح لهم من قبل ضباط الحاجز بالإقامة والرعي حيث يريدون، مقابل مبالغ مالية يدفعها الراعي لهم كل عام”.
وحدة الخزن والتبريد مع وقف التنفيذ
قبل مغيب الشمس، جمع أبو خالد وأخوه خمسة أكياس من قطع الحطب والأغصان المتكسرة وبقايا الجذور اليابسة، وأسرعا إلى البلدة قبل أن تتشكل طبقات الجليد على الطرقات، فتحول دون عودتهم إلى المنزل وسط البلدة، الحرارة المنخفضة سمة في رنكوس، يشرح أبو خالد “منازل الحقول كانت أشبه بخزان تبريد يحفظ الفاكهة دون أن تفسد، ففي كل مزرعة كان يُخزن الموسم بعد قطافه في نهاية شهر أيلول، ضمن صناديق بلاستيكية كبيرة، توضع فوق بعضها البعض ضمن غرف البيوت التي تحفظها لعدة أشهر، بسبب درجة الحرارة المنخفضة، تحت الصفر دوماً، ثم يتم إرسالها إلى السوق لبيعها بأفضل سعر، إد يتراوح سعر كيلو التفاح في آخر الموسم، بين ألف إلى ألفي ليرة سورية، حسب نوع وجودة التفاح بينما يرتفع سعرها حين تنزل إلى السوق في وقت متأخر.
في العام الماضي، تحدثت وسائل إعلام النظام ولاسيما جريدة البعث عن إنشاء وحدة خزن وتبريد في رنكوس كمكرمة من “القيادة الحكيمة” للمزارعين، بتمويل 75 مليون ليرة سورية منتصف العام الماضي، غير أن المبنى ما يزال قيد الإنشاء، يقول أحد الأشخاص المطلعين على بناء المشروع، رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن “المبنى أقيم على أرض تبعد عن البلدة نحو مئتي متر، على مساحة 300 متر مربع، كان المخطط لبناء مبنى من أربعة طوابق، أنجز منها طابق واحد فقط ما يزال على “العضم” أي غير مكتمل التجهيز والإكساء، ولم يدخل مرحلة العمل ووضع الفاكهة فيه عكس ما روجت له وسائل إعلام النظام.
أثار مشروع بناء البراد بهذه المساحة الواسعة، استغراب الأهالي، إذ من المفرض أن يتسع لنحو60 ألف طن من الفاكهة، في الوقت الذي لم يصل إنتاج التفاح العام الماضي إلى ربع هذه الكمية حسب تقدير الأهالي، معظمه كان من الأراضي البعلية “الجرد” التي لم تصل إليها قوات النظام وتقطعها كما حدث في مزارع السهول المروية.
يقول أبو خالد إن “من عادة النظام البدء بمشاريع، ثم التوقف عن إكمالها دون معرفة السبب، مثل “المشفى” الذي بني منذ عشرين عاماً وما يزال إلى اليوم دون إكساء، وانتهى به المطاف إلى ثكنة عسكرية لعناصر النظام! وكذلك حال براد التخزين الذي بدئ بإنشائه لتخزين الفواكه بعد القضاء على أشجار المنطقة والثروة النباتية فيها.
انتقد عدد من المزارعين هذا المشروع، قالوا لو استخدمت تكلفة المشروع في تركيب طاقة شمسية لضخ المياه للبلدة التي تعاني من شح في وصول المياه إلى المنازل بسبب انقطاع الكهرباء شبه الدائم عنها كان أفضل من وحدة التبريد.
بين حواجز الفرقة الثالثة وشح المياه والموافقات الأمنية يغيب التفاح الرنكوسي عن الأسواق، يغيب معه أصحابه الباحثين عن لقمة عيش بعد أن تحولت مزارعهم إلى عبء وذاكرة.