على باب أحد مستودعات الأدوية في جنوب لبنان، وقفت أم سيف (لاجئة سورية) رفقة لبنانيين و سوريين يبحثون عن علبة دواء بعد أن نفدت أغلب من الأدوية من الصيدليات، وأخفي قسم منها لحين رفع الدعم الكلي عن الدواء، وسط أزمة غير مسبوقة يعيشها لبنان منذ أشهر.
قصدت أم سيف المستودع بعد يوم من مداهمته من قبل فريق وزارة الصحة وعلى رأسهم الوزير، وأظهر فيديو(المداهمة) أن المستودع يحوي مئات الزمر الدوائية المفقودة، وامتلأت وسائل التواصل بشائعات تقول إن الوزارة ستوزع الأدوية غداً على المواطنين أما باب المستودع وبالسعر المدعوم عقاباً لصاحبه.
لم يحصل المجتمعون أمام باب المستودع على أدويتهم، كانت أيديهم فارغة إلا من وصفة طبية تسلّحت، أم سيف، بواحدة منها لتحصل على علبة دواء الصرع الذي يلازم ابنها سالم منذ ولد، أغلب الأحاديث دارت بين المنتظرين عن أزمة الدواء والمحروقات والكهرباء، وكيف أخفى من أسموهم “حيتان الدواء” الأدوية لحين رفع الدعم، وابتلاع أموال طائلة كصاحب هذا المستودع، وكيف حوّلوا الصيدليات إلى محلات لبيع مواد التنظيف والمعقمات أكثر من الأدوية.
دار النقاش بين المجتمعين عن الدواء السوري المهرّب إلى لبنان وأماكن وجودها واختلفوا على جودتها وإمكانية استخدامها. وحدها المخيمات الفلسطينية والقرى الحدودية من امتلكت تلك الأدوية وخبرة إخفائها عن السلطات، لكن من يشتري دواء سورياً؟ أهو مطابق للمواصفات؟ ماذا إن كانت قد انتهت صلاحيته وزورت علبه؟
تحدث المجتمعون نقلاً عن مسؤؤلين في قطاع الصحة عن تأثير الدواء السوري المهرّب سلبياً على الاقتصاد المحلي، كذلك إمكانية دخول أدوية مزورة من بلد المنشأ، يضاف إلى ذلك طرق نقله وحفظه المخالفة للتعليمات والمواصفات، من سيجرؤ على شراء دواء مزور ومهرب؟ آخرون قالوا “إن المريض بحاجة إلى دواء أياً كان نوعه، وبالتالي الحصول على دواء أفضل من لا شيء”.
مضت أكثر من ثلاث ساعات، وأم سيف ما تزال متسمّرة في مكانها أمام الأبواب الحديدية والعالية للمستودع، تنتظر من يأتي ليزيل عنها الشمع الأحمر ويفتحها، ما كان يريح السيّدة السوريّة أنها رأت علبة دواء ابنها في الفيديو، وقتها قال الوزير لصاحب المستودع بلهجة استنكار” لديك يا حاج 500 علبة تكفي لـ500 روح”، “وابني سالم إحدى تلك الأرواح” قالت وهي تحدّث نفسها.
أحد الواقفين، لبناني يعمل في الحدادة، تحدث عن توفر أدوية سورية متنوعة داخل مخيم عين الحلوة الفلسطيني، قال إنه من النادر، سابقاً، أن يشتري تلك الأدوية رغم فارق السعر الكبير عن غيرها من الأدوية في لبنان، فهو لا يثق بفعالية الدواء السوري المهرّب ويشك بمدة صلاحيته، لكنه كان يلجأ إلى صيدليات المخيم لشراء أنواع مجربة من الأدوية، مثل بلسم الآلام، أو تلك التي لا يوجد لها شبيه لبناني أو مستورد، كقطرة (دلتاكائين).
التقت أم سيف كلام الرجل و قررت أن تقصد عين الحلوة، خاصّة بعد أن أخبرهم موظف الوزارة الذي أطل عليهم من شبّاك سيارة دفع رباعي أن أدوية المستودع ستوزع على الصيدليّات وبالسعر المدعوم في وقت لاحق.
علبة دواء خلف الجدار
منعت أم سيف من دخول المخيم دون تصريح، يمنح من ثكنة مخابرات الجيش في مدينة صيدا، وهو ما يصعب الحصول عليه بسبب إقامتها منتهية الصلاحية، ولأنها لا تملك واسطة ” ثقيلة”، على حد قولها.
تروي أم سيف كيف تعرض ابنها سالم لنوبتي صرع، نتيجة تقليل عدد الجرعات من دوائه convulex300 بغية إطالة عمر الدواء، لحين تأمين علبة أخرى، وعند انتهائه تعرض لنوبة ثالثة كادت أن تنهي حياته.
“دخلت المخيم من دون تصريح، أوراقي منتهية وسالم لم يعد يحتمل الانتظار أكثر من ذلك، استغليت الزحمة ونطقت برقم المرأة التي كانت أمامي، وقرأ آيات تيسير الطريق”. تضحك لتقول مجدداً ” قرأت القرآن ثم كذبت، نحن الأمهات نفعل كل شيء لأجل أولادنا”.
“اسألي جاري”، كان جواب أول صيدلية تدخل إليها أم سيف، ما دفعها للانتقال إلى صيدلية على بعد 5 أمتار من الأولى، إذ لا يوجد قانون يحدد المسافة بين الصيدليات داخل المخيم. المسافة هي 300 متر خارج عين الحلوة بحسب القانون اللبناني، لكن ذلك يصعب تطبيقه في مخيم لديه شارعان رئيسيان فوقاني وتحتاني لا يزيد طولهما عن 1كم، ولا تزيد المنطقة الحيوية فيهما عن 500 متر بحسب أحد الصيادلة.
في الصيدلية المجاورة لم تجد أم سيف علبة الدواء ذاتها، أخبرها الصيدلاني عن بديل سوري المنشأ، وبالتركيبة العلمية ذاتها ” استغرب الصيدلاني كمية الفرح التي بدت على وجهي حين وجدت الدواء، ورحت أحكي له عن ساعات وأيام قضيتها وأنا أبحث عن علبة لسالم، اكتملت فرحتي بعد أن انتزعت منه قسماً يؤكد أن هذا الدواء سيعطي النتيجة ذاتها، وهو غير مزور أو منتهي الصلاحية، أعطاني علبة واحدة لمحدودية الكمية، لكنه وعد بإعطائي علبة دواء مطلع كل شهر”.
حاولت أم سيف أن ترسم خارطة ذهنية لصيدليات الشارع التحتاني والفوقاني من المخيم خلال أسئلتها للمارة، ما لفت انتباهها حضور الدواء السوري وبكميات كبيرة مقابل تواجد خجول للأدوية اللبنانية والأجنبية على رفوف الصيدليات، إضافة إلى اختلاف أسعار الدواء بين صيدلية وأخرى.
هذا الاختلاف جعل أم سيف وغيرها ممن يشترون الدواء السوري المهرّب كأحمد، وهو سوري مقيم في المخيم، يلجؤون إلى تسعير الدواء في أكثر من صيدلية للحصول على أفضل سعر، خاصة أن لديه مرضاً مزمناً وهو السكري والضغط، وزوجته لديها تقرحات معدية وبحاجة إلى أدوية حماية المعدة دائماً.
لا يتعامل أحمد مع صيدلية معينة، يقول “اشتريت دواء السكري والضغط وحماية المعدة من ثلاث صيدليات مختلفة، إذ وجدت أن الفارق مثلاً في سعر دواء حماية المعدة بين الصيدليات 45 ألف ليرة لبنانية أي ما يعادل 2 دولار تقريباً”.
يرجع الصيدلاني علي زرادة ( اسم مستعار) التفاوت في الأسعار إلى تعدد مصادر الأدوية واختلاف أسعارها هي الأخرى، وتغير سعر صرف الدولار بين يوم وآخر، وأجرة تهريبها إلى لبنان، إضافة إلى غياب الجهات المسؤولة عن مراقبة وضبط سعر الدواء في المخيم.
“راشيتّا” بالعربي
في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي نشرت جريدة النهار اللبنانية قائمة بالأسعار الجديدة للأدوية بعد رفع الدعم الجزئي عن الأمراض المزمنة إلى جانب الأدوية الأخرى، وصنف الدعم في ثلاث شرائح: الأولى هي ما يقل سعرها عن 5,3 دولار ومدعومة بنسبة 25%، والثانية بين 5,3 و 10,7مدعومة بنسبة 45%، والثالثة بين 10,7و 52,5 وهي مدعومة بنسبة 65%.
فمثلاً دواء convulex300 الخاص بسالم ابن أم سيف ارتفع سعره من 21 ألف إلى 102 ألف، والبديل السوري منه بـ 40 ألف، ودواء arbetin يعطى لارتفاع ضغط الدم ارتفع ثمنه من 18 ألف ليرة إلى 126 ألف ليرة لبنانية.
رسمياً ومنذ أربعة أشهر أرسل وزير الصحة في حكومة النظام السوري رسالة إلى وزير الصحة السابق في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية يعرض الأول فيها استعداد دمشق إمداد لبنان باحتياجاته من الأصناف الدوائية التي يتم تصنيعها في سوريا. إلا أن وزارة الصحة اللبنانية شكرت جهود الوزير السوري وقالت في بيان لها إن استيراد أي دواء يسلك المسار التقني والإداري وفق المعايير والقوانين المرعية الإجراء.
مع ذلك يقول الصيدلاني اللبناني معين المهايني، وهو مالك لأكبر صيدليات مدينة صيدا، إن الدواء السوري لم يصل إلى رفوف الصيدليات اللبنانية، ” استيراد الدواء من سورية بحاجة إلى اتفاق سياسي بين كل الأطراف اللبنانية، خاصة أن هناك عقوبات على النظام السوري طالت قطاع الدواء، ولبنان لم يعد يحتمل مزيداً من اللطمات وغضباً دولياً جديداً عليه”.
بعد رفع الدعم الجزئي عن الدواء ما تزال أصناف كثيرة من الزمر الدوائية مفقودة، كدواء سالم المستورد، “وجود دعم يعني وجود احتكار” هكذا قال صيادلة تحدثنا معهم، “الموجود من الأدوية ارتفع ثمنه من عشرة إلى خمسة عشر ضعفاً”. أمام هذا الواقع ما يزال الدواء السوري المهرّب رحمة لعدد من المرضى الذين تحدَثنا إليهم، ذلك لانخفاض سعره مقارنة بالأصناف الأجنبية، ولتوافره.
توسعت حلقة دخول الأدوية السورية المهربة بعد إضافة الأمراض المزمنة والسرطانية ومميعات الدم والمعقّمات بعد أزمة الدواء المفقود والتي بدأت في أواخر 2020، قبل ذلك الوقت لم تكن صيدليات المخيّم تحوي أكثر من قطرات وحبوب مسكنة ومضاد حيوي ومراهم.
يروي المهندس اللبناني وفيق عبد الله كيف أصبح شكل جلده منفّراً بسبب الصدفية التي أكلت جسده، ونفاد أدويته من الصيدليات، ما دفعه للتوجه إلى عين الحلوة “اشتريت ثلاث علب دواء سوري بسعر أقل من علبة من دوائي القديم، وبنفس الفعالية”.
سوريون آخرون قالوا إنهم يشعرون براحة نفسية لدى تناول حبة دواء سورية، ومنهم أبو عمر ( 55 سنة) مريض الروماتيزم الذي استغنى عن دوائه prednisone واستبدله بدواء سوري المنشأ، predlone، وmethotrexate بآخر ebetrexzt من سورية.
يقول أبو عمر”أعرف أنني أقول كلاماً لا يقبله الأطباء والصيادلة هنا، لكن عظامي استراحت وتحرّكت بشكل أفضل، كما عدت إلى عادتي القديمة بقراءة النشرة الطبية (راشيتّا) لكل دواء يدخل منزلي وباللغة العربية والتي تغيب عن (راشيتّات) الأدوية المستوردة”.
ومع أن الدواء السوري لا علاقة له برفع الدعم، إلا ان أسعاره ارتفعت بشكل طردي منتصف تشرين الثاني ” تلك لعبة دوائية ومراوغة من الصيادلة” هكذا قال من سألناهم من المرضى، وبرروا ذلك أن الناس اليوم بحاجة ماسة لهذا الدواء، وأن الصيادلة مهما رفعوا سعره سيظل يباع بالكميات ذاتها، وربما أكثر، خاصة أن هناك أدوية مستوردة ارتفع ثمنها أكثر من عشرة أضعاف.
يقول أحمد إن النسخة الأجنبية من دواء زوجته ارتفع ثمنها من 65 إلى 1900 ألف ليرة، والبديل السوري من 30 إلى 60ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 2,5 دولار، وهو ستة أضعاف سعره في سورية، لكن يبقى ارتفاع الثاني رمداً وهو أرحم من ارتفاع الأول الذي وصفه أحمد بالعمى.
أما الصيدلاني علي زرادة يصف ارتفاع سعر الدواء السوري بالمنطقي، خاصة بعد ارتفاع سعر المحروقات وبالتالي ازدياد كلفة النقل، وارتفاع أجار الصيدليات المستأجرة و” دوبلة” فواتير اشتراك مولّد الكهرباء وغلاء كافة السلع الأساسية التي يحتاجها المواطن في لبنان.
دواء سرّي
“مثل الدخان والسلاح”، يجيب الصيدلاني علي زرادة وهو يشرح كيفية إدخال الدواء السوري إلى المخيم رغم وجود حواجز الجيش اللبناني في سبع نقاط تفتيش، إضافة إلى وجود جدار إسمنتي بعلو ستة أمتار، وفوقه أسلاك شائكة كسور يحيط بالمخيم، مع تموضع أبراج مراقبة كل 500 متر من السور.
وكغيره من صيادلة المخيم لا يريد زرادة أن يشرح بإسهاب عن إدخال الأدوية السورية إلى المخيم، إلا أنه أخبرنا أنه يجب أن تكون مسنوداً إلى جانب أحد المسؤولين الكبار في المخيم والمقربين من مخابرات الجيش اللبناني “أغلب المهربين يوصلون كراتين الدواء إلى بيروت، بدورنا ننقلها إلى صيدا بسياراتنا الخاصة، ويتولى رجال القيادات الفلسطينية إدخالها إلى المخيم، دون أن نكون معهم”.
عامل السرية في إخراج الدواء يجب ان يكون حاضراً مثل إدخاله، خاصة إن كانت الكمية أكثر من علبتي دواء، يخبرنا سعيد وهو لاجئ سوري مقيم داخل المخيم إنه منذ شهر جهز قائمة بعدد من الزمر الدوائية التي طلبها منه أقاربه وأصدقاؤه في الخارج، معظمها مسكنات ومضادات حيوية وأدوية لعلاج الروماتيزم والقلب.
لم تصل الأدوية إلى أصحابها المرضى، إذ أوقف سعيد على الحاجز ومعه كيس يحوي أكثر من ثلاثين علبة دواء خمس علب دخان من نوع (كولواز أحمر).
سجن سعيد مدة ستة أيام، بعدها تكفّلت الواسطة بإخراجه، ودفع غرامة مالية بقيمة مليون ليرة لبنانية وصودر منه الدخان والدواء. بدايةً ظن سعيد أنه حبس بسبب الدخّان إلا أن التحقيق دار في أغلبه حول تهريبه للأدوية من سورية وبيعها داخل وخارج المخيم، تلك جريمة يعاقب عليها القانون اللبناني.
محظوظ من لديه قريب أو صديق داخل المخيم، يقول سعيد الذي يعاني من مرض الربو إنه أكثر من غيره إحساساً بمن يفقدون أدويتهم، خاصة من خلال تجربته مع مرضه، والتي يصفها بالأقوى من تجربة حبسه ودفعه الغرامة.
لذلك يحاول سعيد وسوريون غيره يعيشون داخل المخيم تأمين ما يحتاجه معارفهم في الخارج من علب الدواء، يلجؤون إلى طرق ملتوية عبر توزيع العلب إلى أكثر من شخص، بهذه الطريقة يصعب كشفها، أو عبر استبدال العبوة الخارجية بواحدة من دواء أجنبي، أو وضعها في حقائب النساء الخاصة ” الجزدان” التي قلّما تفتّش، أو تحت ثيابهم أو جواربهم. يخبرنا سعيد على سبيل النكتة أنه أصبح سفير الدواء السوري في المخيم، “بالنسبة للسلطات الدواء يساوي الدخان، إلا أنه لا يساوي إلا الحياة ” بحسب سعيد.