لو أراد أي شخص في عالمنا المعاصر، أن يطلع على تاريخ فن الفسيفساء، لن يجد صعوبة بذلك، إذ مجرد كتابة “فن الفسيفساء” على محرك البحث غوغل، ستنهال عليه عشرات المقالات والأبحاث والصور للوحات وجداريات منتشرة في المتاحف أو في الأبنية والأماكن التاريخية.
وسوريا، غنيِّة بهذا الفن الذي يعود لعصور قديمة، وتمتلك ثروة كبيرة، من لوحات وأرضيات وجداريات، تنتمي لأكثر من حقبة تاريخية، مثل اليونانية والرومانيّة والبيزنطية وصولاً للحقبة الإسلامية.
فالجامع الأموي في دمشق، تحتوي جدرانه على لوحات فسيفسائية فنية صُمِّمت بعناية شديدة، خلال العصر الأموي، هذا عدا المتاحف والآثار التي تنتشر في مدن ومناطق كثيرة في سوريا. وأبرزها المتحف الخاص لفن الفسيفساء في مدينة معرة النعمان بمحافظة إدلب، “متحف معرة النعمان أو خان مراد باشا”، على سبيل المثال لا الحصر.
لكن في زمننا الحالي، لم يعد فن الفسيفساء منتشرًا في المتاحف الفنية والأماكن التاريخية أو الأثرية فقط، بل تحول إلى مهنة حرفية، فإذا تجولنا في منطقة “دمشق القديمة”، وسط العاصمة دمشق، سنرى الكثير من الورشات والمحلات المختصة بفن الفسيفساء والأرابيسك (الموزاييك).
ومن حارات وشوارع منطقة “دمشق القديمة”، بدأت قصة عبد الرزاق الطويل، فنان الفسيفساء والمعتقل السابق في سجون النظام، والذي عَرضَ لوحاته الفسيفسائية، مؤخرًا، تحت عنوان “لا بدَّ للقيد أن ينكسر” في صالة “الرابطة السورية لكرامة المواطن” في شارع راجو بمدينة عفرين شمال غربي سوريا.
وجه الجلَّاد
يحاول عبد الرزاق من خلال قطع الحجارة الصغيرة التي تتشكل منها لوحاته الفسيفسائية، أن يحكي قصته الشخصية من جهة، وما رآه داخل المعتقل من جهة ثانية، أو لقطات مؤلمة من الصعب نسيانها، إضافة لبورتريهات؛ لوجوه نساء معتقلات. لكن أكثر ما يلفت الانتباه في المعرض، هو اللوحة التي حملت اسم “الجلاد”.
يروي عبد الرزاق قصة اللوحة بقوله: “هذه صورة السجان “أبوعلي”، والذي كان مسؤولاً عن تعذيبنا، رأيته بالصدفة، من تحت القماشة المعصوبة (الطماش) حول رأسي وعيناي، أثناء تعرضي للتعذيب.
حين خرجت من المعتقل، أعطيت تفاصيل وجهه لصديقي الرسام، وقام برسمه، بعدها قمت بطباعتها بحجم كبير، والعمل عليها، من خلال أحجار الفسيفساء”.
تُظهر اللوحة ملامح رجلٍ قد تجاوز الأربعين عامًا، وخط الشّيبُ لحيته، ليوثق من خلالها تفاصيل وجهه، وملامح من شخصيته، التي تربت على القتل والتعذيب الممنهج، والمتأصل في نفوس الأجهزة الأمنية، التي تتحكم في البلاد، وتمارس على ضحاياها من المعتقلين والمعتقلات كل أشكال التعذيب في أقبية فروعها الأمنية.
وجه الأم
وجوه كثيرة، تعكس عالم عبد الرزاق الداخلي، حاضرة في لوحاته، كصورة أمه، بغطاء الرأس القروي ذي الطيات الثلاث.
وفي حديثه عنها، يقول: “إنها أجمل ما بقي لي بعد خروجي من المعتقل. وخلال فترة اعتقالي، كانت تذهب من معرة حرمة إلى دمشق لتزورني في المعتقل، لم يكن باستطاعة أي رجل من ذويي أو أقربائي القيام بهذه المهمة، حتى أبي، رغم أن عمره كان يناهز السبعين عامًا لكني رجوت أمي ألا تأتي به، لمعرفتي قذارة هذا النظام، إذ أنه سبق، واعتقل أشخاصًا أثناء زيارتهم لذويهم، أو أثناء بحثهم وسؤالهم عنهم في أفرع الأمن”.
وجوه لنساء معتقلات
نلحظ أيضًا، حضور اللون الأزرق بشكل مميز في لوحات النساء، ليوضح لنا عبد الرزاق بأنه يرى بهذا اللون، رمزاً للأمل والتفاؤل؛ بأن تنال المرأة حريتها سواءً من المعتقلات، أو من النظرة السلبية للمجتمع تجاه الناجيات منه.
كما يحاول عبد الرزاق أن يعبّر من خلال تلك اللوحات، عن حال النساء المعتقلات في سجون النظام السوري، واللواتي تستمر مأساتهن حتى بعد خروجهن من المعتقل، حسب تعبيره.
يقول: “حين تخرج النساء السجينات من المعتقل لا يستطعن البوح بما تعرضن له داخل السجن من انتهاكات، وإن استطعن ذلك، فلن يكون هذا البوح لصالحهن”.
وأضاف: “أعرف أكثر من امرأة معتقلة، تخلَّى عنها أهلها، أو طلّقها زوجها بعد خروجها من المعتقل، إثر النظرة السيئة من المجتمع للمعتقلات، على عكس الرجل؛ يخرج بطلًا فخورًا بنفسه، حتى ولو كان سجينًا جنائيًا تم توقيفه بفعل شائن!”.
من دمشق القديمة إلى قرية “قدة كويت”
تعلم عبد الرزاق فن الفسيفساء في منطقة “دمشق القديمة”، من شاب اسمه “خلدون مسوتي”، بعد ذلك، سافر إلى لبنان، ثم انتقل إلى الأردن، ودخل المعهد الأول للفسيفساء في الشرق الأوسط، عبر لوحة حملت عنوان “بترا”.
لكن تعلّق عبد الرزاق وحبّه لـ”دمشق القديمة”، دفعه للعودة إليها مرة أخرى، وافتتح محلًا هناك، وبعدها بفترة وجيزة، اعتقله النظام السوري، بتاريخ 9 شباط (فبراير) 2012. ليقضي في السجن ست سنوات ونصف السنة.
منذ خروجه من المعتقل، وفكرة عمل معرض للوحاته، تشغل باله، لكن ظروف الحرب التي كانت تعيشها محافظة إدلب، واحتلال قوات النظام المدينة لبلدة “معرة حرمة” وهي البلدة التي عاش فيها، بعد خروجه من المعتقل. كل هذه الظروف اضطرته للنزوح وتأجيل المعرض.
نزح عبد الرزاق إلى قرية “قدة كويت” قرب مدينة عفرين، في أعلى قمة جبلية في منطقة راجو، على الحدود السورية التركية، وهناك بدأ يجهز ويحضر لهذا المعرض.
لم ينكسر القيد بعد
وتعليقًا على تسمية المعرض بـ”لا بدَّ للقيد أن ينكسر”، يقول عبد الرزاق: “لم ينكسر القيد بعد، فما زال هناك الآلاف من المعتقلين، والمعتقلات في سجون النظام السوري، ولن ينكسر القيد إلا بحريتهم، لكن العنوان جاء بمثابة الأمل، بأن ينكسر القيد يوماً ما”.
يحضر أيضًا بورتريه لعبد الباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة، والثائر ضد النظام السوري، والذي استشهد في إحدى معارك المعارضة ضد النظام السوري بتاريخ 8 حزيران (يونيو) 2019. والذي يعتبره عبد الرزاق رمزاً عالمياً للثورة كما تشي جيفارا، حسب وصفه.
عطاء الفنان لا يتوقف عند معرض، ففي كل أرض يحل بها لها نصيب منه، فقبل المعرض افتتح عبد الرزاق معهداً صغيراً في بيت استأجره في بلدته معرة حرمة، درَّب خلاله نحو 20 شاباً وشابة على فن الفسيفساء، بمجهود شخصي دون أن يتلقى دعماً من أي جهة.
يقول: “عندما افتتحنا المعهد، كان عليَّ تأمين كل شيء، حتى الطاولات والكراسي، لكن المعهد لم يستمر أكثر من ثمانية أشهر، لنفترق بعدها، إثر عملية النزوح، بسبب هجوم قوات النظام السوري على ريف إدلب الجنوبي، واحتلالها البلدة”.
لوحات تباع بسعر تكلفتها
لم يعد بيع اللوحات هماً كبيراً بالنسبة لعبد الرزاق، الذي كان يتخذ الفسيفساء فناً وحرفةً قبل اعتقاله، لكنه تحول إلى مناضل بقطع الحجارة الصغيرة، يجسد من خلال لوحاته وضع المعتقلين والمعتقلات، وبعض من ملامح المأساة السورية.
وفي الوقت ذاته لا يمانع عبد الرزاق من بيع اللوحات، ولو بسعر تكلفتها الذي لا يتجاوز مئة دولار، رغم أنه أنفق حوالي 1500 دولار على المعرض، الذي استدان بعضها من بعض معارفه وأصدقائه.
وفي الختام عبَّر عبد الرزاق عن سعادته من إقبال الناس على المعرض، واعتبره بداية وعودة انطلاقة ممتازة بالنسبة له.