عيسى قداح، ٤٢ عاما، حفر الزمن في محيّاه ملامح قاسية، تكاد تنطق، تعطيه مهابة الشيوخ ووقارهم. يتحضر عيسى لاستقبال ضيف جديد، دأب على استقبال أمثاله خلال عشر السنوات الماضية، ضيفه شخص قد فارق الحياة، فعيسى هو الوحيد الذي يدير مركزاً لغسل وتجهيز الموتى في مدينة سرمين، بريف إدلب، يتألف المركز من غرفتين، نجتا من قصف جوي دمر المنزل، وبقيتا شاخصتين تخلدان الموت الذي مر من هنا.
في زاوية إحدى الغرفتين، برميل ماء، يغرف منه عيسى ويملأ وعاءً يقوم فوق موقد لتسخين المياه، وبهمّة لافتة، يحرث عيسى الغرفة جيئة وذهاباً، يجهز القطن والمناشف، يضع الكفن الأبيض النظيف بطريقة لائقة مرتبة. لا يترك عيسى شيئاً ناقصاً عند قدوم المتوفى. يرى أن الكمال -ما استطاع إلى ذلك سبيلاً -في هذا المقام نوعاً من احترام الأموات، جزء من وداع الجسد اللائق للدنيا.
للموت جلاله
يستنفر عيسى كلما تعالت واقتربت أصوات المشاركين في الجنازة. للجنائز رهبة، طقس متكامل من حركات رزينة وأصوات متناغمة، ووجوه غائمة تمطر حزناً وتعزية، تقترب الأصوات، ويعرف عيسى اللحظة المناسبة ليستقبل ضيفه عند الباب، يطلب بصوت رخيم وضع الجسد على طاولة الغسيل، يخرج الجميع، ويبقى عيسى وإلى جانبه مساعد واحد.
موقف جليل، وفق وصف عيسى، ويتابع: “للجسد الآدمي هيبته، حي صاحبه كان أم ميتاً، وفي هذا الموقف تنتهي الحياة كلها أمامك، يُضفي هذا العمل على صاحبه نوعاً من الحكمة والرضى”. قماشة نظيفة رقيقة يغطي بها عيسى الجسد، في احترام للميت، ثم يستكمل غسله، وتكفينه.
هكذا بدأت
كان عيسى يعمل سابقا في “السمكرة” بمدينته سراقب، ومع انطلاق الثورة السورية، صارت البلاد ساحة لإحدى أكثر الجرائم بشاعة، صار الموت رفيق السوريين، وقبل نحو عشر سنوات بدأت حكايته، ويروي عيسى: “كنت قريباً من المقبرة، جارها إن شئت، الشهداء والأموات كثر، طلائع الجنائز بعد الثورة صار تواترها يزيد، شيئا فشيئا كُلفت بمهمة الدفن، في حين كان الأهالي يوفرون ما يلزم”.
ويضيف عيسى: “بدأ الأمر نوعاً من الالتزام، يشدني إحساس خفي من الواجب تجاه الأموات، وخصوصاً بعد أن فقد الموت هيبته، شعرت أن كل ما يمكن فعله اتجاه هؤلاء هو منحهم دفناً لائقاً، طالما أن إكرام الميت دفنه”. لا يكتفي عيسى بتسليم الميت لأهله كي يدفن، بل يحرص على المشاركة في الدفن، يعود إلى بيته في انتظار جسد آخر، وحكاية أخرى.
قرابة عشر سنوات مرت على هذا العمل، التصق به عيسى رغم تداعياته النفسية الكبيرة عليه، ويستذكر تلك الليلة عقب إحدى المجازر ويقول: “نمت ليلة كاملة إلى جوار ٥٢ جثة، كان بينهم الكثير من الأطفال”، ويعقب: “انعطبت روحي يا أخي من كتر المجازر، وأكتر شي كان يأثر عليّ شوفة جثث الأطفال”.
بغصة يكمل: “كثيراً ما كانت تأتيني أكياس فيها أشلاء الضحايا، كان يجب تفقدها، وترتيبها ضمن المستطاع في القبر، تلك المهام هي الأقسى، محفورة في ذاكرتي، لا تغادرها أبدا”. حرّمت على نفسي أكل اللحوم من وقتها، لا أستطيع.
غادر عيسى مدينته سراقب نازحاً، واستكمل ما كان يفعله في سرمين، باستثناء اكتفائه بغسل الميت وتكفينه، تاركاً الدفن، رغم مشاركته في بعضها، غير قادر على دفن الذكريات المرة المرتبطة به.
المركز الذي يعمل فيه عيسى تأتيه تبرعات لتأمين المستلزمات، ولا يُكلف الأهل شيئاً، يبقى لعيسى شيئاً يسيراً من المال هو ومساعديه، تعينه وأسرته على تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ويعبر عيسى عن أمله بوجود جهات رسمية تتبنى مثل هذه المراكز.
كورونا: وافد ثقيل الظل
صار للموت وكل طقوسه معنى آخر بعد الثورة، ولم يكن يتخيل عيسى أن يتغير الحال مع تفشي فيروس كورونا، وعن هذا التغيير، يقول: ” حمّلنا فيروس كورونا أعباء إضافية لجهة تدابير الوقاية، إذ يجب علينا ارتداء الأقنعة الواقية والقفازات، وتعقيم الجثة، وبعد أن ننتهي نسلمها للدفاع المدني كيف يتكفل بدفنها، وبعد ذلك نحرص على حرق ملابس المتوفى في المحارق الطبية التابعة للمستشفيات”.
وللمخيمات قصة أخرى
لا توجد في مخيمات الشمال السوري، على كثرتها، مراكز لغسيل وتجهيز الموتى، ليتكفل بهذه المهمة متطوعون، أبو صبحي أحدهم، رجل سبعيني، كان يساعد في هذه المهمة ضمن محيطه لأربعين عاماً مضى، وظل كذلك إلى اليوم.
أبو صبحي، لا يتأخر عن النداء، يُستدعى إلى الخيمة التي فارق فيها للتو أحد ما الحياة، يُسجى الميت على الأرض، ويكمل أبو صبحي عمله، في بعض الأحيان يُقدم له سرير حديدي يستخدمه طاولة للغسيل، ويضيف أبو صبحي: “لا أتقاضى أجراً عن عملي هذا وكل ما أبتغيه الأجر والثواب”.
من التمريض إلى غسل الموتى
أبو عبد الله، نازح من مدينة حماة، كان يعمل ممرضاً قبل الثورة، ولم يستطع استكمال عمله في التمريض لعدم قدرته على إنقاذ شهادته أو أي ورقة تثبت مزاولته للمهنة حيث حرقت قوات الأمن منزله حين داهمته، كونه كان مشرفاً على مستشفى ميداني في حماة، وفق ما يروي أبو عبد الله. ويضيف أن عمره لا يسمح بالخضوع لتدريبات جديدة للحصول على شهادة.
يؤكد أبو عبد الله، أن لجوءه إلى مهنة غسل وتكفين الموتى، أمر لم يكن يتخيل فعله في يوم من الأيام، وخصوصا أن عمله كممرض كان يركز على إنقاذ الناس، والموت كان يُنهي صلته بالمريض. يشير أبو عبد الله أنه لا يطلب أجراً، والأمر متروك لتقدير وإمكانية ذوي المتوفي، لكن ما يأتيه يعينه في هذا العمر على تأمين متطلبات عائلته.
لأبي عبد الله فكاهة مميزة، الرجل النازح الذي خسر عمله، وانتهى به مغسلاً للأموات، هي فكاهة الذي تحرر من كل الآلام، وصل الأمر بمجالسيه في مرات عديدة تصويره، بطريقة كلامه القريبة من القلب والطريفة في آن، ونشر هذه المقاطع في مواقع التواصل الاجتماعي. يضيف باسماً: ألتقي بالبعض في الطريق ويقولون مازحين: أرجوك يا أبو عبد الله ابق بعيداً عنا وعمن نحب. في إشارة إلى عملي في غسل وتكفين الموتى.
لم تنتشر مهنة تغسيل الموتى في كثير من مدن وبلدات سوريا قبل الثورة، فقد اعتاد الأهالي على التضامن والتكافل في مثل هذه المواقف، فثمة من يتطوع للغسيل، أو حفر القبر، وكان يشارك الجميع في الدفن، والمؤازرة المادية والمعنوية لذوي المتوفى، إلا أن التبدلات العميقة في المجتمع السوري، وظهور تجمعات سكنية جديدة، مختلطة، أوجدت حاجة إلى وجود ما بدأت تصبح مهنة، مهنة يحتفظ أصحابها بصور لا تنضب من الأجساد التي غادرت حياتنا، لكل منها حكاية، ودفن تلك الجسد وفق ما يروي بعضهم، ليس دفناً للحكاية، بل زرعها في هذا التراب، لتعيش.