فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

العيش في غابة من دخان.. شتاء الأهالي في مخيمات الشمال السوري

منيرة بالوش

“الأكياس المبعثرة في زاوية الخيمة ليست وحدها ما يشي بنوعية وقود التدفئة، لكن لون ورائحة الدخان الذي يخرج من المدخنة، كفيل بمعرفة ما تأكله المدافئ دون رؤيتها”.

فجر كل يوم من أيام “الكوانين” الباردة، تستيقظ الجدة السبعينية فضّة في الصباح الباكر في أحد مخيمات “كفر لوسين” بريف إدلب الشمالي، لتشعل المدفأة قبل أي عمل آخر حتى ينعم أحفادها بالدفء.

المدفأة الأسطوانية الشكل مصنوعة من الصاج الخفيف، والذي سرعان ما يتشقق ويهترئ بعد عام واحد من الاستعمال. هذه النوعية من المدافئ غير مخصصة للفحم، تقول، ولكن الكثير من الأهالي تضطر لاستخدامه رغم خطورة ذلك.

داخل المدفأة وعاء كبير يسميه الأهالي “سطل المدفأة”، ويتسع لـقطع البيرين (مخلفات الزيتون تستخدم كوقود للمدافئ) أو أي مواد أخرى صالحة للحرق. ويجب تنظيف الوعاء كل صباح قبل إشعال المدفأة المزودة ببواري (أنابيب) عريضة لسهولة خروج الدخان الكثيف المنبعث منها. غالباً ما تقوم المنظمات بتوزيع هذه النوعية من المدافئ على سكان المخيمات.

تقول فضّة: “من الصعب أن تنام بعمق في الخيام، يجب أن تبقى صاحياً وحذراً طيلة الوقت، فصوت الرياح يضرب جدران الخيمة، والمداخن غير مثبتة بشكل جيد، وأخشى أن تقع علينا وتحرقنا كما حدث مع عائلات كثيرة”.
لا يوجد ما يثبت بواري المدافئ، فأغلب الخيام القماشية معرضة لخطر السقوط أو الحريق بفعل المدافئ ومداخنها.

صورة من احد مخيمات ريف إدلب- تصوير: مصطفى الساروت

تختلف أشكال ومساحة الخيام في شمال سوريا، منها خيمة السفينة بطول أربعة أمتار، ومنها على شكل القوس كخيمة الجدة فضّة، بعضها تصل مساحتها لتسعة أمتار، فيما تتشابه جميع المداخن في كل الخيم، حيث تخرج البواري من القسم العلوي في صدر الخيمة عبر فتحة المدخنة المجهزة لذلك، بينما يقوم عدد من الأهالي بثقب قماش الخيمة لتثبيت إطار المدخنة على الخيام التي لا تحوي على فتحات. والإطار عبارة عن قطعتي حديد دائريتين على شكل أساور، تثبت واحدة من داخل الخيمة، والأخرى خارجها، يخرج منها البوري وغالباً ما يكون قليل الارتفاع، كي لا تسحبه العواصف.

يقول أهال في المخيم إنه من الصعب تثبيت المداخن خارج الخيم، ولا حتى داخلها، وهي معرضة للوقوع وإحداث الأذى والحريق خاصة أن قماش الخيام سريع الاشتعال. وهذا ما حدث في خيمة أم محمد وهي من سكان مخيم ساعد بمنطقة البردغلي شمال إدلب، إذ وقع حريق كبير في خيمتها بعد وقوع المدفأة وهي مشتعلة بسبب الرياح العام الماضي، لم تأكل النار الخيمة فحسب، بل تسببت بموت طفلة أم محمد الصغيرة ذات العامين وإصابة الأب بحروق كبيرة.

حادثة الحريق هذه ليست إلا واحدة من ١٣٤ حريقاً في المخيمات حصلت هذا العام، وفق إحصائية للدفاع المدني السوري. يقول حميد قطيني، المسؤول الإعلامي في الدفاع المدني السوري، إنهم استجابوا حتى الآن إلى أكثر من ٢٢٠٠ حريق شمالي غرب سوريا في المخيمات والمنازل، أدَّت لوفاة ١٨ شخصاً، وإصابة ٢٠٠ شخص بينهم أطفال ونساء، مؤكداً أن أغلب حرائق المخيمات كانت بسبب المدافئ، يليها مواقد الطبخ أو بطاريات الإنارة.

يستخدم غالبية قاطني المخيمات في شمال سوريا للتدفئة وقوداً مختلفاً عما اعتادوا عليه سابقاً مثل (المازوت والكهرباء والحطب أو الغاز) وذلك لغياب بعضها، وارتفاع أسعارها أو لرداءة الموجود منها. ويستعيضون عنها بالبيرين والفحم وقشر الفستق واللوزيات، إضافة إلى استعمال ملابس البالة، والأحذية، يرافق جميع هذه المواد كرديف داعم لها، مواد بلاستيكية وأكياس النايلون والكرتون وأحياناً روث الحيوانات الجاف.

يقصد أبو عبادة محال بيع البالة القريبة من مخيمه غربي مدينة سرمدا كل أسبوع تقريباً، يشتري كيساً كبيراً من الثياب المخصصة للحرق وكيساً آخر من الأحذية، بعد أن يفرزها صاحب المحل، وينتقي منها الرديء، يعرضها للبيع تحت مسمى بالة حرق، يقول أبو عبادة إنه يشتري كيلو غراماً من الملابس وأحذية البالة بخمس ليرات تركية، إذ يبلغ سعر الطن منها خمسة آلاف ليرة. يرغب البعض أمثال أبو عبادة باستخدامها للتدفئة فهي تبقى مشتعلة لوقت أطول من الفحم أو البيرين، وتمنح دفئاً أكبر من بقية المواد، غير أن لها رائحة خانقة وكريهة عند الاحتراق.

أمضت الجدة فضّة خمسة مواسم شتوية في المخيمات الباردة، منذ نزوحها من ريف حماة الغربي، رفقة أحفادها الأربعة، بعد وفاة والديهم بقصف جوي طال منزلهم، تقول إنها لم تعش أسوء من هذه الأيام، التي جعلتها حبيسة خيمة لا تقِ برد الشتاء ولا حر الصيف.
ويعيش في مخيمات الشمال السوري نحو مليوني شخص من أصل أربعة ملايين، بين مهجر ونازح ومقيم، يسكنون في محافظة إدلب، حسب أحدث إحصائية لفريق منسقو الاستجابة.

صورة من احد مخيمات ريف إدلب. تصوير: مصطفى الساروت
صورة من احد مخيمات ريف إدلب-تصوير: مصطفى الساروت

دخان من روائح وألوان!

وضعت الجدة فضّة قطعتي “بيرين”، أضافت لهما قطع ملابس بالية، وأكياس نايلون لتسريع الاشتعال. عند سؤالي عن نوع المدفأة التي تستخدمها قالت لي: “يا ابنتي.. هذه محرقة كل شيء يصلح للحرق”.
أشارت بأصبعها الملطخة ببقايا “شحار” أسود علقت في يدها، أثناء تنظيف المدفأة قبل إشعالها باكراً، باتجاه زاوية الخيمة. كانت أكوام البلاستيك والأحذية المهترئة، وقطع الملابس المركونة بزاوية الخيمة، إضافة لكيس من البيرين وبعض الأخشاب المتكسرة، كفيلة بالإجابة عن السؤال بالشكل الذي يؤيد ما قصدته الجدة.. “محرقة كل شيء”.

الأكياس المبعثرة في زاوية الخيمة ليست وحدها ما يشي بنوعية وقود التدفئة، لكن لون ورائحة الدخان الذي يخرج من المدخنة، كفيل بمعرفة ما تأكله المدافئ دون رؤيتها.

تأخرت الجدة فضة هذا العام، مثل كثير من العائلات، في تركيب المدفأة إلى كانون الأول، لعدم حصولها على مواد التدفئة من إدارة المخيم، ولكن مع اشتداد البرد كان لا مفر من إشعالها ببعض المواد الأخرى، ريثما يتم التوزيع الذي وُعدِت به.

يتم توزيع أكياس البيرين أو الفحم على الأهالي في عدد من المخيمات، وليس هناك كمية محددة أو مدة زمنية معينة للتوزيع.
كما حصلت أم إبراهيم المقيمة في مخيمات البردغلي شمال إدلب، أول الشهر الحالي على خمسة أكياس من البيرين، يزن الكيس الواحد عشرين كيلوغراماً، تقول إنه يكفيها لنحو ثلاثة أيام وقت البرد الشديد، هذا إن أحرقت معه مواد أخرى.

تحتاج العائلة إلى طن ونصف الطن من البيرين في الشتاء، ويصل سعره لنحو 150 دولاراً، فيما تراوح سعر طن القشر بين 150 إلى170 دولاراً، وهي مبالغ يعجز عنها معظم سكان المنطقة وسط الظروف المعيشية القاسية.

دخان قاتل

يضطر سكان المنطقة لاستخدام أنواع رديئة من الوقود، وتحمّل دخانها، حجتهم في ذلك ما أوردته الجدة فضة من مثل شعبي عن “دخان يعمي ولا برد يقتل”، في إشارة لاستخدام المتاح والمتوافر دون التوقف عند ما يمكن أن يحدثه احتراق هذه المواد الرديئة من خطر على صحتهم وحياتهم.

ويحذر الأطباء من انبعاثات هذه المواد، والتي قد تسبب حالات تسمم عائلية، والإصابة بالأمراض التنفسية، والتهاب القصبات المزمن. إذ أن أغلب الأطفال في المخيمات يتعرضون لهذه الأمراض طيلة الشتاء، جراء استنشاق الدخان والغازات المنبعثة من احتراق مواد التدفئة.

عند طبيب الأطفال في المركز الصحي بكفر لوسين شمالي إدلب، انتظرت أم حسين نحو ساعة ونصف الساعة ليصل إليها الدور، بعدما ساءت حالة طفلها علي، ذي الأربعة أعوام، وأتعب صدره السعال الحاد. تقول أم حسين: “تأزمت صحة علي كثيراً، ولم تنجح أدوية المسكن وخفض الحرارة المتوفرة عندي من إيقاف سعاله وكذلك مشروب الزهورات والزعتر البري، فذهبت به إلى المركز الصحي”.
شَخَّصَ الطبيب حالة علي ببداية ربو تنفسي سببه البرد، واستنشاق الانبعاثات السامة من دخان المدافئ، حسب قول والدته.

يقول الطبيب زهير فجر، أخصائي الأمراض الصدرية وأمراض الجهاز التنفسي، إن دخان المدافئ يلعب دوراً هاماً في التحسس التنفسي، لأنه يهيج الأغشية في القصبة والرئتين ويؤدي لنوبات الربو. ويؤكد زيادة عدد مرضى الربو من الأطفال بشكل كبير في المخيمات والمنازل التي تستخدم مواد بديلة للتدفئة، والتي هي السبب المباشر للأمراض التنفسية”.

يمتد على جانبي مخيم “جبل الزاوية” قرب سرمدا طريق طيني موحل، تعلوه هالة من الدخان، تبلغ ذروتها بعد العصر، حيث لا مهرب من البرد إلا بإشعال المدافئ.

قُرب الخيام من بعضها البعض أفرز الكثير من المشاكل بين الأهالي لا سيما النساء اللواتي يفسد عليهن دخان المدافئ الأسود ملابسهن المنشورة على الحبال، ويجعلها تلتقط الرائحة وتترك أثراً أسود اللون على القطع الفاتحة، بعد أن بذلن جهداً كبيراً في غسلها، حسب قول من التقينا منهن.

فيما توصلت ولاء إحدى ساكني المخيم لاتفاق بين جاراتها في الخيام القريبة منها، وذلك عبر إخبارهن قبل إشعال مدفأتها، لإزالة ملابسهن النظيفة المعلقة على حبال الغسيل، خاصة إن استخدمت مواد بلاستيكية أو ملابس وأحذية قديمة، لأنها أكثر المواد دخاناً.

صورة لمجموعة خيام في مخيم بريف ادلب- تصوير: مهند الشيخ

حديث المداخن

ثمة أشياء أخرى يخبر عنها ماهية الدخان ولونه، إذ باتت تعرف الجدة فضة وباقي نساء المخيم، موعد الغداء لكل عائلة، من حجم الدخان المنبعث من مداخن خيامهم، إذ تزيد النسوة من وقود المدفأة لارتفاع مستوى النيران في فترة تحضير الطعام.

تقول المداخن ما يخفيه الأهالي عن وضعهم المادي، فميسوري الحال ممن يستخدمون قشر الفستق لا تنفث مداخنهم ذات الدخان الذي تلفظه مدافئ تشتعل على الأحذية والمواد البلاستيكية.
لم يغيب عن بال الجدة فضّة أيضاً أن تضع قدراً من الماء على مدفأتها لصنع حساء العدس وهي أكثر الطبخات شهرة في فصل الشتاء، حسب قول كثير من النساء، بعدم أن زادت لهيب النار بوضع فردة حذاء كبير المقاس داخل المدفأة.

أصبح المكان دافئاً، سحبت المدخنة دخاناً كثيفاً أسود اللون، وسحبت معه الجدة نفساً طويلاً من لفافة التبغ الخاصة بها، غطى دخان سيجارتها نقشاً قديماً في وجهها، الذي تغيرت ملامحه مع الزمن وغاب بين تجاعيدها، لم تقنعها أمراضها المزمنة، وسعالها الجاف بالتخلي عن تدخين السجائر، إذ نفثت همومها وتنهداتها مع دخان لفافتها.

قالت: “نبتلع دخان المخيم كله يومياً، بسمومه ورائحته الخانقة، لن يتوقف الأمر على دخان سيجارة صغيرة”.

اشترت الجدة فضّة بواري جديدة لمدفأتها، عوضاً عن القديمة التي اهترأت في الشتاء الماضي لمدفأتها، وحرصت على أن تكون عريضة تناسب انبعاثات الفحم، وتساعد على سحب الدخان بشكل أسرع، ولا يحتاج للتنظيف كما كانت تفعل كل عشرة أيام الشتاء الفائت.

حاولت الجدة فضّة أن تبعد المدفأة من جدار الخيمة تجنباً للحريق، فوضعتها منتصف الخيمة، تقول “اعتبر أننا زدنا شخصاً آخر، ونحسب حساب أن تأخذ حيزاً من الخيمة”، إلا أن المدفأة قد تأخذ مساحة أكبر في بعض الخيم الأخرى الأصغر حجماً.

“نحن نعيش في غابة من الدخان، بالوقت الذي يخرج دخان مدفأتنا خارجاً، يدخل دخان مدفأة جارنا من الباب”

لا يمكن السيطرة على مسار الدخان المنبعث من المدافئ، فقرب المخيمات من بعضها البعض يجعل دخان المدافئ يتغلغل في أجواء المخيم، يصف أبو خالد أحد سكان دير حسان ما يعيشه الأهالي والجيران بقوله :”نحن نعيش في غابة من الدخان، بالوقت الذي يخرج دخان مدفأتنا خارجاً، يدخل دخان مدفأة جارنا من الباب”

عبثاً يحاول ساكني الخيام التهرب من استنشاق الروائح السامة لمواد الحرق، حتى وإن استخدمت المازوت أو القشر عوضاً عن الفحم والمواد الأخرى، فدخان الجيران والعائلات الأخرى يدخل من مسام الخيمة، مسبباً أمراض تنفسية عديدة.