أثناء مسيري إلى عملي صباحاً لاحظت تجمعاً عشوائياً للكثير من النسوة، أمام إحدى المدارس مغلقة الأبواب، وقد أحضرن معهن لوازم الانتظار.. عبوات كبيرة من المياه الباردة، حصيرة صغيرة للجلوس، أطفال صغار يملؤون المكان، رجال متوحدون مع هواتفهم النقالة، ألسنة وشفاه تتحرك بعجلة وهي تلهج بذكر الله، عيون تنظر برجاء إلى السماء، عدادات رقمية للتسبيح تطقطق برتابة مثل ساعة جدارية.
ظننت في بداية الأمر أن جمعية خيرية، أو هيئة طبية حضرت إلى المدرسة لتمارس طقوسها وعملها الإنساني، ولكن بعد مسافة ليست بالبعيدة رأيت تجمعاً مشابهاً إلى درجة كبيرة، فبدأت الأسئلة والاحتمالات الأخرى تدور في ذهني عن سر تلك الحشود.
قلت في نفسي: سأتصل بمختار الحي، وأسأله عن الخطب؟
كانت شبكة الهاتف غير متوفرة، وخدمة البيانات بلا إنترنت.
فكرت ونجمت كثيراً.. فبعثت برسالتين متطابقتين إلى دماغي وقلبي -كما تفعل وزارة الخارجية -للبحث والتداول والاستنتاج فيما يجري إلى أن لطمت جبيني بملء كفي، عندما تذكرت منشوراً في الليلة الماضية لإحدى صديقاتي الفيسبوكيات بأنها كانت تراقب النسوة أمام مركز الامتحانات وهن يطفن في ملكوت الله وكتبه ورسله وأنبيائه وأوليائه وآلائه كي يفتح من علمه على أولادهن، بينما كانت هي غارقة بلعبة (كاندي كراش) !، فهل سينظر الله إلى ابنتها بعين الرأفة؟
تكشفت في رأسي جميع المعطيات، إذا كانت الشبكة الخليوية مقطوعة، مضافاً إليها تجمعات بشرية مؤمنة أمام المدارس، فالنتيجة تساوي بدء الامتحانات في حلب.
وجوه ملونة
تمر الدقائق أمام أهالي الطلبة بخطى ثقيلة كسلحفاة، بينما تهرب كأرنب بري من بين يدي الطلبة، وفوق رؤوسهم غيوم من الأفكار والكلمات وهم ينتظرون أن تهطل بسخاء على كراسات امتحانهم الجافة.
وقفت أتأمل خروج الطلبة في الدقائق الأخيرة من الامتحانات ، مع أن لا أرنب لي ولاسلحفاة في هذا الأمر، ولكن لأتأمل الوجوه، وربما كي أرى وجهي بين الطلبة قبل ثلاثة عقود مرت.
حشود متوجسة على الباب الخارجي، وعيون تركز على الخارجين من عنق الزجاجة كالفاتحين طوراً، وكالمهزومين أطواراً أخرى، في ظل ضغوط على الجبهات كافة، المبالغ الطائلة لتسديد أجور الدورات والتي تصل لمليون ليرة سورية، جهد طويل وسهر متواصل، قلوب الآباء والأمهات، وعيون المراقبين الذي ينتظرون الدقيقة الأخيرة للامتحان، بصبر قليل، وثرثرة عالية، تمتزج برائحة تبغهم الرخيص.
يخرج الطلاب وقد غير (الميلانين) شيفرته الوراثية في وجوههم، وجوه بيضاء باهتة، وأخرى صفراء فاقع لونها، وثالثة تشوبها زرقة، ورابعة مختلطة الألوان مثل (مسقعة الخضار)، فجأة ظهر وجهي، باللون الأبيض والأسود، لا ينتظره سوى غبار الأيام التي مضت.
أوقات مستقطعة
ثلاث ساعات من انقطاع الاتصالات والانترنيت كفيلة بخلق أزمة تواصلية، وبإصابة البلد بشلل سداسي الأطراف.
في المركز الطبي الذي أعمل فيه، كانت حالة إسعافية بانتظاري لمريض يعاني من هبوط سكر الدم، ولم تتمكن الممرضة من الاتصال بي، لأعجل بالحضور، وقد كان في حالة يرثى لها من الإعياء، وقد أخبرني-لاحقاً- أنه لم يستطع التواصل مع طبيبه نتيجة انقطاع وسائل التواصل خلال الفترة الماضية.
أحد أصدقائي أخبرني أن زوجته، انزلقت في المطبخ، وبقيت لمدة ساعتين مستلقية تحت تأثير أوهام بحضور ملاك الموت في أي لحظة، وهي تحاول الاتصال بأي كان ليسعفها، دون جدوى حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وانتهى الامتحان.
قال لي: هل يعقل أن نعاقب بقطع الاتصالات والشبكات من أجل بعض الطلاب الكسالى والأهالي الفاسدين؟
فقلت: في النظام العسكري تكون المكافآت فردية، والعقوبات جماعية
وقد قررت لاحقاً الذهاب إلى عملي قبل بداية الامتحان، بعد أن أرسل زوجتي والأولاد إلى أهلها، خشية حدوث طارئ لا تحمد عقباه، في تلك الساعات الخارجة عن القانون.
نقوش امتحانية
أذكر في مراحل دراستي، بعض الزملاء الذين يمارسون الغش الامتحاني بحرفية ودقة عالية قبل انتشار الهواتف النقالة، أحدهم كان يكتب أغلب فقرات الكتاب المهمة على شكل كتيب مصغر لا تتجاوز أبعاده سنتمترين ويضعه خلف ياقة قميصه، أو في كمه بعد عقده بخيط مطاطي صغير، يمطه وقت الحاجة. وآخر كان يضع(الراشيتة) داخل قلم الحبر، بعد أن يلفها بشكل أسطواني، وقد رأيت إحداها بطول نصف متر.
إحدى زميلاتي المحترفات كانت تكتب محاضرات بأكملها على أظافرها الطويلة بعد أن تقوم بحكها كي تسهل الكتابة عليها بقلم دقيق، وأحياناً على طبقات تنورتها المكشكشة، وقد أخبرتني أنها تكتب على فخذيها في بعض الأحيان، وهذا مكان لا يتجرأ مراقب أو ذو عزم على الاطلاع عليه، خشية من تهمة التحرش، والدخول في غياهب السجن.
أما في هذه الأيام، وإضافة للغش التقليدي فإن للطلبة أساليب ترتبط بالتكنولوجيا والذكاء اللاسلكي، من خلال سماعات البلوتوث التي لا يتجاوز حجمها حبة الفاصولياء، والتي توضع في التجاويف العميقة لصيوان الأذن، لتجعل الطالب على تواصل كامل مع شريكه خارج المركز الامتحاني، وبرغم التفتيش الدقيق، وسياسة التباعد المكاني، فقد ضبطت بعض الحالات، أما الكثير منها فقد لاذ بالكلية الطبية.
ناهيك عن الغش بطريقة مباشرة من قبل بعض المراقبين، إذ تم أخيراً إحالة بعض رؤساء مراكز الامتحانات ومراقبين للتحقيق بعد اكتشاف تساهلهم مع الطلبة في دير الزور ودرعا، والغريب أن الأمور تسير على أحسن ما يرام في مدن الساحل السوري، حيث لا تشبيح ولا ترهيب للمراقبين أو للطلبة المساكين.
أذكر مقالاً قرأته عن التدريس في اليابان حيث يعلمون الأولاد الأخلاق وكيفية التعامل مع الأهل والمدرسين وكبار السن وعمال النظافة، بحيث يكون النجاح والرسوب مرتبطاً بالأخلاق والسلوك لا بنتائج الاختبارات والامتحانات.
بالمناسبة فإن زميلي ( الغشاش) يشغل اليوم منصباً حساساً في القصر البلدي، بعد أن تخرج بمعدل جيد جداً في كتابة المصغرات، أما أنا فقد لذت بعامود صحفي اعتكف فوقه كل أسبوع لأسد رمقي.
يبدو أن التغطية الخليوية قد عادت.. سلام