في أحد مشاهد الفيلم المصري “عسل أسود” ينقل تحضيرات وصناعة كعك العيد في مصر، يشبه المشهد إلى حد كبير طقوس عيدنا في قرى وبلدات إدلب وكيف كان لكعك العيد دور في جمع أفراد الأسرة للمشاركة بصناعته.
تتشابه طقوس العيد في سوريا مع كثير من البلدان العربية، لاسيما في صناعة كعك العيد والذي يعتبر أحد سمات العيد الرئيسية، وتتشابه طقوس تحضيره في عدة بلدان. لكن آلية شيّ كعك العيد تختلف بين منطقة وأخرى، فبعض النسوة كنّ يقمن بشيّه في المنزل في حين ترسله أخريات إلى الأفران العامة والتي تنتشر في المدن الكبرى.
الأفران العامة في المدن تخبز كعك العيد في المناسبات
بعد انتصاف رمضان يقتصر عمل غالب أفران المعجنات على صناعة كعك العيد ، يسهر أبو هيثم مع عماله حتى ساعات الفجر الأولى ضمن فرنه ببلدة اسقاط شمالي إدلب حتى يتمكن من تلبية طلبات زبائنه. يقول: إنهم يعدون الكعك بنكهات مختلفة، فمنها المالح والحلو والمنكّه بالفليفلة الحارة أو بعشبة الزوبعة، في حين يطلب آخرون نكهات إضافية مثل الزعتر والكمون.
يرسل أبو هيثم “صاجات” فرنه الفارغة للزبائن الراغبين بشيّ كعكهم في الفرن، حيث يتم ملؤها ثم إرسالها له ليقوم بعمله، ويتقاضى سبع ليرات تركية على كل “صاج”.
عبد القادر الأخرس ابن مدينة أريحا وصاحب فرن معجنات الناصر في مدينة سلقين، تعلم صناعة كعك العيد بنكهات جديدة خاصة في المنطقة التي يعيش فيها، بعد أن كان يعدها بنكهتي المالح أو الحلو في مدينته سابقاً.
يستقبل عبد القادر طلبات الناس لتجهيزها كاملة أو لشيّها فقط ضمن فرنه شريطة أن تكون موضوع ضمن صاجات الفرن، ففرنه من الأفران الحديثة التي تعمل على المازوت، وتستخدم في عملية الشي عربات تحمل كل الصاجات معاً ويتم إدخالها للفرن دفعة واحدة.
يقول عبد القادر: “استقبل كعك المنازل في حال لم يكن الفرن مشغولاً، وأترك تقدير الأجور للزبون ، حتى أنني قد لا أتقاضى شيء أحياناً إن كانت الكمية قليلة فأدخلها للفرن مع معجناتي”.
كما لعبت الأفران العامة دوراً إضافياً في سلقين خلال سنوات طويلة، إذ كانت النسوة تلجأ إلى المخبز ليعلمن المقادير اللازمة لتحضير عجينة الكعك.
تستذكر الحاجة أم عبدو الضرف فرن جدها الحجري في سلقين، وكيف كان جدها يعد خلطات الكعك للنسوة بيديه بعد أن تذكر السيدة كم “تنكة” طحين ترغب بعجنها، فالمقدار كان بالتنكة وليس بالكيلو غرام. تصف الحاجة أم عبدو تلك الأيام بأنها كانت جميلة ببساطتها فتقول: “لولا وجود جدي وغيره من أصحاب الأفران لا أظن أن كعك العيد كان سينتشر بالصورة التي هو عليها اليوم”.
بدائل الأفران العامة
لا تتوفر أفران المعجنات العامة في المناطق الريفية، ما يدفع ربات المنازل لاستخدام أفران الغاز ذات الطبقات الثلاث في صنع كعك العيد، قبله كان فرن الكهرباء المدور المصنوع من الألومنيوم، والذي غاب عن المشهد اليوم لغياب الكهرباء اللازمة لتشغيله.
تروي “أم خالد “سيدة خمسينية من كفرنبل بريف إدلب” كيف كانت تجتمع مع جاراتها بعد صلاة التراويح في منزل إحداهن، يتعاونّ على صنع الكعك لصاحبة المنزل، وبعد الانتهاء من المهمة تستعير إحدى السيدات فرن الكهرباء معها في إشارة إلى أنها التالية لتقوم النسوة بمساعدتها، وهكذا يتم تدوير الفرن من جارة إلى أخرى حتى يزور أغلب بيوت الحارة.
تفضل رحاب المحمد من ريف حلب فرن الكهرباء فهو أجود من ناحية النضج، وصحي أكثر، فلا تنبعث منه روائح الغاز كحال الأفران الأخرى”. في حين ترى جارتها أم حسن في فرن الغاز ميزة الإنتاج السريع، لأن فرن الكهرباء لا يتسع إلا لطبق واحد بينما يتسع فرن الغاز لثلاثة أطباق ، وأنها كانت تحتاج أضعاف الوقت الذي استغرقته في شيّ الكيلوغرامات العشر من الكعك لو استخدمت الفرن الكهربائي .
أثناء مرورك في أي حي من أحياء إدلب ستطالعك رائحة الكعك الزكية، تعبر نوافذ البيوت باتجاه الحارة، تلك الرائحة يشمها خليل الموسى (أحد سكان المدينة) أثناء عودته من صلاة التراويح يقول: “كنت أتثاقل في سيري، كي استنشق أكبر قدر من تلك الرائحة”.
عودة للماضي
تعود بنا الحاجة أم أحمد لذكرياتها مع كعك العيد في مدينتها مورك بريف حماة الشمالي، تتذكر كيف كانت والدتها تستخدم التنور الطيني المعد لصنع الخبز في شيّ الكعك أيضاً، تروي كم كانت سعادتها غامرة وهي في سن العاشرة بعد أن سمحت لها والدتها أن تلصق كعكاتها الخمس للمرة الأولى على جدار التنور الحار.
تقول أم أحمد أذكر أن نار التنور كانت خامدة إلا أن وهجها كان كفيلاً بأن يترك أثره على أصابعي أثناء نزع الكعكات من على جدار التنور بعد نضجها، “وقتها عرفت ليش في طاسة ماء دايما جني أمي أثناء الشغل”. كانت الجارات تجتمعن حول التنور منذ الصباح الباكر ويستمر عملهن لبعد الإفطار في أحيان كثيرة.
بعد استواء الكعك كان النسوة يصنعن منه قلائد عبر ضم الكعكات بخيط قطني، أو تعلق بحبل رفيع يمر من وسط الكعكات، وينصب بين جدارين في غرفة المعيشة. حتى إذا قدم زائر لهم يكفي أن يقوموا بكسر بضع كعكات وتقديمها للضيف مع ابريق الشاي دون الحاجة لفك الحبل. ويظل هذا الحبل قائما لأشهر طويلة، فكمية الكعك التي يعدها البيت الواحد في تلك الأيام تزيد عن عشرين كيلو غراماً.
وبين تلك الحبائل والقلائد كنت ترى كعكة أو اثنتين بأحجام أكبر من باقي الكعكات، رسمت عليها نقوش بديعة تتفنن النسوة بنقشها بواسطة كشتبان الخياطة المعدني أو المكوك الصغير، تسمى تلك الكعكة بكعكة العيد “تبقى معلقة على الجدار ولا تسمح والدتي لأحد بأكلها إلا بعد نفاذ كمية الكعك كلها” تقول أم أحمد.
حاولت الحاجة نجمة الحمود مع جارتها أم عبدو إعادة إحياء ذكرياتهن مع كعك التنور، وكانت التجربة ممتعة كما يصفنها، لكن في هذه المرة استخدمن “الكارة” لوضع الكعكات داخل التنور تجنباً لحراة النار، وكونها أسرع من إلصاق الكعكات براحة اليد واحدة تلو أخرى، كما وضعن صفيحة حديدية تحفظ الكعك المتساقط من الاحتراق في حال سقطت داخل النار. تحمل كعك العيد الناضج بين يديها وتصف بعناية داخل وعاء وهي تتذكر “التنور” القديم في مدينتها كفرنبل آملة “أن تكون خبزة العيد القادمة في بيتها المحتل”.