فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

معبر الموت في بستان القصر بحلب -إنترنيت

النجاة من معبر الموت العالق في ذاكرة الحلبيين وحكاياتهم

فريق التحرير

في هذا البرزخ ( معبر الموت) كان قناص مزاجي يمارس هوايته في إهداء الموت والحياة للعابرين منذ نحو تسع سنوات، قُسمت حلب إلى شطرين يصل بينهما معبر يفصل بين عالَمين. […]

في هذا البرزخ ( معبر الموت) كان قناص مزاجي يمارس هوايته في إهداء الموت والحياة للعابرين

منذ نحو تسع سنوات، قُسمت حلب إلى شطرين يصل بينهما معبر يفصل بين عالَمين. معبر بستان القصر أو “الموت”، كلا التسميتان كانتا مألوفتان لدى السكان، وكان قناص القصر البلدي يحدد في كل يوم هوية القتلى، يعتقد في قرارة نفسه أنه يمارس دور  الإله، ويترك المارة أمام خيار العبور الأخير أو الموت المؤجل لعبور آخر.

هوية، جواز سفر، حذاء

كنت أحد استثناءات هذا العبور، فالموت بالنسبة لي كان خيار القناص كالجميع، ذلك أن خيارات الأخير محكومة بشكل صباحه وطبيعة الرهان مع أصدقائه على الدريئة.

يضاف إليها موتان محتملان على الحواجز في طرفي المعبر، شرقيه وغربيه، فخانة “هويتي” تشير دون لبس إلى مذهبي “العلوي” الذي وُلدت به، وجواز سفري منحني هوية مواربة أوسع تشير إلى حماة، هنا يمكن أن أكون “علوية أوسنية أومسيحية أو مرشدية أو اسماعيلية”، هذا الوُسع يمنح شيئاً من الأريحية والقدرة على المشي فوق خيوط النجاة.

“الهوية” كانت الوثيقة التي أعبر من خلالها حاجز النظام، وجواز السفر كان الوثيقة التي أعبر فيها حاجز المعارضة، خطأ واحد في اختيار الوثيقة المناسبة عند الحاجز المناسب قد يكلفني حياتي.

في أول عبور لي، احترت أين أخفي “الهوية” و “جواز السفر”، ودون عناء اخترت حذائي، أضع فيه جواز سفري حين أمر على حاجز النظام، وحين يكون الناس مشغولين بالنجاة من القناص كنت أحرص على تبديل سريع، بقلق وخوف لا يقل عن خوفي وقلقي من القناص، أدس هويتي في حذائي، وانتشل جواز السفر لأبرزه عند حاجز المعارضة.

في معبر الموت، وفي لحظة خاطفة، كانت الهويتان –البطاقة الشخصية و جواز السفر – تلتقيان في حذائي, ترى هل قالا شيئا لبعضهما البعض، هل وبخا حذائي مثلاً على هذا الفرز القاتل، ربما حدث و لم أسمعه لانخطاف أنفاسي من القناص، هو أيضا كغيره ارتبط في ذاكرتنا بالبسطار، الحذاء العسكري.

من المؤلم أن مشهد الموت ذاك، تقرر ه كل تلك الأحذية

“وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون”، رددي هذه وستكونين، بإذن الله، بمنأى عن أعين القناص، هذا ما أوصتني به سيدة في منتصف العمر تنتمي إلى حي بستان القصر، تتردد باستمرار بين المنطقتين رافقتني مرات عديدة.

بين طرفي المعبر كانت قلوب الناس كلها لا تتجه شرقاً ولا غرباً، بل إلى رب السماء، وهو التوجه المنطقي بمواجهة  كل ذاك العبث واللامنطق  الممعن في استسهال القتل المجاني، فالمسافة خلال هذا العبور بينك وبين الله قصيرة، لا تتجاوز ٣٣ ميلي متراً، وهو طول رصاصة القناص المحتملة في كل عبور.

يتجمد الزمن في عروقك في مسافة أقل من كيلو متر واحد تُشكل طول الطريق في معبر بستان القصر، أما أنا فالزمن عندي كان يتوقف حتى قبل دخول المعبر، حين أقف عند حاجز النظام أبرر عبوري وأخاف انكشاف أمري، ولا ينتهي حتى عندما يصل كل الناس إلى بر الأمان، إلى طرف المعارضة، هناك أيضا أضطر للتبرير. في إحدى المرات سألني أحد الرجال على الحاجز قائلاً: “لم صورتك في  الجواز دون حجاب”.

أجبت بعفوية ودون تردد:  لم أكن قد اهتديت حينها، كما أنا الآن وبفضلكم.

أغادر  عالم السائل المنفصل عن الواقع، إلى عالم  آخر لا يشبهه، عالم سكان حلب الشرقية الممتدة تحت سماء تُمطر قذائف وبراميل متفجرة ورصاص،  هناك يدفن الشهداء في قبورهم وادعين، بينما يرقب الجميع فرجاً بحرية مشتهاة.

الميت كان طفلاً وحاملة النعش كانت عربة خضار

في العبور أدخل حالة لا بد منها، استرجاع ما مرّ بي وأجلت التوقف عنده. كان طريق كل شيء، تاجر ينقل بضائعه، طالب تقتل رصاصة طموحاً صانه منذ الطفولة وكبر في داخله، موظف لا يملك قوت يومه يحاول الوصول إلى عمله قبل أن يفصل، مرضى، أدوية، حليب أطفال..

تلك تفاصيل تشاهدها في كل موجة عبور.. لكن أن تنقل “جثة” في معبر للموت، خلال مروري الأول، ذلك ما سيرافقني لساعات طويلة. الدفن في مسقط الرأس “جبانة العائلة” كان ما يشغل بال من يدفع العربة، ووصول الجثة كاملة كان ما يشغل من سيتسلمها في طرف المعبر الآخر، ليواريها التراب بجانب أحبائها.

على عربة الخضار، انساب الكفن عن وجه الطفل/ الجثة، ظننته يناديني، لم أكن أسمع صوته الممتزج بضجة الخوف والصراع بين الحياة والموت، وحين التفت إليه، خاطبني بـ “الغريبة”، وطمأنني “أن لا أحد سيراك غيري”.

ساكنة واجمة وتائهة أيضاً، يمكن أن أصف نفسي  خلال رحلتي الأولى، قسم مني يحاول العودة “ارجعي إلى مكانك”، آخر يخبرني “اتبعي قلبك دائماً”. اتبعي الأخير فهو بوصلتك.

هل ينتظرك في مكان قريب

كنت لم ألتقيه منذ أشهر، فصلتنا آمال ببلد حر و طموح بالانعتاق إلى غد لا مكان لعبودية أطفالنا فيه، حالت بيننا عشرات الحواجز ومخاوف لا طائل من نكرانها، كلفتنا الكثير من الشوق والحرمان وذرفنا لأجلها الكثير من الدموع.

كان صحفياً  اختار التواجد على الجانب الآخر مع أصدقائه يوثق بعدسته جرائم ووحشية كيان لا يرحم، ويخط بقلمه أوجاع الناس و آمال الضحايا التي سكبت بين أنقاض المساجد والمدارس و المستشفيات وحتى أحجار منازلهم وهم نيام. اعتقل وسجن وعذب في أقبية المخابرات، ودفعت أنا ثمنها غربة مزدوجة ووحدة في الطرف المقابل.

كنت قد التقيته في مقر عمله آنذاك جمعنا ملف فساد كانت قد وقعت عليه يدي مصادفة، أردته أن يفضح السارقين على الملأ وتتناقله الصحف الالكترونية حتى يعجزوا عن تجاوزه أو كتمانه من جديد.

أحببت نزقه، عرف عنه كتابة تحقيقات جريئة، كان نزيهاً وإنساناً، باختصار كان حينها الغريب المألوف لضالتي، كنت أبحث عنه كما كان يبحث عني.

تردد كثيراً قبل أن يقترح عبوري إليه، خاف أن يكون سبباً بأذيتي، لم يستطع قبلاً الطلب مني القيام بمغامرة كهذه، هي مقامرة على جميع الصعد، كان يقول، وأمام إصراري على المجيء، استسلم لرغبتي أخيراً، اتصل بي متردداً: يمكنك المجيء إن أردت، “ارتد شيئاً يشبه زيّ سكان تلك الأحياء، لا تلفتي انتباه أحد سأنتظرك أمام الجامع”.

أنا قادمة، قلتها بثقة مطلقة دون تردد، لا أعلم لماذا. ارتديت ثياباً مناسبة، لففت حجابي وحاولت إخفاء لهجتي قدر استطاعتي ..قلة الكلام كان الحل الذي التزمته، فتاة لا تنتمي لحلب الا بوجدانها وعاطفتها، ابنة مصياف بلباسها ولهجتها عليها أن تكون حلبية بكل ما فيها من رأسها حتى أخمص قدميها .

يبتسم الطفل المسجى على عربة الخضار  في وجوه المارة:”ربما أحدكم سيكون مكاني اليوم أو غدا”، يسرع رجل برد الكفن من جديد، تجر العربة ما تبقى من ملامح الطفل تحت ظلال القماش مختفية بين الزحام لتتلاشى عن ناظري .شعرت بغصة، كان مؤنسي الوحيد في رحلتي.

أنا الآن أحد أشباحه

أتابع رحلتي لا يرمش لي جفن وكأني ألفت الحياة في معبرها خلال دقائق، سألت إن كان يسكنني هذا الموت من قبل قبل أن أطرد الفكرة من مخيلتي.. لا يهم، لا فرق، فأنا الآن أحد أشباحه.

يستوقفني الحاجز: هويتك، أخرج جواز السفر، وسيلتي شبه الآمنة للعبور ، فهويتي تختبئ في حذائي تعقر كاحلي تقيد حرية امتداد قدمي تؤدي عملها بأمانة. يعتقني إلى سبيلي مستمراً بتفحصي وأنا أسرع الخطى مبتعدة عن ناظريه خوفاً من أن يوقفني من جديد .

ألمحه من بعيد تسلبني ابتسامته أثقال هول ما سمعته وشاهدته في رحلتي المتعبة ، تهدهدني نظراته بحنان “لا تقلقي أنت في أمان الآن”. ركبنا سيارة كان قد اشتراها حديثاً، جلسنا كالغرباء ننظر إلى بعضنا البعض دون أن ننبس بكلمة واحدة، نبتسم تارة وتغلبنا الدموع تارة أخرى، يقود بحذر مبتعداً بي عن معبر الموت، أنظر إليه في المرآة يبتعد وتبتعد عربة الطفل ..رصاصة القناص.. أحاديث لذاكرة مؤجلة.. وموت محتمل.

داليا شاعر