تتفاوت لغة الخطاب في كل مرة يحاول فيها سياسيونا تمرير فكرة أو تصور عن مرحلة سورية قادمة، وفي هذا الإطار نغيب “نحن” عن مسألة التواصل لنقف أمام مفهوم واحد، لماذا لا يقولون ما نفهم؟ في الوقت الذي يكون لسان حالهم، لماذا لا تفهمون ما نقول، وتؤولونه فقط بما يخطر في بالكم؟
الحقيقة أننا بعيدون، ضمن هذا المفهوم، عن معرفة هيكلية هذه المؤسسات السياسية السورية ، لغتها، نظامها السياسي، أهدافها، وكذلك ما تسعى إليه. والخطير ضمن هذه الحقيقة أننا أيضاً، غير مبالين، في تحقيق هذه المعرفة والسعي وراءها. وضمن هذه اللامبالاة، التي تدركها جيداً الأجسام السياسية، يحاول متزعميها إتحافنا عند كل مفترق بجملة من الخطابات المؤثرة التي تحاكي مفهوم الثورة والحرية والديمقراطية، لتبقى على شكل شعارات تعزز انقساماً قائماً على الشخصنة والانتقاد ضمن قلق نعيشه من أننا سنقع دائماً في زاوية “نهدم بيد ما نبنيه أو بنيناه بيد أخرى.
يقرأ أحد الصحفيين السوريين على مسامعنا سؤالاً يراه “كارثة” وأعتبره محقاً، هل الجميع “مثلي” بعيدون عن السياسة السورية في أروقة المعارضة، الخلاف بين المنصات الكثيرة والائتلاف والتكتلات، يضمن عدم القدرة على تشكيل فهم واضح وتصنيف الشخصيات للمضي خلف مشاريعها أو أفكارها، إن وجدت. تأتي الإجابات “مرعبة” حقاً، الطبيعي أننا كلنا خارج هذا النطاق، جميعنا لم نفهم بعد ولم نتموضع، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد، وعليه فمن يعطي الشرعية لهذه التكتلات للحديث بأسمائنا وتقرير مصائرنا وتمثيلنا أمام المجتمع الدولي، أو على الأقل تمثيلنا أمام أنفسنا.
غياب لغة التواصل هذه وما رافقها من فقدان للمعرفة شكلت حالة من التخبط يصعب معها تمرير رأي واحد أو حل لأي مشكلة صغيرة كانت أو كبيرة، وهو ما أثر أيضاً على فرضية أن يكون هناك حل سياسي قريب في سوريا وما يترتب عليه من اتفاق على شكل الحكم القادم، المحاسبة، عودة المهجرين واللاجئين، إخراج المعتقلين في السجون ومعرفة مصائرهم إلى آخر هذه القائمة التي ستطول لا محالة.
ليس الأمر بهذه السهولة، لكن ما عزز صعوبته عدم اتخاذ أي خطوة في هذا الاتجاه، وتهميشنا دائماً دون محاولة منهم لدمجنا ضمن هذه الاستحقاقات، ورفع سوية اهتمامنا، من عدم الجدوى إلى المحاولة بعيداً عن اليأس المطبق علينا، والذي نرده نحن لعدم الفهم وغياب الثقة، في الوقت الذي يرى فيه سياسيونا أننا “محبطون ومحبطين”، وأن غيابنا ربما يكون أفضل من حضورنا، خاصة مع يقينهم أن الحل السوري لا يقرره السوريون أنفسهم بل يرسم في أروقة الدول الكبرى، وعلينا تنفيذه دون قدرة على رفضه أو تعديله.
هم أيضاً لا يفهمون ما يقولون، بعيداً عن الكلمات المفتاحية التي يقنعون أنفسهم بها ضمن خطابهم النخبوي، يقتطعون ما يريدون من مفردات ويقذفونها في وجوهنا كتعبير عن الرأي غير آبهين بردات أفعالنا، طالما أنها لن تتعدى صفحات الفيسبوك، وحملات من السباب والشتم والمقاطعة، هي نفسها ما تزيد من شهرتهم ومعرفة أسمائهم التي تغيب عن أذهاننا إلا في مثل هذه الحالة.
إن مشكلتنا الأساسية مع نظام الأسد كانت في إمساك طغمة حاكمة بخناقنا ومحاولة تجهيلنا وإبعادنا عن الحياة السياسية، وتنمية أفكارنا للوصول إلى الفهم، ليس لأننا لا نجيد ذلك ولا نمتلك الموهبة ولكن، فقط، لأنهم لم يريدوا لنا ذلك.
في الراهن الحالي، تمسك تيارات مختلفة بخناقنا أيضاً، وتبعدنا بشكل أكبر عن التدخل في حياتنا بصفتهم أوصياء علينا، الفارق الوحيد هنا أنهم يسعون إلى أن يكون هذا الإبعاد قراراً اتخذناه بأنفسنا، وكأن سوريا بعيدة جداً عنا نحن السوريين، وأن ما يدور فيها يعني بالضرورة المواطن التركي والروسي والإيراني والأمريكي إلى آخر القائمة، دون أن يعنينا نحن، أصحاب الحق والأرض والانتماء. مع الاكتفاء بأشخاص “واجهات” سورية لتنفيذ هذه القرارات، والسعي لأن يكون الخلاص حلاً للمشكلات التي غرقنا فيها، من موت وفقر وتهجير وخيام.