ينقل طارق رفقة زميله القضبان المعدنية داخل الشركة التي يعملان بها منذ لجوئهما إلى لبنان، الشهادة الجامعية التي يحملها (طارق مهندس بتروكيماويات في سوريا) لم تنفعه بإيجاد عمل مناسب، لكنها كانت تدفعه في كل مرة إلى التباطؤ عند وصوله إلى قسم الدهانات في الشركة، يحركه الفضول لاستراق النظر، أحياناً لإلقاء حزمة من النصائح والإرشادات للعمال اكتسبها من دراسته وعمله السابق في معمل دهان في مدينة حمص قبل تهجيره منها.
“أنت أبرد من مؤخرة السقّا”، يخاطب مسؤول العمل طارق ما يدفعه للإسراع نحو ورشة الحدادة في “الهنغار” المجاور، فيما يترك عمال البويا وراءه غارقين في ضحكهم.
يداه المسودتان من حمل القضبان المعدنية وثيابه المتسخة تحولان دون إضفاء طابع الصدق على كلامه حول دراسته. وسط سخرية من حوله يخبرنا طارق “لا قيمة لشهادته في هذا المكان، هو هنا عامل حدادة وفقط”.
قبل ستة أعوام انتهي مطاف النزوح بطارق وزوجته وأولاده الثلاثة في جنوب لبنان، قصد خاله الذي كان يقيم في الصرفند ويعمل في الشركة ذاتها منذ خمسة عشر عاماً. قبل أن تنتهي أيام الضيافة شرع طارق بالبحث عن وظيفة يحمل معه شهادة الهندسة التي انتزعها من جامعة البعث ويراها أحد كنوزه التي خرج بها من بلاده، بالإضافة إلى زوجته وأولاده.
كانت بيروت وجهته الأولى، فهي العاصمة وإليها يحج المهندسون والباحثون عن عمل كـ طارق، والذي صار برتبة لاجئ مهندس. لم تجد كل محاولته بالبحث عن وظيفة، فقد كان في كل مرّة يصطدم بجدار الرفض في كل مكان يذهب إليه سواء في بيروت أو خارجها. يقول طارق” أحدهم قال لي:” المهندسين عنّا على قفى مين يشيل، والشاطر يللي بيطلع لبرّا، نصيحة لا تعذب حالك وروح دورلك على شغلة تانية”. محاولاته اليائسة والكثيرة جعلت تفكيره ينصب في سؤال واحد: ماهي مهنتي الجديدة؟.
تتقلص فرص حصول اللاجئين السوريين ممن يحملون شهادات جامعية في الحصول على وظائف ترضي رغباتهم، يمنعهم عنها امتناع السلطات عن توظيفهم، وحصرهم في أعمال كالزراعة والبناء والتنظيف. أوفرهم حظاً من امتلك وظيفة داخل مجاله أو فيما يشبه تخصّصه، براتب أقل من الموظف اللبناني، وبعيداً عن أعين مراقبي وزارة العمل.
في الآونة الأخيرة ومع اشتداد الأزمة الماليّة في لبنان وقدوم كورونا أصبحت فرصهم شبه معدومة. وأصبح التحدّي الأكبر لهؤلاء البقاء على قيد الحياة، دخل كثير منهم ميادين العمل الثلاثة “زراعة، بناء، تنظيف” وانخرطوا في أعمال شاقة، الأمر الذي جعلهم في موضع هشاشة كونهم يعملون في أعمال لم يألفوها ولم يتقنوها من قبل، وغير قادرين على تحمل المشقة والتعب داخلها، ما ينهك أجسادهم ويضيف إليهم معاناة جسدية من تعب وإرهاق وآلام مستمرة، ومعاناة نفسية تبدأ برفض الواقع والتذمر من الحال التي وصلوا إليها ولا تنتهي بالسخرية والتنمر الذي يلقونه من بعض زملائهم في العمل. وسط عجزهم في الوقت ذاته عن فعل أي شيء.
محكوم بالأشغال الشاقة
لا ينسى طارق أول يوم قضاه في مهنته الجديدة، يومها قضى أكثر من إحدى عشرة ساعة تحت الشمس، وهو يعمل في صب الباطون. تحت حرارة لامست الأربعين درجة مئوية كان متسلّحاً بجزمة سوداء وصلت حدود ركبتيه، إضافة إلى قبعة منحه إياها المسؤول” الفورمان”. يخبرنا أنه لا وقت محدد للعمل، نفاد كمية الباطون تحدّد ساعة عودتك للمنزل.
يقول طارق إنه لم يكد يعرف نفسه بعد وصوله للبيت، لا أحد من أولاده اقترب منه، حتى زوجته كانت ترمقه بنظرات غير مألوفة، كأنها كانت تقول في سرّها “من هذا؟”، كانت تنظر إلى بقع الباطون المتيبسة على ثيابه، إلى يديه المغبرتان بالاسمنت، أفرجت بعدها عن كلمة
“يعطيك العافية”.
“لم أكن أتصور أن هذه الرائحة النتنة التي تخرج من جسدي وقدماي بعد خلعي لحذائي مصدرها أنا، لوهلة أحسست أني صرت إنساناً آخر، المهندس طارق لم يعد موجوداً، حل محله طارق العامل واللاجئ”، ويضيف بحرقة:” دخلت في نوبة من الكآبة واليأس لازمتني فترة طويلة، ولا زالت أعاني تداعياتها حتى اليوم”.
تنقل طارق ضمن عدد من المهن الشاقة، كان آخرها الحدادة، وذلك في ورشة داخل الشركة التي يعمل بها خاله. “لم أعرف عملاً هينا أو صعباً، كلّها شاقّة، على الأقل هنا الشمس لا تحرق أجسادنا”، وعلى الرغم من وجود اختصاص يتعلق بدراسته داخل أروقة الشركة إلا أنه فشل في الحصول على وظيفة. كانوا دوماً يخبرونه “نحتاج عمّالاً لا مهندسين”.
يواجه الأكاديميّون السوريون تحدّيات كبيرة في سوق العمل، وتشهد ساحاتها منافسة قوية بين العمّال السوريين واللبنانيين وصلت أحياناً إلى اتهام السوريين بسرق لقمة العيش، وسلب اللبنانيين فرص عملهم، مع تناسي أن أرباب العمل يوظفون سوريين في ظروف سيئة عنوانها الاستغلال والأجور المنخفضة. وهنا يجد الجامعيّون أنفسهم في الموضع الأكثر هشاشة، وبالإضافة إلى ما سبق يتوجب عليهم امتلاك مميزات أخرى كبنية جسدية قويّة والعمل لساعات طويلة و”أيام العطلة أحياناً” وإثبات جدارتهم في أي مهنة لنيل استحقاق البقاء فيها.
محمد الخلف هو مقاول لبناني في الإنشاءات، يخبرنا أنه كان في أغلب الأحيان يمتنع عن تشغيل سوريين من أصحاب الشهادات، “أعمال البناء تحتاج قوة بدنية وقدرة على التحمّل”، ويضيف أنه ذات مرّة قبل بتشغيل شاب سوري قال إنه كان يعمل طبيب بيطري، وذلك بدافع الشفقة، فاختار له الخلف مهنة البلاط باعتبارها الأسهل، وطلب منه النوم في الورشة.
” كنت أشاهد معاناته في كل مرة كان يحمل بها كيس الإسمنت، بعد أسبوع استيقظ العمال ولم يجدوه، حزم أمتعته وغادر”.
سميح الزين هو لاجئ سوري كان يعمل كمحاسب صندوق في سوبر ماركت بمدينة صيدا، وذلك قبل أن يتم تسريحه مع عدد من الموظفين لتخفيف النفقات إبان الأزمة المالية اللبنانية. يعتبر سميح عمله السابق رفاهية قياساً بعمله الحالي في البناء، بالرغم من أنه كان يعمل اثني عشرة ساعة تقريباً. ويقارن بين الوظيفتين:” كنت أقوم بعدة تمارين رياضية عندما أستيقظ كي أتخلص من ألم الجلوس الطويل على الكرسي، أما الآن أستيقظ وأشعر بأني أحمل خزّاناً على ظهري، ولا أقوى على ممارسة الرياضة”. ويضيف “كلّ الخيارات أمامنا مرّة، الحصول على عمل بالمحاسبة أو أي مهنة في هذا الوقت حلم “.
يخبرنا أنه في الآونة الأخيرة امتنع عن زيارة الأطباء، فقد كان آخرهم يخبره أنه بحاجة لفترة طويلة من الراحة، أو البحث عن عمل جديد لا يكون متعباً، فيما اكتفى الزين بعلاج نفسه من صيدليته الصغيرة في منزله، والتي تحوي الكثير من المسكّنات.
وتعد مهنة البناء من الأعمال الشاقة لما تنطوي عليه من مشقّات وجهد جسدي واستنشاق للغبار، وتعتبر أيضاً خطرة نتيجة العمل في الأماكن العالية( قد تسبب السقوط من المباني)، والتعامل مع أدوات خطرة. وكشفت دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية استهدفت 2004 لاجئاً “، أن نصف العاملين يعانون آلاماً في الظهر أو المفاصل أو يشتكون من الإرهاق الشديد، و60% منهم معرضّ للغبار والأبخرة، ويعاني 49% منهم من حالات زكام أو حمى شديدة. وأن 47% من اللاجئين بات عاطلاً عن العمل، وتدنت نسبة الجامعيين في ميدان العمل إلى 3% فقط”.
ويلفت الانتباه سميح الزين إلى أنّ موجات اللاجئين القادمة من سورية والمحمّلة بأصحاب الكفاءات العلمية، قد كسرت حاجز النمطية القديم عن صورة العامل السوري” عامل بناء، مزارع، ناطور بناية”، ويقول الزين أننا كنا نشهد توظيف جامعيين في فنادق وخدمات الاستقبال ومستشفيات وصيدليات وشركات تجارية وعقارية، وأصبح السوريون ينافسون اللبنانيين في مختلف القطاعات. إلّا أن الإجراءات الحكومية ضيّقت الخناق على الآلاف منهم، والذين يعيشون في بلاد تعاني في الأصل من بطالة وأزمات ماليّة متلاحقة.
ثالوث العمل في قرار الوزارة
البناء والزراعة والنظافة هي فقط المهن التي يحق للسوريين مزاولتها مهما كانت كفاءاتهم، وذلك بناء على قرار وزارة العمل الصادر في 16 كانون الأول عام 2014، وقد شهد سوق العمل في الأعوام التي تلت صدور القرار وصولاً لبداية الأزمة اللبنانية تشديداً في المراقبة والتفتيش، ليس فقط في المحلات والمنشآت الصغيرة بل الشركات والمصانع الكبرى التي كانت تشغل سوريين من أصحاب كفاءات علمية.
مصطفى السعد وهو لاجئ سوري خريج كلية الآداب، ذكر أنّ القرار حرم المئات من وظائفهم، كما عزز الاستغلال الوظيفي بالعمل لساعات طويلة لقاء أجور متدنّية تساوي نصف أجرة الموظف اللبناني على قاعدة” عمنشغلك بالسرقة”.
ويخبرنا السعد إلى أنه لطالما تحوّل إلى عامل نظافة عند زيارة مفتشي الوزارة للمكتبة التي يعمل داخلها.” مؤخراً أصبحت وظيفتي أيضاً”، ويضيف: أنه أول من يدخل المكتبة وآخر شخص يخرج منها، وبالرغم من عمله لساعات إضافية لا يحصل على الأجر الذي يستحقّه، كما أنه يضطر أحيانا للعمل يوم العطلة.
وتوضح دراسة للمؤسسة اللبنانية للاستخدام وجمعية تجار بيروت بعنوان ” اليد العاملة في المؤسسات التجارية والخدماتيّة”، إلى أن تدفق السوريين إلى سوق العمل ساهم بارتفاع معدل البطالة من 11% إلى 21%، وزاد من حدّة المنافسة غير العادلة وغير المشروعة بين العمال اللبنانيين والسوريين، فضلاً عن أنه سبب اتساع حجم سوق العمل غير النظامي وخفض مستويات الأجور.
وتقول الدراسة إن الوجود السوري في سوق العمل يسبب ضرراً كبيراً باللبنانيين، وبشكل أخص بالشباب والنساء وأصحاب المهارات العالية والشهادات الجامعية، باعتبار أن مستويات البطالة مرتفعة ومقلقة لدى الشباب اللبناني.
لا توجد منطقة رمادية تحوي السوريين من أصحاب الكفاءات العلميّة، بل على العكس كانوا أول المستهدفين في قرارات وزير العمل سجعان قزي الذي قال إن لبنان لم يعد يتحمل وجود مليون ومائة وخمسين ألف يد عاملة سورية وفلسطينية تنافس اليد العاملة اللبنانيّة.
جميع من تحدّثنا معهم من المتعلمين السوريين أكدوا لنا أن المجالات التي كانوا يعملون بها قبل خسارتهم لعملهم لا تلبي طموحاتهم، باعتبار أن لبنان يعاني بالأساس من البطالة، إذ كان من الصعب الحصول على عمل في تخصص كل منهم، لكن بقيت أعمالهم تدور في فلك تخصصاتهم أو ما يشبهها، ومع ذلك كان الوضع سابقاً أفضل من الآن.
ولفهم هذه النقطة يقول عامر العلي وهو مهندس مساحة، إن الشركة العقارية التي كان يعمل لصالحها وظّفته وكيلاً على الورش، يراقب العمال وإنتاجهم ويستلم مواد البناء ويقوم ببعض الأعمال الإداريّة، وفي الجانب السلبي يشير العلي أنه كوكيل لم يكن يحصل على حوافزه، حتى لم يتم منحه سيارة كباقي المهندسين، “كان الرضا والقبول شعارنا في العمل”، ومؤخّراً لم يكلف طرده شيئاً إذ إنه موظّف غير مصرّح به قانونيّاً.
“كنت أراقب العمال وصرت منهم” يخبرنا العلي عبر واتس آب، “أعمل مع أحدهم شغيل دهّان”. لم يكن أمام محدّثنا فرصة بالحصول على أي عمل حتى اللحظة، بحث أياماً طوالاً إلى أن انتهت نقوده ونفدت مؤونة بيته وجاع أطفاله كما أخبرنا.
مهندس ومزارع وعامل وعتّال
“على الحكومة اللبنانية تطوير برامج لخلق فرص عمل شاملة، وتخصيص نسبة من هذه الوظائف للاجئين السوريين، ومنح الإقامة القانونية وتصاريح العمل للذين تم اختيارهم في هذه الوظائف”.
– سحر الأطرش من منظمة اللاجئين الدوليّة
أمجد الأحمد مهندس زراعي يعمل في شركة متخصصة بالمشاتل، وهو ما ساعده على إخراج تصريح قانوني بالعمل، إذ تم تسجيله كمزارع.
يقول بامتعاض إنه لا يتقاضى أكثر من نصف أجرة زملائه المهندسين، مع أنه يتفوق عليهم بعدد ساعات العمل، بالإضافة إلى حرمانه من الحماية القانونيّة “عقد عمل” والحوافز والضمان الاجتماعي. ويخبرنا أنه يعمل كمزارع وعامل وعتّال داخل الشركة، فيما يقتصر عمله كمهندس على التحدث مع الزبائن عن الأصناف بطريقة علمية.
ارتفاع أجور السكن وانعدام فرص العمل دفعا أمجد للقبول بهذه الوظيفة التي يراها استغلالاً له، فهو يعيش في غرفة خشبية لدى الشركة بالقرب من المشتل، في حين وصلت كلفة أجار المنزل وفواتير الكهرباء والمياه ما يعادل المعاش الذي يتقاضاه، كما يروي.
يبحث أمجد عن وظيفة أخرى، فعمله الشاق وساعاته الطويلة جلب إليه ديسك الرقبة. في الوقت ذاته يفاضل ضمن دائرة خياراته ضيقة، آخذاً بالاعتبار السكن المجاني والراحة البدنيّة عنواناً لوظيفته المرجوّة، سواء في مجال اختصاصه أو أي مجال آخر.
يقول أمجد إنه كان بصدد العثور على فرصة عمل خارج لبنان، وذلك بواسطة منظمة مهارات بلا حدود، بعد تأكّدهم من شهاداته وخبرته. لكنه تعثر في أول مكالمة صوتية عبر الواتس آب، إذ طلبوا إليه التحدّث معه لعشر دقائق باللغة الإنجليزية التي لا يتقنها، وقيّم مستواه “ضعيف جدّاً” وتم رفضه.
ممنوع من التدريس
على صعيد التعليم، أوضحت رابطة التعليم الأساسي في بيانها أنه لا بد من أن يكون المعلمين الذين يقومون بتدريس اللاجئين السوريين من الجنسية اللبنانيّة، سواء كانوا في الملاك أو بالتعاقد، وسواء كانوا في التعليم الصباحي أو المسائي أو التعليم غير النظامي، كون الطلاب يدرسون المنهج اللبناني.
من جهته أشار مستشار وزير التربية صلاح تقي الدين في حديثه للشرق الأوسط، إلى أن مبادرات تعليم السوريين أتاحت فرص عمل لأكثر من 12 ألف لبناني، العدد الأكبر منهم معلّمين، وفي نطاق أضيق مرشدين اجتماعيين ونفسيين.
إسماعيل حاج حسين كان آخر المغادرين والمودّعين لقريته (بليون) في جبل الزاوية من بين أفراد عائلته، يخبرنا أنه كان ينتظر الحصول على شهادته الجامعيّة ” تربية، معلم صف” من جامعة إدلب.
يقول إنه كان متسلّحاً بشهادته في كل زيارة لمدرسة بغية تقديم طلب توظيف، لكن عامل اللغة الإنجليزيّة والمنهج اللبناني المعتمد، بالإضافة إلى النظرة المتدنّية للجامعات السورية، من أهم الأسباب التي منعته من وضع قدمه داخل الصفوف اللبنانيّة، وذلك بعد محاولات عديدة ويائسة، ليجد نفسه بين أخوته في ورشة لتلطيش الحجارة، ويفترق عنهم بعدها بسنتين لمشقة هذا النوع من الأعمال، إذ يعمل الآن ويعيش كمزارع في بستان في قرية برته شرق صيدا.
يوضح حاج حسين أن فرص المعلمين السوريين مقتصرة على العمل مع المنظّمات والجمعيات الغير حكومية، وبشكل تطوّعي، مقابل بدل مادي لا يكفي أجور المواصلات وثمن دخانه.
تموت شهاداتنا وتتغيّر ثيابنا
يقول بن فنس، مؤسس منظّمة “موزاييك”، “وهي منظمة مقرها المملكة المتّحدة تساعد اللاجئين السوريين على الوصول إلى التعليم العالي في سورية ولبنان”، إن 6% فقط من اللاجئين في سن الدراسة الجامعية مسجّلون في الجامعات اللبنانيّة، بينما كان حوالي ربع السوريين في سن الدراسة يدرسون في الجامعات السورية قبل الحرب، ويعزو ذلك إلى أسباب عديدة منها صعوبة الحصول على عمل بعد إنهاء الدراسة.
عدوى الخوف من عدم الحصول على وظيفة انتقل إلى أروقة الجامعة حيث يدرس الطلاب السوريون، وخلقت هاجس الخوف من البطالة، الأمر الذي دفع العديد منهم لترك الجامعة والالتحاق بسوق العمل، وذلك اختصاراً للوقت، وتجنّباً لخيبات مستقبلية حين لا يمارسون المهن التي اختاروها، بحسب من تحدّثنا إليهم.
أبو وليد كان يعمل مدرّسا قبل أن يدخل إلى لبنان بصورة غير شرعية، وهو رب أسرة مكوّنة من خمسة أفراد، يخبرنا أحد أقربائه أن الواقع المعيشي الصعب أجبره على العمل في “السنغرة” تمديدات صحيّة، ذات يوم أخبر زوجته أنه آخر يوم له في هذا العمل شاق، فقدماه تورّمتا من صعود الأدراج، وجسمه أصبح بالكاد يقوى على المشي. في اليوم نفسه وخلال عودته إلى المنزل أحس أبو وليد بالتعب، جلس بالقرب من شجرة، ليرتاح، شرب سيجارته الأخيرة، ثم مات.
توفّي الأستاذ أبو وليد ولم يكن وليد قد أتم سنته الجامعية الثالثة، بينما كان أسامة على أعتاب السنة الأولى. اختار الأخ الأكبر مهنة النجارة بعد تركه للجامعة وتسلّمه دفّة القيادة من أبيه، وما زال أسامة حتى اللحظة في الجامعة، ينتظر شهادته حتى يركب البحر قاصداً أوروبا.
من بين أشقائه الأربعة استطاع علي حجز مقعد له في الجامعة، يخبرنا أنه كان سيصبح أستاذاً ويحقق حلم والده، قبل أن يفكّر في ترك الجامعة. يقول إنه لم يفلح في إقناع والده برأيه، ودخل معه في جدالات وسجال تطوّر إلى أن ضربه وطرده خارج المنزل.
علي اليوم وبعد سنتين اقترب من أن يصبح معلم ميكانيك سيارات، في الواقع يقول إنه غير نادم، لديه عمل ثابت وراتب جيد، لكنه مع ذلك يشعر بغصّة ويتمنى لو أكمل دراسته.
“يا طنط”
” أكره تنمرهم علي، وبالذات أبو سيجارة بنيّة” يقول المهندس طارق مشيراً لزملائه وللمسؤول عنه في العمل الذي يدخن السيجار. خاصة كلمة “طنط” التي يطلقونها عليه نتيجة عدم اعتياده على العمل، يقول طارق “بالنسبة لهم، أنا مختلف عنهم ومنبوذ، ضعيف البنية وبطيء الحركة، وأبرد من مؤخرة السقا كما يقول المسؤول لي بتنمّر”.
يعيش كثير من المتعلّمين السوريين حالة نفسية صعبة، لقاء عملهم في مهن لم يروا أنفسهم فيها سابقاً، ويرغب جميع من تحدّثنا معهم بمغادرة لبنان. يقتاتون على أحلامهم التي ضاعت وانفجرت في لبنان، إذ لم يعد العمل بثياب نظيفة وخلف طاولة وكمبيوتر أحد أمنياتهم بقدر تأمين لقمة العيش والبقاء على قيد الحياة.
يقول المهندس أمجد الأحمد إن كل رنّة هاتف قد تمثّل أملاً له بالهجرة، ينتظر المفوّضية أن تخبره: “ملف اللجوء الخاص بك كان قيد الدراسة، وأنت مهيأ الآن للسفر إلى أوروبا، أعلمنا إذا كنت موافق”.