لطالما استوقفتني شرور الإنسان محاولاً فهم منشئها ودوافعها، وأجيّر كل ذلك لتأكيد أن الشر طارئ، والأصل في الإنسان هو الخير، منهج تفكير ساذج، لكن أحبه وأدافع عنه، وأرعاه.
أذكر في غمرة هذا الاهتمام بالشرور البشرية وقسوتها أنني غرقت مرةً في بحث غريب يتعلق بالسموم، هالني حد الرعب هذا المبحث، كم هو عتيق، تاريخه وتطوره واستخداماته وضحاياه، وأربكني تسخير الانسان جزء غير يسير من ذكائه وتطوره العقلي والعلمي في التفنن بقتل الآخرين بهذه الطريقة، بصمت وهدوء وخسة.
أكثر السموم كانت لفتا للانتباه تلك التي تقتل ببطء. لطالما حاولت عَيش لحظات ذاك الذي يعرف أنه سيموت عما قريب، ربما هذا أيضا ما دفعني إلى الجلوس متسمراً عند نافذة صغيرة في سجن حلب المركزي كانت تطل على مكان تنفيذ حكم الإعدام شنقاً، وكان سجينا قديماً تقصدت عقد صداقة معه فقط لأجل هذه اللحظة، أجلس وأنظر في الفراغ، وتتشكل أمامي مشاهد يروي تفاصيلها السجين، هكذا جيء بالمحكوم عليه بالإعدام، هذا يصرخ وذاك يقاوم وآخر غاية في الاستسلام وأحيانا وكأن المحكوم كان مستعجلاً لتنفيذ الحكم.
ما بين السم وانتظار الموت، يلح علي سمٌ يؤخذ من أحد أنواع الفطور، ربما اسمه فطر الذباب، هذا السم لا يقتل، بل يُسبب آلاما شديدة تزداد إلى أن يجد علاجاً، أو يستسلم الجسد تحت سطوة الألم، وفي حالات أخرى، يُنهي الذي تجرع السم حياته بيده، وينتحر، حيلة ماكرة للقتل، لكنها غاية في القسوة والحيوانيّة.
المقدمة الطويلة أعلاه، ليست توطئة لمقال لا عن الشر ولا عن السموم ولا عن الإعدام شنقاً، بل هي توطئة لمقال عن “الذاكرة”، ألح على كتابته صديق، وعلى مبدأ الصرخة التي يليها الاستسلام قال: “يا أخي أكتب أي شي”.
في العقد الأخيرة من أعمارنا، وبحكم معايشتنا للثورة السورية في البدايات، ثم ولا أقول الحرب، بل المحرقة التي قام ويقوم بها النظام في كل مدينة أو قرية خرجت من تحت عباءة عبوديته محولاً إياها إلى غرفة غاز مستلهما الدروس من صديق والده ومستشاره ألويس برونر، النازي الهارب إلى دمشق، والذي ساهم قبل ذلك في تأسيس منظومة الرعب الحارسة لنظام الأسديْن.
الذاكرة، ذاكرتنا نحن السوريين في السنوات العشر الأخيرة، بكل ما فيها من زخم التفاصيل، والوجوه، ليست كأي ذاكرة، أي مجرد بطاقات تحمل أسماء أو حوادث، مرتبة في رفوف الماضي، نستدعيها بسحب ذلك الدرج أو هذا، بل الذاكرة – ذاكرتنا نحن من كان يتنفس يومياتها ويوميات أناس غافلهم الموت ولم يكملوا أشياء كانوا يحدثوننا عنها- هذه الذاكرة، لأحداث لم تكتمل و لأعمار لم تكتمل، هي كائن حي، يعيش في دواخلنا، والناس في هذه المساكنة مذاهب، منهم من وجد صيغة ترضي الطرفين، ومنهم من ليس لديه ما يثير فضول تلك الذاكرة فتغادره إلى بئر النسيان، وآخرون لم يقدروا على ترويض الذاكرة، كبرت وصارت كائنا متوحشاً، يتغذى من روحك، وعقلك، وحتى من جسدك. مثل هذه الذاكرة تشبه فطر الذباب آنف الذكر، سمٌ يُسبب لك الألم ما حييت، وأمامك خيارين، أن تدع جسدك يستسلم ويموت، أو تمتلك الشجاعة وتقتل تلك الذاكرة وموتك يكون أثراً جانبيا لهذه المعركة- الضرورة، ليس إلا.
هذا الصراع كان حسمه هيّنا، لكن شرور العقل البشري أرادت له أن يستمر، شرور ما يسمى المجتمع الدولي، شرور الأخوة الأعداء من السوريين، شرور شركاء الثورة، وخصوصا من وضع نفسه في مراتب الآلهة، يقرر المصائر، ويقضي يميناً وشمالاً، وغيرها ممن يعرف تماماً معنى أن تكون الذاكرة ناقصة، أو مشوهة.
إذن يا صديقي، أن أكتب يعني أن افتح باباً مثل ذاك الذي يُفتح في “لا كوريدا دي توروس” وهنا أستعير التسمية الإسبانية لمصارعة الثيران حتى لا تُستفز الذاكرة أكثر وتعتقد أنني أشتمها. رغم أن المُصارع والثور كلاهما عملياً يدافع عن نفسه.
وهنا فإن فعل التسويف في الإجابة عن طلبك وكتابة المقال المطلوب ليس إلا حالة دفاعيّة وجودية تمنع إعطاء فرصة لتلك الذاكرة التي تتربص تحاول الانقضاض على ما بقي من الروح والتهام ما بقي من أزقة القلب القائمة ولم يدمرها برميل، أو تُهدم لنوّسع المقبرة.
نعم، المسموم بفطر الذباب قلتُ إن أمامه خياران أن يستسلم ويترك جسده كي يذبل ويستسلم أو يتجرأ ويسحب خيط الحياة بيده، وحقك أن تقول إن هذين الخيارين معهما خيار ثالث كما ذكرت في البداية، وهو العلاج، فلماذا طويته ولم تذكره؟
المسموم أمثالنا، يا صديقي، يعتبر العلاج شكلا من أشكال الخيانة، أحترم مثلا القائد العسكري الذي يبقى على الجبهة حتى بعد انكسارها، ينتظر الأعداء بصلابة ورزانة، يسوّي ثيابه، يعدّل قبعته العسكرية، يجلس بشموخ على الكرسي، يمسك مسدسه الحربي، ويضع في رأسه رصاصة. في الوقت الذي كان الطريق إلى الهروب مفتوحا.
وأنا أكتب لك هنا عن أسباب عجزي عن كتابة حرف واحد، ظلت الذاكرة السمجة فوق رأسي تراقب، بهدوء، وكلما أمعنت أكثر في الكتابة صارت أكثر هدوءً، توحي وتشي بشيء من الود. توقفت عن تسطير اعتذاري وكنت أريد استكماله كي يكون مقنعاً لا يثير سخطك توقفت و تفرست في الذاكرة الودودة الهادئة، لم أنتبه من قبل إلى تلك الأخاديد والملامح، كم تشبه في كثير تفاصيلها حلب، هل حدثتك عن حلب يا صديقي؟!