الأرشفة بوصفها سلاحاً
مَن الذي يؤرخ للذين لا تاريخ مكتوباً لهم ممن عانى وشُرد وعُذب، مَن يؤرخ للضحايا المنسييْن على هامش الأحداث الكبرى؟ هذه الأسئلة وسواها برزت عقب الحرب العالمية الثانية لتُطلق جهود تحويل شهادات أولئك الشفوية إلى “وثائق”، تكفل الحرص على أرشفتها بتحولها لاحقا إلى ركائز أساسية في عمل المؤرخين المحترفين، لأن ضياع الوثيقة ضياع للتاريخ، وفق ما خلصت إليه المدارس التاريخية الحديثة.
وعليه، فإن كتابة التاريخ في المستقبل هي عملية تبدأ في الحاضر، في اللحظة الراهنة وتجري تحت مظلة “التوثيق والأرشفة”، والأخيرة ليست مجرد عملية حفظ للوسائط والسرديات والمرويات، تتكفل بها في العقد الأخير، أو بجزء كبير منها، مواقع التواصل الاجتماعي ووسائط التخزين الإلكتروني، بل هي عملية تدقيق وتمحيص، إن الأرشفة بعبارة أبسط وأوضح، بحث وحفظ مسؤول نقدي وواع للحقائق، فحقائق الماضي، هي الميدان المشترك بين علمي التاريخ والاجتماع، وهو ما يُفضي إلى أن التوثيق والحالة هذه نشاط إنساني في جوهره، هو واجب والتزام أخلاقي في المرتبة الأولى.
إذن، فإن الأرشفة بوصفها عملية تجميع وحفظ، والتوثيق القائم على التدقيق والتحقيق الواعي، صنوان، الفصل بينهما يضر كليهما، مما يستوجب أن يسيرا معا في خطوات منطقية منظمة.
وتميّزُ تلك الخطوات عناصر منها على سبيل المثال لا الحصر، تبيان طبيعة المادة الموّثقة، ومنبعها الأول أي المصدر الأصيل، والسياق الذي استدعى ظهورها والحاجة إلى حفظها، والشرح الواضح لمضمونها، زماناً ومكاناً ومكونات، بما في ذلك من محتوياتها، المادية والبشرية، في وصف دقيق، وتمييز المعلوم منها والمجهول.
مسألة الأرشفة والتوثيق كما أسلفنا تُعد سلاحاً فعالاً من أسلحة الانتصار للحقيقة، وهي أداة أساسية للمهتمين في مجالات البحث والتأريخ، وهذا الأمر على ما فيه من أهمية، إلا أنه وفي ظروف معينة، يرتقي إلى القداسة، لأنه يصبح ملحاً ضرورياً لمسائل العدالة والإصلاح ونبذ الفساد والمفسدين.
وبناء على ذلك، تبرز الحالة السوريّة بوصفها نموذجاً مثالياً لتأكيد الحاجة الملحة إلى جهود “الأرشفة والتوثيق” بمعية خبرات ومهارات رصينة تتكفل بنتائج رصد الأحداث، تصويراً وكتابةً، وهو رصد شجاع تكفل به في الدرجة الأولى “الناشطون الإعلاميون”، قرروا في لحظة معينة، تحت شروط وجودهم في المكان والزمان الصحيح، تجنيب هذه اللحظة مقصلة النسيان والاندثار.
والمثال الأوضح عما سبق، “صور قيصر”، فالمصور العسكري مجهول الاسم، أدواته كانت تتمثل في أنه شاهد شجاع، راصد هام، وحافظ متمكن، إلا أن عملية تحويل محتوى ما سربه من صور اكتملت الغاية والفائدة منها، من خلال عملية أرشفة علمية دقيقة، دأبت على فرز الصور وتوثيقها بشكل منهجي علمي تحليلي، نتج عنها بيانات، ساعدت الباحثين والحقوقيين في ترجمة جهودهم إلى واقع، كُتبت الأبحاث ورٌفعت الدعاوى، وصدرت مذكرات توقيف، وصار للضحايا أسماء بعد أن كانوا مجرد أرقام عقب تعرف ذويهم عليهم، وصولا إلى إحراج واشنطن وإصدارها قانون حماية المدنيين، قانون قيصر، قيصر العقوبات التي انتصرت للضحايا من جلادهم.
الإشكالية في “أرشفة وتوثيق” العقد الأخير من تاريخ سوريا يعود إلى عوامل عدة في مقدمتها ازدحامه بالأحداث والتفاصيل، واكتفاء كل منطقة بتسجيل حوادثها بمعزل عن السياق العام، أي أن أول ما يمكن أن تساعد فيه عمليات ضخمة للأرشفة والتوثيق، أو تكاملها، هي رسم الصورة الكاملة لأهم فترة في تاريخ سوريا الحديث، المُساعدة للإجابة عن أي سؤال مستقبلا من قبيل: ماذا حدث وأين حدث ولماذا حدث وما هي تداعيات ذلك الحدث، وبدون هذه الأجوبة ستضيع الحقوق ويضيع التاريخ، وهنا تبرز أهمية سعي جهات عدة العمل الآن في محاولات لكتابة التاريخ الراهن.
من الضروري في هذه الآونة، سريعا ودون إبطاء، إن لم تُدعم جهود الأرشفة والتوثيق على نطاق واسع، البدء على الأقل بعملية تجميع وتصنيف وتبويب للمعلومات المكتوبة والمصورة، لأن الواقع يقول إن الضياع يُهدد ما جهد كثيرون بحفظه، وإيجاد آلية للتخزين وتنظيم بث ما جرى تجميعه، وهذه المهمة هي أيضا جزء من عملية التوثيق، ذلك يساعد في لفت انتباه جهات وأفراد، قد يثمر عن أشكال مفيدة من التعاون، تخدم بشكل رئيسي عملية التوثيق وتعززها.
إن العملية السابقة يجب أن تقوم على أساس مجموعة إجراءات تضمن تفحص المعلومات المُجمّعة أو المخزنة، و وضع رؤوس أقلام بخصوصها، تحوّلها إلى قائمة بيانات مُعلنة تساعد في وصول مختلف الجهات إليها، لتعرف بدقة ما الذي تريده منها وأي المعلومات التي تفيد تحقيق غايتها.
فعلى سبيل المثال، لو قرر ناشطون إعلاميون في مدينة إدلب، جمع ما لديهم من تسجيلات التقطت خلال عام واحد، واكتفائهم فقط بترقيم التسجيلات و وضع قائمة مبسطة بمثابة فهرس، تربط كل تسجيل بكلمات مفتاحية مثل: قصف، مستشفيات، قوات النظام، فإن هذا النظام يحوّل “موادهم” إلى بيانات تساعد على سبيل المثال “الأمم المتحدة” في الحصول على تسجيلات محددة خلال مدة محددة تتعلق بموضوع محدد، يُسهل لجان التحقيق فيها للاستنتاج والقول : إن قوات النظام خلال عام كذا، استهدفت العدد كذا من المراكز والمنشآت الطبية، في مخالفة صريحة لاتفاقية جنيف، هذه قد تكون خطوة باتجاه محكمة الجنايات الدولية.
كثيراً ما تبرز الحاجة خلال بحث أو تحقيق في مسألة ما في مكان ما اللجوء إلى ناشط بارز في تلك البقعة، وحين يُسئل عن هذه الحادثة، يقدم شهادة “شفوية” ويتعذر عليه إيجاد “التسجيلات” التي تدعم “شهادته” تحت مبرر ” الأرشيف عندي ضخم والبحث قد يستغرق وقتا طويلا”، وقد يكون محقا فلم يتوقع أحد أن تظل الكاميرات تدور لعشر سنوات، لكن هل لنا أن نتخيل كم يضر الحقيقة عدم بذل الحد الأدنى من عملية “الأرشفة والتوثيق” والمتمثلة “بتنظيم المعلومات” و فهرستها على أقل تقدير.
في مدينة حلب، دمر صاروخ باليستي ١٥٠ منزلا في منطقة أرض الحمراء، وهي منازل ذات مساحات صغيرة، وبعد رفع الأنقاض تحول مكان سقوط الصاروخ إلى ساحة خاوية. البيوت المُدمرة ملكيتها في حلب ليست مسجلة رسميا في السجل العقاري لأنها مناطق عشوائيات، وإثبات الملكية يكون من خلال “حكم محكمة” وهي وثيقة محفوظة في مكان ما في دار العدل- القضاء- المحكمة، هذا المكان تعرض لحريق تسبب بتلف الوثائق. الآن ما الذي يمنع السلطات لاحقا من اعتبار المساحة الخاوية أعلاه مجرد حديقة، وكأن بيوتا لم تُبن فوقها في يوم من الأيام؟
تسجيلات مصورة قد تفيد مستقبلا، التُقطت حينها بنية انتاج فيلم وثائقي.
وبناء على ما سبق، فإن “الأرشفة والتوثيق” في الحالة السورية، ترتقي إلى مستوى شكل من أشكال المقاومة، مقاومة الضياع، هي حاجة وجودية، وهويّة، ونافذة أمل لحفظ الحقوق، وترسيخ العدالة، إنها حائط الصد الأخير للدفاع عن الانسان السوري في مواجهة عمليات القتل والتغريب والتهجير واليأس.
تم دعم هذا التحقيق (الذي سينشر تباعاً) من قبل صندوق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتمويل الأعمال الاستقصائية NAWA -IF
المراجع
الموسوعة الحرة، ويكيبيديا
موسوعة التاريخ الشفوي- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مقدمة ابن خلدون
أسس التوثيق، نحو نظرية عربية في التوثيق، عزت السيد أحمد
التوثيق الإعلامي, محمد عبدالبديع السيد